q
لم يتحقق أيٌّ من المخاوف التي أُثيرت العام الماضي فيما يتعلق بانتشار "جائحة مزدوجة" من الإنفلونزا ومرض كوفيد، إلا أن توقّعات باقتران هذين المرضين معًا خلال هذا الشتاء قد أعادت مخاوفَ مماثلةً إلى أذهان علماء الوبائيات وخبراء الأمراض المعدية الآخرين، وكانت أعداد حالات الإصابة بمرض الإنفلونزا...
بقلم تارا هالي

لم يتحقق أيٌّ من المخاوف التي أُثيرت العام الماضي فيما يتعلق بانتشار "جائحة مزدوجة" من الإنفلونزا ومرض «كوفيد»، إلا أن توقّعات باقتران هذين المرضين معًا خلال هذا الشتاء قد أعادت مخاوفَ مماثلةً إلى أذهان علماء الوبائيات وخبراء الأمراض المعدية الآخرين، وكانت أعداد حالات الإصابة بمرض الإنفلونزا قد بدأت في الزيادة خلال شهري نوفمبر وأكتوبر، كما شهد هذان الشهران أيضًا تفشيًا للمرض في جامعة ميتشيجان في مدينة آن أربور الأمريكية، وذلك في حدثين يمثل كلٌّ منهما مؤشرًا مبكِّرًا على أن الإنفلونزا الموسمية قد يكون لها تبعات كارثية –بالنسبة للمستشفيات على وجه الخصوص- خلال الأسابيع القادمة، تزامنًا مع الارتفاع في الحصيلة المحلية لحالات الإصابة بفيروس كورونا المستجد، المعروف علميًّا بفيروس «سارس-كوف-2» SARS-CoV-2.

ويُجْمِعُ مسؤولو الصحة العامة فيما بينهم على أن ما شهدناه العام الماضي من غيابٍ للإنفلونزا عن المشهد الصحي خلال موسمها المعتاد يرجع إلى ما اتُّخذ من إجراءات للحدِّ من انتشار «كوفيد»، وهي إجراءات شملت تقييد حركة السفر، والاتجاه المتزايد إلى العمل من المنازل والتعليم عن بُعد، فضلًا عن ارتداء الكمامات والالتزام بالتباعد الاجتماعي، هذه القيود -بالإضافة إلى غيرها من القيود المفروضة على التواصل الاجتماعي- حالت دون الانتشار الواسع للإنفلونزا، وفق ما تقول لينيت برامر، رئيسة فريق الترصُّد المحلي للإنفلونزا التابع للمراكز الأمريكية لمكافحة الأمراض والوقاية منها (CDC)، غير أن كثيرًا من هذه القيود المُصمَّمة للحدِّ من انتشار الجائحة إما خُفِّفَت أو رُفِعَت كليًّا خلال هذا الشتاء، مما خلَّف ثغرةً قد تفتح الباب أمام انتشار الإنفلونزا وفيروسات الجهاز التنفسي الأخرى.

وتقول برامر إن المعدلات الحالية لانتشار عدوى الإنفلونزا تتطابق تقريبًا مع توقعات مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها لهذا الوقت من العام، كما تضيف أن "الوضع [الصحي] الحالي لا يختلف في ملامحه عن الملامح التقليدية التي عهدنا رؤيتها مع دخول أي موسم من مواسم انتشار الإنفلونزا"، مشيرةً إلى أن أغلب حالات تفشِّي المرض التي جرى رصدها حتى الآن لوحظت لدى فئة الشباب البالغين (لا سيما في حرم الجامعات)، وأن نطاق انتشار الفيروس يتسع حاليًّا ليشمل الفئة الأكبر سنًّا من البالغين، وتختلف معدّلات الوفيات بسبب الإنفلونزا في الولايات المتحدة بين الموسم والآخر؛ إذ نجم عن هذا المرض الفيروسي نحو 20 ألف حالة وفاة و380 ألف حالة احتجاز بالمستشفيات خلال موسم 2019-2020، كما تسبَّب في وفاة 52 ألف شخص واحتجاز 710 آلاف آخرين بالمستشفيات في موسم 2017-2018، وهو الذي كان واحدًا من المواسم الأشد وطأةً خلال السنوات الأخيرة.

