q
اقتصاد - تنمية

التنمية حرية

نقص الحريات الموضوعية مقترِنٌ مباشَرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية لإشباع ما يُعانونه من جوع، أو حقهم في الحصول على الغذاء الكافي، أو الحصول على العلاج اللازم لأمراضٍ قابلة للشفاء، أو الحصول على فرصةٍ تُهيِّئ لهم لباسًا أو مَأوًى ملائمًا، أو الحصول...

نؤكد هنا أن التنمية يمكن النظر إليها باعتبارها عملية تَوسُّع في الحريات الحقيقية التي يَتمتَّع بها الناس. وإن التركيز على الحريات البَشرية يَتناقَض مع النَّظريَّات ضَيِّقة الأفق في التنمية؛ من مثل القول بتطابق التنمية مع نمو مُجْمَل الناتج القومي، أو مع زيادة الدخول الشخصية، أو مع التصنيع، أو مع التقدم التِّقَاني أو مع التحديث الاجتماعي. نعم، يمكن بطبيعة الحال النظر إلى زيادة إجمالي الناتج القومي أو زيادة دخول الأفراد باعتبارها أدوات مهمة جدًّا لتوسيع نطاق الحريات التي يَتمتَّع بها أبناء المجتمع، ولكن الحريات تتوقف أيضًا على مُحدِّداتٍ أخرى؛ مثل التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية «مثل مرافق التعليم والرعاية الصحية»، وكذلك الحقوق السياسية والمدنية «مثل حرية المرء في المشارَكة في المناقَشات وعمليات التحقق العامة»، ونذهب بالمثل إلى أن التصنيع، أو التقدم التقاني، أو التحديث الاجتماعي يمكن لها أن تُسهِم موضوعيًّا في توسيع نطاق الحرية البشرية، ولكن الحرية رَهْن مُؤثِّرات أخرى في الوقت نفسه. 

وإذا كانت الحرية هي ما تُقدِّمه التنمية إذن هناك حُجَّة رئيسية تُدعِّم التركيز على هذا الهدف الأشمل بدلًا من التركيز على بعض الوسائل الجزئية، أو على عددٍ من الأدوات التي يَجري انتقاؤها عمدًا، ولا ريب في أن النظر إلى التنمية في ضوء التوسع في الحريات الموضوعية من شأنه أن يُوجِّه الأنظار إلى غاياتٍ تجعل التنمية حدثًا مهمًّا بدلًا من التوجُّه إلى عددٍ من الوسائل التي لها، مع غيرها، دور بارز في العملية.

تستلزم التنمية إزالة جميع المصادر الرئيسية لافتقاد الحريات: الفقر، والطغيان، وشُح الفرص الاقتصادية، وكذا الحرمان الاجتماعي المُنظَّم، وإهمال المرافق والتسهيلات العامة، وكذا عدم التسامح أو الغُلُو في حالات القمع. والمُلاحظ أنه على الرغم من الزيادات غير المَسبوقة في إجمالي الثروات، إلا أن العالَم المعاصر يُنكِر أبسط الحريات على أعدادٍ مهولة من البشر، بل أكاد أقول على الغالبية من البشر. ونشهد أحيانًا أن نقص الحريات الموضوعية مقترِنٌ مباشَرة بالفقر الاقتصادي الذي يسلب الناس حقهم في الحرية لإشباع ما يُعانونه من جوع، أو حقهم في الحصول على الغذاء الكافي، أو الحصول على العلاج اللازم لأمراضٍ قابلة للشفاء، أو الحصول على فرصةٍ تُهيِّئ لهم لباسًا أو مَأوًى ملائمًا، أو الحصول على ماءٍ عذب نقي، أو مَرافق صحية، ونجد في حالاتٍ أخرى أن افتقاد الحريات وثيق الصلة بالافتقار إلى المرافق العامة والرعاية الاجتماعية؛ من مثل: غياب برامج للقضاء على الأوبئة، أو برامج لترتيباتٍ مُنظَّمة للرعاية الصحية، أو المرافق التعليمية، أو المؤسَّسات الكفء لِصَون السِّلْم المَحَلِّي وحِفْظ النظام. ونشهد في حالاتٍ أخرى أن انتهاك الحريات يَنْتُج مباشرة عن إنكار نُظُم الحكم التسلطية للحريات السياسية والمدنية، كما يَنتُج عن القيود المفروضة على حق المشارَكة الحرة في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية للمجتمع.

