q
ممارسة الحياة اليومية تمثل ساحة الاختبار لامكانية خلق البديل الأحسن للواقع السيئ، وكما معروف عن سهولة الهدم دون البناء، والكلام دون التطبيق العملي، فان الحديث عن المساوئ والثغرات أسهل بكثير من العمل لسد هذه الثغرات، واذا كان ثمة تفكير في هذا الاتجاه فانه يكون بطريقة تحميل الآخرين مسؤولية المبادرة والعمل...

الناس المعتادة على الدولة الشمولية التي تقسم لهم ليس فقط معاشهم، وإنما تنظم لهم سلوكهم وطريقة حياتهم، دائماً تستذكر الحكام المستبدين بالخير عندما تصدعهم فوضى السير في الشارع، وأصوات الرصاص في بعض المناسبات، وظواهر شاذة اخرى في ظل النظام الديمقراطي، مفضلين النظام والانضباط في ظل الديكتاتورية على قضايا كبيرة صعبة التطبيق مثل؛ حرية الرأي، والتعبير، والعدالة والمساواة.

وقد بحث العلماء والمهتمون في أمر هذا التناقض بالموقف إزاء النظام والأمن والانضباط في ظل الحكم الديكتاتوري غير المحترم لحقوق الانسان، والموقف من النظام الديمقراطي المنبثق من إرادة الناس، والذي يروه من أسباب تفشي الفوضى في حياتهم، فهل يعني أن الفوضى قدرهم، وأن النظام امراً طارئاً يفرضه الحاكم القوي؟ أم أن ثمة معادلة أخرى قادرة على حل هذه العقدة النفسية والاجتماعية والسياسية ايضاً؟

السكوت عن الفوضى والحديث عن النظام

من الناحية النفسية يحمل الانسان نزعة التمرّد، وفي نفس الوقت نراه يشمئز من افرازات ما يقوم به عندما يراها على أرض الواقع، فيعرب عن تبرؤه فوراً من كل ما هو سلبي، ويدعي وصلاً بالإيمان والأخلاق وكل قيم الحق والفضيلة، نفس الأمر نراه في نزعة حب المال، وحب الحياة والخلود، ولكنه في ظروف معينة يتحول الى مضحي مقدام، يضع روحه على كفّه مهرولاً نحو سوح القتال في سبيل أهداف عظيمة، او يكون أول المبادرين للأعمال الخيرية. 

هذه الثنائية المتقابلة في النفس البشرية يبينها القرآن الكريم كإحدى صفات الانسان وكيف يكون كفوراً، وظلوماً، وعجولاً، ثم في لحظة صحوة او هداية يكون في أعلى عليين ضمن الخطة السماوية المرسومة بإتاحة الفرصة لاختيار أحد "النجدين": إما نحو التكامل او نحو التسافل، و إما نحو الإيمان والحق، أو نحو الكفر والباطل. 

ممارسة الحياة اليومية تمثل ساحة الاختبار لامكانية خلق البديل الأحسن للواقع السيئ، وكما معروف عن سهولة الهدم دون البناء، والكلام دون التطبيق العملي، فان الحديث عن المساوئ والثغرات أسهل بكثير من العمل لسد هذه الثغرات، واذا كان ثمة تفكير في هذا الاتجاه فانه يكون بطريقة تحميل الآخرين مسؤولية المبادرة والعمل، وربما توجيه أصابع الاتهام واللوم الى جهات او اشخاص مسببين للفساد والفوضى، وهذا يدفعنا للسؤال عن سبب سكوتنا عن الفوضى؟

ربما تكون ثمة اسباب خلف هذه الحالة نذكر منها:

1- الخشية من عواقب الاصطدام بمن لا يرغب بالنصح والإرشاد الى النظام لاسباب ذاتية، او تتعلق بالوضع الاجتماعي والسياسي العام، كما يعلل البعض اسباب الفوضى الى نمط الحكم، وطريقة تعامل الدولة مع المواطنين، وأنها تجبر المواطن في بعض الدوائر، وبشكل غير مباشر لدفع الرشوة لتمشية المعاملة، او ما يتعلق بفوضى استهلاك الماء والكهرباء، حيث يمتنع الكثير من دفع أية فواتير بسبب عدم تجهيز الكهرباء على مدار 24ساعة، بما يعني أن سبب الفوضى في الاستهلاك تتحمله الحكومة! 

هذا الى جانب مسألة المحاصصة السياسية في مؤسسات الدولة، مما يجعل الحديث عن النظام والالتزام بالقوانين أشبه ما يكون بصور ذهنية ومثالية لا صلة لها بالواقع.  

