q
والغاية من منع التعارض بين النصوص لمنع تعطيل حكم القانون وسيادة أحكامه، والأهم لمنع المعاناة الفردية أو الجماعية الناتجة عن انتهاك السلطات العامة للنصوص القانونية واعتدائها على المجال المحجوز للفرد أو الأسرة أو المجتمع لديمومة القيم الفردية أو الجمعية في الحياة العامة، وحماية النظام العام من التقلبات الاقتصادية...

تضمن النصوص القانونية لاسيما الدستورية منها الحقوق والحريات العامة والخاصة في العراق وفي جميع أنحاء العالم، بيد ان مشكلة التناقض أو التعارض الظاهري أو الحقيقي بين تلك النصوص يثير إشكالية أساسية مقتضاها (هل يتم تعطيل الحماية الدستورية، القانونية، القضائية، الشعبية، لتلك الحقوق والحريات)؟

فمن المحتمل جداً بالواقع العملي وجود حالة من التعارض أو التناقض بين نصين أو أكثر من النصوص المنظمة أو الضامنة لحقوق الشعب، ولابد من إيجاد حلول آنية ومستدامة لاسيما ان كان الدستور من النوع الجامد الذي يصعب أو يستحيل تعديله بشكل دوري، بعبارة أخرى لابد من التوفيق بين ما تقدم للإحاطة بالمشكلة والحد من آثارها الخطيرة.

وتبرز الإشكالية بشكل جلي حين تقدم السلطات الإدارية أو القضائية على تطبيق أو تنفيذ إجراءات أو قرارات من شأنها ان تحد من الحقوق أو توهن ضماناتها وتجعلها عرضة للانتهاك، لاسيما ان علمنا بأن المحاكم حينما تقوم بإصدار وإنفاذ قواعد القانون على المخالفين أو المتهمين تتخذ العديد من الإجراءات التي تحد من الحقوق وتحيد ضماناتها جانباً والأمر ذاته بالنسبة للإجراءات الإدارية التي تنطوي على إجراءات ضبط إداري.

وتبرز مخاطر يعتد بها حين يطرح السؤال مفاده هل ان هذا التعارض يعطل أم يلغي النص المنظم أو الضامن للحق أو الحرية؟ وبأي النصوص يعتد القاضي الدستوري أو العادي حين تعرض عليه الدعوى؟ وفي حالة الإجابة بالإيجاب هل يكون الاعتداد في جميع الأحوال سواء أكان التعارض حقيقي أم ظاهري؟ وهل يهمل النص القانوني أم يعطل فقط؟

لاشك عندنا ان لكل نص قانوني نطاق موضوعي وزماني ومكاني، فالأول يتمثل في الموضوعات التي ينظمها كما لو تعلق بالحق في الحياة أو الحرية الاقتصادية أو ما سواها أما النطاق الزماني فيتمثل بالمدى الزمني الذي ينفذ فيه هذا النص أهو أمد مفتوح في كل الأوقات أم محدد بوقت معين كأوقات الكوارث الطبيعية أو الحروب وغيرها وحين ذاك يمكن القول بالتوفيق أو إمكانية التعطيل من عدمه، أما المكاني فينصرف إلى تطبيق النص ضمن نطاق مكان محدد كالمحافظات أو الأقاليم.

والغاية من منع التعارض بين النصوص لمنع تعطيل حكم القانون وسيادة أحكامه، والأهم لمنع المعاناة الفردية أو الجماعية الناتجة عن انتهاك السلطات العامة للنصوص القانونية واعتدائها على المجال المحجوز للفرد أو الأسرة أو المجتمع لديمومة القيم الفردية أو الجمعية في الحياة العامة، وحماية النظام العام من التقلبات الاقتصادية والاجتماعية، ولما تقدم فإن اختلاف الحكم بين نصين دستوريين أو قانونيين اختلافاً لفظياً أو اختلافهما بالمفهوم أو النطاق سواء أكان هذا الاختلاف من أول لحظة عند صدور النص الدستوري أو القانوني أم كان سبب ظهوره التعديلات التالية التي تطرأ على القواعد القانونية، فهناك تفاوت زمني بين النصوص يسبب بالعادة ما تقدم.