الفعالية والترابطات المتبادَلة

الحرية أمرٌ محوري لعملية التنمية-التطوير لسببين متمايزين:

(١) السبب القيمي: تقييم التقدم يَتعيَّن أساسًا أن يكون في ضوء بيان ما إذا كانت حرية الشعب تَحظى بالتأييد والمساندة.

(٢) الفعالية: إنجاز التنمية-التطوير يتوقَّف بالكامل على الفعالية الحرة للشعب.

وأشرت في السابق إلى الحافز الأول: السبب القيمي للتركيز على الحرية، وإذا شئنا متابعة وبيان السبب الثاني المتعلق بالفعالية والكفاءة، فإن علينا النظر إلى الروابط التجريبية ذات الصلة، خاصة الروابط التي تُحَقِّق دعمًا مُتبادَلًا بين الحريات على مختلف ضروبها، إنه بسبب هذه الارتباطات المتداخلة التي سنسعى إلى استكشافها، تظهر الفعالية الحرة أو المستدامة كقاطرةٍ رئيسية للتنمية. وجديرٌ بالملاحَظة أن الفعالية الحرة ليست وحدها فقط جزءًا «تكوينيًّا أساسيًّا» من التنمية، بل إنها أيضًا تُسهِم في تعزيز فعالية العناصر والقوى الحرة من الأنواع الأخرى، وإن الروابط التجريبية التي سَتَسْتَكشِفها بتوسعٍ هذه الدراسة تَجْمَع بين وجْهَيِ الفكرة بشأن «التنمية من حيث هي حرية».

وإن العلاقة بين الحرية الفردية وإنجاز التنمية الاجتماعية تتجاوز الرابطة التكوينية -على أهميتها- ونرى أن ما يمكن للناس أن يُنجِزوه إيجابيًّا يتأثر بالفُرص الاقتصادية وبالحريات السياسية، وبالقوى الاجتماعية وبالشروط المُيَسَّرة لضمان صحة جيدة، وبالتعليم الأساسي، وبتشجيع وغرس ثقافة المبادرات، كذلك فإن التنظيمات السياسية لهذه الفُرَص تَتأثَّر هي أيضًا بممارَسة الناس لحرياتها ومن خلال حرية المشاركة في الخيار الاجتماعي وفي اتخاذ القرارات العامة الدافعة إلى تَقدُّم هذه الفرص، وسوف نبحث هنا أيضًا هذه الروابط المتداخلة.

بعض الأمثلة التوضيحية:

(١) الحرية السياسية ونوعية الحياة

يمكن توضيح الفارق عند رؤية الحرية باعتبارها الغايات الأساسية للتطوير والتنمية بعددٍ قليل من الأمثلة، وعلى الرغم من أن المرمى الكامل من هذا المنظور لا يتضح إلا بعد دراسةٍ تحليلية أكثر شمولًا، إلا أن الطبيعة الجذرية لفكرة «التنمية باعتبارها حرية» يمكن توضيحها في سهولةٍ من خلال عدد من الأمثلة البسيطة.

أولًا: المُلاحظ في سياق الآراء ضَيِّقة الأفق التي تنظر إلى التنمية في ضوء زيادة إجمالي الناتج القومي أو التصنيع، نواجه كثيرًا سؤالًا عمَّا إذا كانت بعض الحريات السياسية أو الاجتماعية المُعيَّنة؛ مثل حرية المشاركة، أو الانشقاق السياسي، أو فُرَص الحصول على التعليم الأساسي، من شأنها أن تُساعِد أوْ لا تساعد على «تحقيق التنمية»، ولكن في ضوء نظرة أكثر أساسية إلى التنمية، تبدو هذه الطريقة في صياغة وطرح السؤال تميل إلى إسقاط الفهم المهم بأن هذه الحريات الموضوعية (أعني حرية المشاركة السياسية، أو فرص الحصول على التعليم الأساسي، أو على الرعاية الصحية) هي مِن المكوِّنات التأسيسية للتنمية، وإن صلتها الوثيقة بالتنمية ليست بحاجةٍ إلى تقويمٍ جديد من خلال إسهامها غير المباشر لإنجاز زيادة إجمالي الناتج القومي أو من خلال النهوض بالتصنيع، علاوة على هذا فإن هذه الحريات والحقوق كما يَحدُث عادة، ذات فعالية كبيرة أيضًا للإسهام في التقدم الاقتصادي، ولكن إذا كانت العلاقة السببية مُهِمَّة حقًّا، إلا أن الدفاع عن الحريات والحقوق الذي تَشترِطه هذه الرابطة السببية يَفوق الدَّور التأسيسي لهذه الحريات في مجال التنمية.