وكما هو الحال مع «كوفيد»، قد تتسبب الإنفلونزا في آثار طويلة الأمد، كما تقول ميليسّا أندرو، الأستاذة المشارِكة بكليّة الطب بجامعة دالهاوزي في مقاطعة نوفا سكوشا الكندية، تقول أندرو: "تعتبر الإنفلونزا من أهمّ العوامل المُحفِّزة لوقوع الأزمات القلبيّة والجلطات، كما أنها قد تتسبَّب في الهذيان عند كبار السن"، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الهذيان، إضافةً إلى كونه أحد عوامل الخطورة المرتبطة بالإصابة بالخرف، قد يؤدي إلى تدهور القدرات الإدراكية، كما أنه قد يزيد من خطر تعرُّض المريض للسقطات وكسور الحوض، ومِن هذا المنطلق، تُردف أندرو قائلة: "لهذا السبب، يجب ألا يقتصر اهتمامنا بمرض مُعدٍ مثل الإنفلونزا على ما له من آثار قصيرة الأمد فحسب، بل يجدر بنا الاهتمام بآثاره طويلة الأمد أيضًا".

وصحيح أن التخمينات بشأن ظهور مُمْرِض مُخْتَلِط يُدعى «فلورونا» Flurona، وتندمج فيه قُوى الفيروسين المسببين لكلٍّ من الإنفلونزا و«كوفيد»، هي تخمينات لا أساس لها من الصحة، إلا أنه من الوارد أن يُصاب المريض الواحد بعدوى الإنفلونزا وعدوى «كوفيد» في الوقت نفسه، وفي هذا الصدد يقول إدوارد بيلونجيا، مدير المركز المعنيّ بعلم الوبائيات الإكلينيكي وصحة السكان التابع لـ«مارشفيلد كلينيك» Marshfield Clinic بولاية ويسكونسن: "إن كل مرض منهما على حدة قادر على إحداث أعراض شديدة السوء لدى المرضى الأكثر تعرضًا للإصابة، ومن ثَمَّ فقد يتدهور الوضع أكثر إذا أصيب المريض بكلا المرضين معًا، وهي الحالة التي ما زالت أبعادها غامضةً بالنسبة لنا، لكننا قد نكتشف المزيد من المعلومات عنها خلال هذا الشتاء، مع الأسف".

ومن ناحية أخرى، لا تتخذ بعض المخاوف التي تلوح في الأفق حاليًّا من الفرد موضوعًا لها، بل تتمحور أكثر حول الأنظمة الأكبر؛ فكما تقول أندرو، كانت المستشفيات وأقسام الطوارئ الملحقة بها تمتلئ عن آخرها بالمرضى خلال موسم انتشار الفيروسات الشتويّة في زمن ما قبل الجائحة، "أمّا الآن فإننا نرى موجات «كوفيد» المتتالية وهي تثقل كاهل المستشفيات في الوقت الذي ما زال فيه مرضى آخرون [من غير المصابين بـ«كوفيد»] بحاجة إلى تلقّي الرعاية الصحية كالمعتاد، ومن هنا، فإذا باغتتنا موجة من الإنفلونزا فوق كل ذلك، من الوارد أن نجد أنفسنا في مأزق كبير".

ويستطرد بيلونجيا قائلًا: إن موسمًا واحدًا من مواسم الإنفلونزا، حتى وإن كان أخف وطأة، "قد يكون كفيلًا بتقويض أي نظام صحي إذا كان ذلك النظام على حافة الانهيار بالفعل"؛ إذ يتنافس المرضى المصابون بالأعراض الشديدة للإنفلونزا مع المرضى المصابين بأعراض «كوفيد» الشديدة على الموارد الصحية.

يذكر بيلونجيا أيضًا أن أحد الاتجاهات الآخذة في الظهور ينذرنا بأن موسم الإنفلونزا القادم قد يكون أكثر شراسةً من ذي قبل، ففي معظم المواسم السابقة، كانت السلالات الفرعيّة من فيروس الإنفلونزا A عادةً ما تكون هي السائدة في بداية الموسم، بينما تسود السلالات الفرعية من فيروس الإنفلونزا B في نهايته، غير أن بيلونجيا يقول إن السلالة الفرعية السائدة في الوقت الراهن من فيروس الإنفلونزا A -وهي التي تُعد مسؤولةً عن جميع إصابات الإنفلونزا الحالية تقريبًا- هي سلالة تُعرف اختصارًا باسم H3N2، وعادةً ما تنتشر خلال مواسم الإنفلونزا التي تتسم بشدة وطأة المرض.