2- واقع الفوضى المصطنع في العراق، وربما في عديد الدول المأزومة في بلادنا الاسلامية، تمثل مادة اعلامية خصبة قابلة للتدوير والتكرير تغذي بعض القنوات الفضائية ومواقع الانترنت، وايضاً؛ وسائل التواصل الاجتماعي الرديفة لوسائل الاعلام تلك، بالاخبار والتقارير والمقالات الجاذبة للقارئ، وهي تتحدث عن حالة التمرّد الانساني على القيم الأخلاقية والدينية في اخبار عن القتل، والانتحار، والاغتصاب، والانتقام، والسرقة.

ليس المقصود أن وسائل إعلام بعينها تتبنى هذا المنهج بشكل رسمي في مشروعها الاعلامي، بقدر ما يندرج هذا النوع من العمل ضمن نشاط مراسليها ومدوبيها المتواجدين في الاوساط الاجتماعية والحكومية، بدعوى البحث عما تحاول الحكومة إخفائه عن الناس، او ان تكون هذه الوسيلة الاعلامية، او ذاك الاعلامي مرآة يعكس الواقع والحقيقة كما هي.

ويشترك في هذه المهمة شريحة من رواد التواصل الاجتماعي في فتح حسابات همها نشر كل ما يثير المشاعر ويجذب المتابعين بالاعجابات والتعليقات ذات النفس السلبي. 

3- الدعوة الى النظام والانضباط ليس شعاراً يُرفع وكلمة تقال، بقدر ما هي ثقافة عامة ومنهج تربوي يشمل جميع افراد المجتمع، ومن اجل نجاحه نحتاج تظافر جهود المدرسة والأسرة، والاعلام، الى جانب مؤسسات الدولة، وبما يعني أننا أمام مشروع يستغرق وقتاً طويلاً مع صبرٍ وطول أناة، كون المسألة تمثل عملية بناء ثقافي لافراد المجتمع.

النظام بإرادة جماهيرية 

ربما تشير تجارب أنظمة الحكم في العالم الى نجاح الاحتكام الى القوة لفرض القانون والنظام العام، وهو ما يتفق والطبيعة الانسانية الى حدٍ ما، فحتى الشرائع السماوية تنزل الى البشر مصحوبة بالثواب والعقاب، في نفس الوقت تتضمن فرصة ذهبية لكسب الثواب والامتيازات في الدنيا والآخرة من خلال تفعيل الوازع الذاتي و يقع تحت عنوان "الأخلاق" وهي حالة نفسية تخلق حافزاً للإيمان والالتزام دون الحاجة للتهديد بالعقاب في شطر مهم من حياة الانسان. 

وفي الآونة الاخيرة أدرك علماء القانون والاجتماع في الغرب خطل الاعتماد كليةً على مبدأ القوة لإلزام الناس على النظام واحترام القانون في وقت لا يعرف فيه الانسان كيف يُلزم نفسه بنفسه، ولا أدلّ على هذا مما حصل في غير بلد في العالم من استباحة المتاجر والاسواق وانتشار الفوضى لمجرد غياب القانون لساعات قليلة ولاسباب معينة، كأن يكون انقطاع التيار الكهربائي، او اندلاع تظاهرات احتجاجية، فالذي يدفع الانسان في هذا البلد او ذاك حالياً لأن يكون منضبطاً في الشارع وفي محيط العمل، ليس الدوافع الذاتية ولاحترام حقوق الآخرين، وإنما خوفاً من التعرض للعقاب او الغرامة المالية. 

ومثالاً آخر من بلداننا، ومنها؛ العراق، فان وجود المرأة او الفتاة في ساعات المساء في الشارع او الاسواق أمراً طبيعياً لأنها تخرج مطمئنة نفسياً من أنها لا تتعرض لأي هجوم او اعتداء من شخص كما هو الحال في كثير من دول العالم، وكذا الأمر بالنسبة للأمن في الاسواق والمحال التجارية، ما خلا بعض حالات السرقة واللصوصية التي تحدث في كل زمان ومكان. 

وكما أن الأخلاق والوجدان والضمير يدفع لفعل الخير كمساعدة الآخرين، واحترام حقوقهم وحرماتهم، فان هذا الوازع من شأنه المساعدة على تحقيق الأمن والنظام في المجتمع بما يعضد عمل مؤسسات الدولة والاجراءات الحكومية، بدلاً من أن يكون افراد الشرطة او الاستخبارات او المرور، وسائر المسؤولين في الدوائر الخدمية وحيدين في الساحة يطاردون الجناة ومنتهكي القانون، وربما يضطرون لاتخاذ اجراءات تخرج عن الصالح العام، وتخلق أجواء التوتر وعدم الثقة والازعاج مع افراد المجتمع، مما يسبب في خلق الفجوة القاتلة بين هؤلاء والاجهزة الامنية –تحديداً-، ومن ثم انتشار الجريمة وانتهاك القانون، وبالمحصلة انتشار الفوضى، وفي أحسن الحالات يحاول البعض الاحتيال على القانون لأنهم يرونه يحقق مصالح الحكومة والطبقة السياسية أكثر مما يحقق مصالحهم ويلبي احتياجاتهم.

اضف تعليق