مثالٌ توضيحي ثانٍ يَتعلَّق بالتنافر بين نصيب الفرد من الدَّخْل (حتى بعد وضع التغيرات في الاعتبار) وحرية الأفراد في الحصول على حياةٍ أطول وأَيْسَر؛ مثال ذلك أن مواطني الجابون، أو جنوب أفريقيا، أو ناميبيا، أو البرازيل ربما يكونون أكثر ثراء من حيث نَصيب الفرد من إجمالي الناتج القومي قياسًا إلى مُواطِني سريلانكا، أو الصين، أو ولاية كيرالا في الهند، ولكن هؤلاء الأخِيرين يَحْظَون بفُرصٍ موضوعية أعلى من الآخَرِين.

ولنأخذ مثالًا من طرازٍ آخَر، كثيرًا ما يقال إن الأمريكِيِّين الأفارقة في الولايات المتحدة فُقراء نسبيًّا بالمُقارَنة بالبيض الأمريكِيِّين، على الرغم من أنهم أغنى كثيرًا من بعض أبناء العالَم الثالث، ولكن من المهم أن نعترف بأن الأمريكِيِّين الأفارقة فُرصَتهم لبلوغ سِنٍّ متقدمة أقل بشكلٍ مُطْلَق من آخَرِين في كثيرٍ من مجتمعات العالَم الثالث مثل الصين أو سريلانكا أو بعض أنحاء الهند «حيث تُوجد ترتيبات مختلفة بشأن الرعاية الصحية والتعليم وعلاقات مجتمعية»، وإذا كانت الدراسة التَّحليلية للتنمية وثيقة الصلة بالموضوع هنا فإن وجود مثل هذه المُفارَقات بين الجماعات داخل البلدان الأغنى يمكن النظر إليها باعتبارها مظهرًا مهمًّا لفهم التنمية والتَّخلُّف.

(٢) المُعامَلات والأسواق وافتقاد الحرية الاقتصادية

مثالٌ توضيحي ثالث يَتعلَّق بِدَور الأسواق كجزءٍ من عملية التنمية. إن قدرة آلية السوق على الإسهام في تحقيق نمو اقتصادي كبير وفي التَّقدُّم الاقتصادي في عمومه حقيقة تحظى باعترافٍ واسع النطاق - عن صواب - في الدراسات المُعاصرة عن التنمية، بيد أننا نُخطئ إذا فهمنا منزلة آلية السوق بالمعنى الثانوي فقط، ونَذكُر ما أشار إليه آدم سميث من أن حرية التَّبادُل والمُعامَلات هُما جزء مُكمِّل ومقوم للحريات الأساسية التي يحق للناس أن يُصدِروا تقييمًا بشأنها.

كذلك فإن الوقوف بشكلٍ عام ومُطلَق ضد السوق لن يقل شذوذًا وغرابة عن الوقوف بشكلٍ عام ومُطلَق ضد المحادثات بين الناس، «هذا على الرغم من أن بعض المحادثات ظاهرة السخف تُثير مشكلات للآخَرِين، وربما للمتحدثين أنفسهم»، إن حرية تَبادُل الكلمات أو السِّلع أو الهدايا ليست بحاجةٍ إلى تبريرٍ دفاعي تأسيسًا على ما لها من نتائجٍ مواتية وإن كانت بعيدة، إنها جزءٌ من وسيلةٍ وأسلوب حياة الناس في المجتمعات والتفاعل فيما بينهم (ما لم توقف بقانون أو أمر سُلطوي)، ولا ريب في أن مُساهَمة آلية السوق في النمو الاقتصادي أمرٌ مهم، بيد أن هذا أمرٌ تالٍ من حيث الأهمية المباشرة للاعتراف بحرية تَبادُل الكلمات والسلع والهدايا.