ويمكن حل هذا الإشكال حينما يكون هنالك فارق بين القيمة القانونية للنصوص فحينما يتعارض نص دستوري مع نص قانوني أخر يمكن استبعاد الأخير وتطبيق النص الدستوري بوصفه الأسمى أو الأعلى، وكذا الأمر في حال حصول تعارض ما بين نص في نظام أو لائحة مع نص قانوني وارد في القوانين العادية المشرعة من البرلمان أو نص وارد في الدستور فيطبق الأخير طبقاً لما يأمر به مبدأ المشروعية وضرورات سيادة حكم القانون.

بيد أن الأمر يزداد صعوبة حينما يكون التعارض بين نصين من مرتبة واحدة فكلاهما قد يكون وارد في الوثيقة الدستورية أو في قانون أو في نظام أو لائحة، ويظهر التعارض داخل الوثيقة الدستورية حينما يكون هنالك نصان يتعلقان بالموضوع ذاته سواء أكانا قد شرعا في وقت واحد أو تعاقبا من خلال التعديلات المتتالية التي ترد على النصوص القانونية كما لو قامت السلطة التأسيسية الأصلية بتعديل الوثيقة الدستورية، ومن الواضح أن هنالك صور عديدة للتعارض بين القواعد الدستورية:

أولها: التعارض الظاهري: ويقصد به التعارض بين القواعد الدستورية فيما بينها بشكل ظاهري وليس حقيقي.

وثانيهما: التعارض الحقيقي: ويقصد به ان القواعد الدستورية تتعارض فيما بينها بشكل حقيقي مما يجعل السلطات العامة في حيرة من أمرها إزاء تنفيذ النصوص فأيها تقدم وأيهما تعطل فتظهر الحاجة الحقيقية إلى القضاء الدستوري ليكشف عن الإرادة الضمنية للمؤسس الدستوري لرفع التعارض وإرساء حكم قانوني يتفق مع الإرادة العامة.

وعلى سبيل المثال ورد في إعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي لعام 1789 الذي يعد جزءً لا يتجزأ من دستور فرنسا النافذ لعام 1958 بان الملكية حق مصون ومقدس ولا يمكن ان يحرم منها أحد إلا عند الضرورة، وورد في مقدمة الدستور الفرنسي للعام 1946والتي تعد هي الأخرى جزءً من دستور فرنسا النافذ للعام 1958 بأنه يمكن للمشاريع الاستثمارية ان تحتكرها فعليا الدولة وتصبح مملوكة كلياً للدولة، نلاحظ ان النصين المتقدمين في ظاهرهما هنالك تعارض بيد ان الفقه الدستوري الفرنسي يعتقد ان التعارض ظاهري إذ يمكن ان تكون العلاقة بين النصين المتقدمين علاقة الخصوص بالعموم.

كما ان الدستور العراقي لعام 2005 برزت فيه العديد من النصوص المتعارضة ظاهريا أو حقيقةً إذ ورد في المادة (38) بان حرية التعبير عن الرأي مكفولة للشعب العراقي وبكل الوسائل، بيد ان الدستور أعطى أمثلة لحق التعبير كالتظاهر والاجتماع والنشر والإعلام والإعلان وسكت عن الحق في الاضراب بوصفه طريق آخر من طرق التعبير فتساءل المختصون هل هو حق دستوري مكفول أم جريمة حسبما بين قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المعدل المادة (364) رغم ان كلا الاحتمالين وارد بوصف هذا الفعل يعد وسيلة للتعبير من جهة، ومن جهة أخرى حظر الاضراب ضرورة لضمان سير المرافق العامة بانتظام واستمرار ما يحقق المصلحة العامة، أو بعبارة أخرى يمثل الاضراب انتصارا لمصلحة الفرد الخاصة الراغب بالتعبير عن الرأي بيد ان امتناعه عن العمل قد يعرض حياة الأفراد الآخرين والمجتمع لخطر جسيم، كما من شأنه ان يضر بمصلحة رب العمل في القطاع الخاص.

والتعارض قد يكون سابقاً أو معاصراً وقد يكون لاحقاً، بعبارة أخرى قد يكون سابقاً للوثيقة الدستورية حينما تكون هناك مبادئ دستورية عامة ملزمة وتشكل جزء من العقد الاجتماعي الذي يوصف بدستور المجتمع أو معاصراً حينما تتضمن الوثيقة الدستورية تعارضاً بين نصوصها، ويمكن أن يكون لاحقاً حينما يتم تعديل الدستور من قبل السلطة التأسيسية الأصلية أو حينما يكون هناك محاولة من المشرع لتنفيذ أحد النصوص بإصدار قانون أو نظام تنفيذي، بيد ان هذا القانون يسلب من النص الدستوري مضمونه وبالتالي يتناقض مع ما ورد بالمادة (46) من الدستور العراقي للعام 2005.