لكن الخبر الجيد هو أن ثمة احتمالًا بأن واحدة من السلالات الفرعية الأربع للإنفلونزا التي عادةً ما تنتشر كل موسم لم تعاود الظهور مع عودة الإنفلونزا، تُصنَّف هذه السلالة الغائبة ضمن سلالات فيروس الإنفلونزا B، وتُسمَّى «ياماجاتا» Yamagata، وهي سلالة لم يظهر لها أثر منذ حوالي عامين، وعلى عكس فيروسات الإنفلونزا A، فإن سلالات الإنفلونزا B لا تصيب إلا البشر فقط تقريبًا، مما يدفع الباحثين إلى الاعتقاد بأن سلالة «ياماجاتا» قد انقرضت.

وعلاوةً على ذلك، هناك مؤشر مبكر آخر على أن تبعات موسم الإنفلونزا الحالي قد تكون أخف وطأة؛ إذ إن حصيلة إصابات الإنفلونزا الحالية لا تزيد عن حصيلة الإصابات في موسم 2015-2016 إلا بنسبة قليلة، علمًا بأن موسم 2015-2016 كان من المواسم التي شهدت أقل معدل للوفيات بسبب الإنفلونزا في السنوات التسع الماضية، وعن هذا يقول بيلونجيا: إن مواسم الإنفلونزا تتفاوت تفاوتًا كبيرًا فيما بينها من حيث مجريات أحداثها ومسار تطوُّرها.

وكانت حملات التلقيح ضد الإنفلونزا قد تَراجَع زخمُها أمام حملات التلقيح ضد مرض «كوفيد-19» خلال الخريف الماضي، وعلى الرغم من أن نسبة تلقِّي لقاحات الإنفلونزا حاليًّا مماثلة لما كانت عليه في الوقت نفسه من العام الماضي في أغلب مناطق الولايات المتحدة، فإنها أقل في بعض الأقاليم، وذلك وفقًا لتقرير لجنة متابعة لقاحات الإنفلونزا التابعة لمراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها، ومن هنا، ينْصَب معظم اهتمام المسؤولين حاليًّا على ضمان تلقِّي الفئات الأضعف للقاح، وهي الفئات التي تتضمن الأطفال والنساء الحوامل، الذين انخفضت نسبة تلقِّي اللقاحات فيما بينهم عمّا كانت عليه في الوقت نفسه من العام الماضي؛ ففي نهاية شهر أكتوبر، كانت نسبة مَن تلقوا اللقاح من البالغين الأكبر سنًّا المسجلين ضمن برنامج «ميديكير» Medicare للتأمين الصحي أعلى من ثلث تعدادهم بمقدار قليل فقط، وذلك مقارنةً بالوقت نفسه من عام 2020 الذي وصلت فيه النسبة إلى 49%، وعام 2019 الذي بلغت فيه النسبة 42%.

وعادةً ما تعمل الشركات المُصنِّعة للقاحات على تعديل لقاحات الإنفلونزا كل عام بحيث تشمل السلالات الفيروسية الأربع التي يتوقّع كلٌّ من منظمة الصحة العالمية وهيئة الغذاء والدواء الأمريكية أن تسود خلال الموسم القادم، ولكننا لا نعلم بعدُ ما إذا كانت السُّلالات التي تشملها لقاحات هذا الموسم ستكون متطابقةً إلى حدٍّ كبير مع السلالات الفيروسية المنتشرة، وقد كشفت دراسة نُشِرت في طبعة أولية (لم تخضع بعد لمراجعة الأقران) في شهر ديسمبر 2021 عن رصد تغيُّرات في سلالة H3N2 المنتشرة حاليًّا، بما يجعلها مختلفةً اختلافًا واضحًا عن السلالة المتوقعة التي استُخدمت لإعداد لقاحات هذا العام، وهو الأمر الذي قد يكون من شأنه الانتقاص من فاعلية اللقاح.

إلا أن هذا الاختلاف الطفيف ليس بالأمر المفاجئ، وذلك نظرًا لمحدودية كَمِّ البيانات المتاحة عن أحدث السلالات لدى اللجان المسؤولة عن اختيار سلالات الإنفلونزا المُستخدَمة في اللقاحات، وهو الأمر الذي يعود بدوره إلى محدودية انتشار الإنفلونزا خلال العامين الماضيين، حسبما تقول كوثر طلعت، أستاذة علم الوبائيات المُشارِكة بكلية بلومزبرج للصحة العامة بجامعة جونز هوبكنز.