وكما هو الحال، فإن رفض حرية المشارَكة في سوق العمل هو أحد الوسائل لإبقاء الناس خاضِعين للسُّخْرة والعبودية. وغنيٌّ عن البيان أن المعركة ضد افتقاد الحرية الناجمة عن العمل الإلزامي أمرٌ مهم في كثيرٍ من بُلدان العالَم الثالث اليوم، لأسبابٍ بعضها يعادل أسباب الحرب الأهيلة الأمريكية من حيث الخطر والأهمية. وإن حرية دخول الأسواق يمكن أن تكون هي ذاتها مُساهَمة للتنمية بِغضِّ النظر عمَّا يمكن أن تفعله أو لا تفعله آلية السوق لدعم النمو الاقتصادي أو التصنيع. والواقع أن ما أعرب عنه كارل ماركس من مديحٍ للرأسمالية (وهو ليس من كبار المعجبين بالرأسمالية بوجهٍ عام) وتشخيصه (في كتاب رأس المال) للحرب الأهلية الأمريكية، إذ وصفها بأنها «من أهم أحداث التاريخ المعاصر»، إنما يرتبط مباشرة بأهمية حرية عقد العمل كنقيضٍ للعبودية والاستبعاد القسري من سوق العمل. وتشتمل التحديات الحاسمة للتنمية في كثيرٍ من البلدان النامية والتي سنناقشها فيما بعد، الحاجة إلى تحرير العمل من السخرة الصريحة أو المُقنَّعة والتي تُنكِر على قوة العمل حق دخول سوق العمل الحرة. كذلك بالمثل فإن حظر الوصول إلى أسواق الإنتاج يندرج غالبًا ضمن مظاهر الحرمان التي يعاني منها كثيرون من صغار الزراع والمنتجين المناضلين بسبب التنظيمات والقيود التقليدية المفروضة، وتسهم حرية المشاركة في التبادل الاقتصادي بدورٍ أساسي في الحياة الاجتماعية.

إن إبراز هذا الاعتبار الذي يغفله الباحثون في غالب الأحيان لا يعني إنكار أهمية الحكم على آلية السوق حكمًا شاملًا تأسيسًا على كل أدوارها وآثارها المترتبة عليها بما في ذلك دورها وأثرها في توليد نموٍّ اقتصادي بل وتحقيق مساواة اقتصادية بموجب ظروف كثيرة، ويتعين علينا أيضًا من جانبٍ آخر بحث ودراسة اطِّراد مَظاهر الحرمان بين قطاعاتٍ اجتماعية تظل مُستبعَدة ومُستَثْناة من منافع المجتمع الخاضع لتَوجُّه السوق، والمُستَثناة من الأحكام العامة بما فيها من انتقاداتٍ يمكن أن يوجهها الناس إزاء أساليب الحياة والقيم المقترنة بثقافة الأسواق.

 إننا إذ نرى التنمية حرية، فإن هذا يقضي بأن نضع في الاعتبار وأن نقيم على نحوٍ ملائم وصحيح حجج الجوانب الأخرى، وكم هو عسير الظن بأن أي عملية للتنمية الموضوعية يمكن أن تمضي وتَتحقَّق دون دَور الدَّعم والمُساندة الاجتماعيين، أو التنظيم العام، أو دور إدارة الدولة، حين يكون بإمكان السوق أن تُثري - لا أن تُفْقِر - حياة البشر. ويُهيِّئ النَّهْجُ المُستخدَم هنا منظورًا أوسع وأشمل بشأن الأسواق بدلًا من نهجٍ يَعمد دائمًا إما إلى الدفاع عن أو لَوْم آلية السوق.

وأَود أن أختم هذه الأمثلة التوضيحية بمثالٍ آخر يتعلق بذكرى خاصة من حياة طفولتي. ذات يومٍ وبينما كنت في حوالي العاشرة من العمر كنت ألعب فيما بعد الظهيرة في حديقة الأسرة في مدينة دَكَّا، عاصمة بنجلاديش الآن، واندفع آنذاك رجلٌ عبر البوابة يصرخ بطريقةٍ تثير الألم والرثاء وينزف دمًا بغزارةٍ، طَعنَه آخَرُ بسكينٍّ في ظَهْره، كانت تلك أَيَّام الاضطرابات وأحداث الشَّغب «بين الهندوس والمسلمين إذ يقتلون بعضهم بعضًا»، التي سبقت الاستقلال وتقسيم البلاد إلى الهند وباكستان، ويسمى الرجل الجريح «قادر ميا»، وهو مسلم عامل بأجرٍ يومي، وكان قد أتى للعمل في منزلٍ مُجاوِر لنا مقابل أجر زهيد جدًّا، ولكن طعنه سفاحٌ بسكينٍّ أثناء سيره في الطريق في منطقتنا التي تسكنها غالبيةٌ من الهندوس. ناولتُه بعض الماء دون أن يكف عن الصراخ طالبًا النجدة من كبار السن المقيمين في البيت، ولم تَمضِ لحظاتٌ حتى حمله أبي إلى المستشفى، واستمر قادر ميا يحكي لنا كيف أن زوجته حذَّرَته من الذهاب إلى منطقةٍ مُعادية في مثل هذا الوقت الذي تَسُوده أحداث الشَّغب والاضطرابات، ولكن قادر ميا مضطرٌّ للبحث عن عملٍ وعن قليلٍ من الرِّزق؛ لأن أُسرته لا تملك شيئًا تأكله، ولكن عُقوبة افتقاده للحرية الاقتصادية تَحوَّلَت إلى موتٍ لَحِق به بعد أن أُودِع المستشفى.