أخيرا فان التعارض له العديد من الأسباب أهمها تنوع مصادر القاعدة الدستورية الضامنة لحقوق الإنسان فهي متنوعة ومتعددة وليست واردة فقط في الوثيقة الدستورية فحسب فالبعض منها يضمن في الأحكام القضائية الصادرة عن المحاكم الدستورية، والبعض الآخر منها يضمن فيما يصدر عن المشرع العادي من تشريعات مكملة للوثيقة الدستورية والعرف الدستوري الناشئ عن التطبيقات اليومية للسلطات العامة لمهامها ووظائفها وغير ما تقدم كثير، ومن المحتمل أن يكون هنالك نوع من التعارض ما بين القواعد المستفادة مما تقدم والنص القانوني النافذ، كما ان التغيرات التي تطرأ على الظروف المحيطة بالسلطات العامة من الواضح أنها تلقي بظلالها على القواعد الدستورية الضامنة للحقوق والحريات نتيجة التقلبات التي تصيب الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

كما ان الفلسفة التي يؤمن بها القابض على السلطة هي الأخرى تؤثر بشكل واضح على القواعد الدستورية ولا ينحصر أثر الاختلاف في الفلسفة على الوثيقة الدستور فحسب على مجمل النظام السياسي والقانوني ما ينجم عنه تعطيل لنصوص دستورية تؤسس للحقوق والحريات العامة والخاصة لاسيما ان كان الحاكم يميل إلى النظام الاستبدادي أو يفضل تكريس وتركيز السلطة بيد السلطة المركزية بالعاصمة أو ما شاكل ذلك.

وتظهر تجليات ما تقدم ان طالعنا نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 التي حملت في ثناياها تناقضات يمكن ان يستثمرها البعض لتعطيل الضمانات اللازمة لحقوق الشعب العراقي فقد تضمنت المادة الأولى أن نظام الحكم في البلاد ديمقراطي اتحادي برلماني بينما نجد ان هنالك تعطيلا للنصوص الدستورية الضامنة لبرلمانية النظام، ومنها مثلا عدم تشكيل مجلس الاتحاد المنصوص عليه بالمادة (65) لغاية وان المادة المتقدمة أشارت إلى تنظيم المجلس بقانون يصدر عن مجلس النواب، وهنا يحق التساؤل لما كان مجلس الاتحاد المجلس الأعلى فكيف ينظم تشكيله واختصاصاته المجلس الأدنى!!

وما أشارت إليه المادة الثانية من الدستور بأن لا يصح تشريع قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام وبالفقرة الأخرى يشير المشرع الدستوري إلى عدم جواز إصدار تشريع يتعارض مع مبادئ الديمقراطية فالنظام المصرفي والمالي القائم على الفوائد المصرفية الربوية التي أنهكت المقترضين العراقيين تخالف ثوابت أحكام الإسلام إلا أنها لا تتعارض مع المبادئ الديمقراطية القائمة على تغليب الاقتصاد الحر.

أضف لما تقدم فان المادة الخامسة عشرة تنص على انه لكل فرد الحق في الحياة والحرية والأمن ولا يجوز الحرمان منها أو تقيدها إلا بقانون وبناءً على قرار قضائي، بينما تنص المادة السادسة والأربعين على انه لا يكون تقييد ممارسة إي من الحقوق والحريات الواردة في هذا الدستور إلا بقانون أو بناءً عليه على ان لا يمس ذلك جوهر الحق أو الحرية، وهنا نتساءل لما يهمل المشرع العراقي إصدار قوانين تستبدل العقوبات القاسية التي تنتهك أصل الحق في الحياة والحرية ألا يعد ذلك تعارضا مع القواعد الأسمى واجبة التطبيق.

..........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات/2009-Ⓒ2023
هو أحد منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية، كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات، ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف الاتجاهات...
http://ademrights.org
[email protected]
https://twitter.com/ademrights

اضف تعليق