كانت خَبْرة مُدمِّرة بالنسبة لي، حَفَّزتْني إلى التأمل والتفكير فيما بعدُ بشأن هذا العبء المروع المترتب على الهويات التي تَتحدَّد في ضوء تفكير ضَيِّق الأفق بما في ذلك تلك الهويات التي تَنبَني بشكلٍ راسخ ومُتحَجِّر على أساسٍ من طوائف وجماعات (وهذه مسألة سوف أناقشها في هذا الكتاب)، بيد أنها أوضحت لي بشكلٍ أكثر مباشرة حقيقة مهمة وبارزة، وهي أن افتقاد الحرية الاقتصادية، الممثلة في صورة فقرٍ مدقع للغاية، قد يجعل المرء فريسة لا حَوْل لها ولا طَوْل لعمليات انتهاك لأنواعٍ أخرى من الحريات. إن قادر ميا لم يكن مضطرًّا إلى دخول منطقة معادية بحثًا عن أجرٍ زهيد في تلك الأيام الصَّعبة المُرَوِّعة لو كانت أسرته قادرة على البقاء بدون هذا الأجر. إن افتقاد الحرية الاقتصادية من شأنه أن يَرعَى ويُغذِّي افتقاد الحرية الاجتماعية تمامًا مثلما أن افتقاد الحرية الاجتماعية أو السياسية يمكن أن يُرسِّخ ويُعَزِّز افتقاد الحرية الاقتصادية.

(٣) التنظيمات والقيم

يمكن أن نقدم الكثير من الأمثلة التي توضح الفارق الحاسم نتيجة الالتزام بنظرةٍ إلى التنمية باعتبارها عملية متكاملة للتوسع في الحريات الموضوعية والمترابطة معًا، وهذه هي النظرة المعروضة في ضوءٍ من الدراسة والتحقق في هذا الكتاب بهدف بحث عملية التطوير والتنمية كعمليةٍ شاملة تدمج معًا الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا ريب في أن مثل هذا النهج العام يسمح لنا بعملية تقييمٍ آنيةٍ للأدوار الحيوية التي تقوم بها في عملية التنمية المؤسَّساتُ المختلفة الكثيرة، وتشتمل هذه المؤسَّسات على الأسواق والتنظيمات ذات العلاقة بالأسواق، وكذا الحكومات والسلطات المحلية والأحزاب السياسية وغير ذلك من مؤسَّساتٍ مدنية، ونُظم تعليمية وفُرَص متاحة للحوار والجدل الصريح والمفتوح (بما في ذلك دور وسائل الإعلام وغيرها من وسائل الاتصال).

ويسمح لنا مثل هذا النهج أيضًا بالاعتراف بدور القيم الاجتماعية والأخلاقيات السائدة التي يمكن أن تُؤثِّر في الحريات التي يتمتع بها الناس، ولديهم كل الحق في إثرائها، وغنيٌّ عن البيان أن المعايير المُشترَكة اجتماعيًّا يمكن أن تُؤثِّر في القَسمات المميزة للحياة الاجتماعية؛ من مثل المساواة بين الجنسين، وطبيعة رعاية الطفل، وحجم الأسرة، وأنماط الخصوبة، وأسلوب التعامل مع البيئة وغير ذلك كثيرٌ من استعداداتٍ ونتائج. كذلك تؤثر القيم والأخلاقيات الاجتماعية السائدة في مدى حضور أو غياب مظاهر الفساد ودَور الثقة في العلاقات الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية. وجديرٌ بالذِّكر أن ممارَسة الحرية تجري في إطار القيم، ولكن القيم بدورها تتأثر بالمناقشات العامة والتفاعلات الاجتماعية التي تتأثر هي الأخرى بحرية المشارَكة، ولا ريب في أن كل رابطةٍ من هذه الروابط بحاجةٍ إلى دراسةٍ متأنية فاحصة.

وثَمَّة اعتراف على نطاقٍ واسع بواقع أن حرية الصفقات الاقتصادية تنزع إلى أن تكون القاطرة الكبرى المُحرِّكة للنمو الاقتصادي حتى وإن بَقِيتْ بعض السلبيات المُؤثِّرة. إن من الأهمية بمكانٍ ليس فقط أن نعطي الأسواق ما تستحقه، بل وأيضًا أن نُقَدِّر دَور الحريات الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في دعم وإثراء حياة الشعب القادر على أن تكون له الريادة، وهذا أمرٌ له أهمية واضحة حتى بالنسبة لبعض القضايا الخلافية مثل المسألة المسماة المشكلة السكانية. 

(٤) المؤسسات والحريات الأداتية

تتناول الدراسات التجريبية التالية بالبحث خمسة أنماط مختلفة متمايزة للحرية منظور إليها من إطارٍ «ذاتي»، وتتضمن هذه ما يلي: (١) «الحريات السياسية»، (٢) «التسهيلات الاقتصادية»، (٣) الفرص الاجتماعية، (٤) ضمانات الشفافية، (٥) الأمن الوقائي، ويساعد كل من هذه الأنماط المتمايزة في الحقوق والفرص على تقدم القدرات العامة للشخص، ويمكن أن تفيد كذلك في أن يكمل أحدُهما الآخَر. مثال ذلك أن السياسة العامة لتعزيز القدرات البشرية والحريات الموضوعية بعامةٍ يمكنها أن تُثْمِر من خلال النهوض بهذه الحريات الأداتية المتمايزة ولكنها متداخلة.

وإذا كان لا بد لتحليل التنمية أن يكون، من ناحية، معنيًّا بأهدافٍ وغايات تجعل هذه الحريات الذاتية، تأسيسًا على هذا، شأنًا مهمًّا؛ فإنه يتعين أيضًا أن يضع هذا التحليل في الاعتبار الروابط التجريبية التي تربط أنماط الحرية المتمايزة ببعضها، وتدعم الأهمية المشتركة لها معًا، حقًّا، إن هذه الارتباطات محورية من أجل الوصول إلى فهمٍ كامل للدور الأداتي للحرية.

ملاحظة ختامية

الحريات ليست فقط الغايات الأولية والأساسية للتنمية والتطوير، بل إنها أيضًا من وسائلها الرئيسية، وعلاوة على الإقرار، من حيث الأساس، بالأهمية القيمية للحرية، علينا أيضًا أن نفهم الرابطة التجريبية الواضحة التي تربط الحريات على اختلاف أنواعها ببعضها البعض، وتسهم الحريات السياسية (في صورة حرية التعبير والانتخاب) في دعم الأمن الاقتصادي، كذلك الفرص الاجتماعية (في صورة مرافق التعليم والصحة) من شأنها أن تُيَسِّر المُشارَكة الاقتصادية، وأيضًا التسهيلات الاقتصادية (في صورة فُرص للمُشارَكة في التجارة والإنتاج) يمكنها أن تساعد على توليد وفرة شخصية، وكذا توليد موارد عامة للمَرافق الاجتماعية، معنى هذا أن الحريات على اختلاف أنواعها يمكنها أن تُعزِّز بعضها بعضًا.

وإن هذه الروابط التجريبية تعزز الأولويات القيمية، وإذا استخدمنا لغة التمييز في العصور الوسطى بين «العنصر المريض»، و«العنصر الفاعل»، نقول إن هذا الفهم للاقتصاد ولعملية التطوير والتنمية، والمُرتَكِز على الحيرة، فهمٌ قريبٌ جدًّا من النظرية المُتَّجِهة إلى الوكيل-العنصر الفاعل؛ إذ مع تَوفُّر الفرص الاجتماعية الملائمة، يستطيع الأفراد أن يصوغوا بكفاءةٍ مصيرهم الخاص، وأن يُساعدوا بعضهم بعضًا، إنهم ليسوا بحاجةٍ إلى اعتبارهم أولًا وأساسًا مُجرَّد مُتلَقِّين سَلبِيِّين لمنافع تدرها برامج تنمية بارعة، وثَمَّة مبرر عقلاني قوي يُبرِّر الاعتراف بالدور الإيجابي للفعالية الحرة المستدامة، بل والعجلة البناءة.

* مقتطف بتصرف من كتاب: (التنمية حرية: مؤسسات حرة وإنسان متحرر من الجهل والمرض والفقر)، لمؤلفه: أمارتيا صن، ترجمة شوقي جلال، نشر: مؤسسة هنداوي

اضف تعليق