علاوةً على ذلك، تُفيد طلعت بأن لقاحات الإنفلونزا لطالما كانت تُحصِّن متلقيها ضد السلالة H3N2 بدرجة أقل من الدرجة التي تُحصِّنهم بها ضد السلالات الأخرى، فضلًا عن أن سلالة H3N2 تتطوّر بوتيرة أسرع من سلالة H1N1 وسلالات فيروس الإنفلونزا B، وتضيف طلعت أن "هذا لا ينفي حقيقة أنه حتى في السنوات التي ظهرت فيها أكبر نسبة من الاختلاف بين السلالات المستخدمة في اللقاحات والسلالات المنتشرة، كان تلقِّي اللقاح يحمي الأفراد من الإصابة بالأعراض الشديدة للمرض، ويقلل الحاجة إلى الاحتجاز في المستشفيات، ما يعني أن تلقِّي اللقاح يظل خيارًا أفضل من عدم تلقِّيه".

كذلك، يقول بعض الخبراء إنه من الوارد أن يكون انحسار الإنفلونزا في موسم 2020-2021 قد قلل من مدى استعداد جهاز المناعة لدى البشر لمواجهة المرض من جديد، وهو الأمر الذي ينذرنا بدخول موسم ستكون فيه الإنفلونزا أشد وطأةً هذه المرة؛ ففي كل موسم، عادةً ما يُنتج الملايين من البشر أجسامًا مضادة بعد تعرُّضهم لسلالات الإنفلونزا المنتشرة خلال الموسم، إلا أن هذا الإعداد المناعي لم يحدث خلال العام الماضي.

يقول بيلونجيا: "لدينا اليوم أفراد قد أصبحوا أكثر تعرضًا للإصابة بالمرض، كما أن أجهزتهم المناعية لم تتعرض لفيروس الإنفلونزا عامين أو أكثر، وهو الوضع الذي يقتضي منَّا العمل من أجل تأمين أقصى حماية ممكنة من المرض، واستباق هجماته عن طريق تعزيز جهاز المناعة باللقاح".

وفي الصدد نفسه، تقول برامر إن ارتفاع معدّلات تلقّي لقاح الإنفلونزا قد يساعد أيضًا على تخفيف العبء على أنظمة الرعاية الصحية المُجهَدة بشدة فعليًّا، مؤكِّدةً أن "هذا واحد من أسباب كثيرة تدعونا لتشجيع الناس على تلقّي اللقاح المضاد للإنفلونزا".

وترى طلعت أنه وجب التشديد على أن السلوكيات التي تهدف إلى تقليل خطر الإصابة بعدوى «سارس-كوف-2» قادرة أيضًا على منع الإصابة بالإنفلونزا، داعيةً إلى "أن نلتزم بفعل الأشياء التي نثق بفاعليتها في مواجهة جميع هذه الفيروسات"، ومن ذلك أن نحرص على تلقّي لقاحات «كوفيد» والإنفلونزا، علاوةً على تلقّي الجرعات التنشيطيّة للقاح «كوفيد» ولقاح الالتهاب الرئوي إذا كان الفرد مؤهلًا لتلقِّيهما، كذلك، توصي مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها بإعطاء لقاح الالتهاب الرئوي لكبار السن من عمر 65 فما فوق، والأطفال من عمر عامين فأقل، وكذلك للمرضى المصابين بحالات مرضيّة معيَّنة.

وعلى الرغم من أن عدوى الإنفلونزا تنتشر بوتيرة أبطأ مقارنةً بعدوى «سارس-كوف-2»، فإن التباعد الاجتماعي وارتداء الكمامات، وكذلك الاهتمام بتنظيف الأيدي بدقة وإمعان، كلها عوامل تحُد من قابلية عدوى الإنفلونزا للانتقال، وفي حال إصابة أحدهم بأعراض مشتركة بين الإنفلونزا و«كوفيد» (مثل الحمّى والسعال والاحتقان وآلام الجسم)، فبإمكان العيادات عندئذٍ أن تُجري الاختبارات التي تكشف عن «كوفيد» وتلك الخاصة بالإنفلونزا في الوقت نفسه، وتقول برامر إن الهدف الرئيسي من إجراء اختبارات الكشف عن الإنفلونزا في مثل هذه الحالة هو الإسراع بمعالجة الإنفلونزا بالعقاقير المضادة للفيروسات، بما يقلل من مخاطر مثل الإصابة بالأعراض الحادة والاحتجاز في المستشفيات والوفاة.

أما إذا سارت الأمور على المنوال نفسه، فعلى غرار العامين الماضيين، سيكون موسم الإنفلونزا 2021-2022 مجرد تجربة نتعلم منها، يقول بيلونجيا: "كما هو الحال مع «كوفيد»، لا يمكن لأحد التنبؤ بما سيحدث فيما بعد"؛ إذ شهدت الشهور الستة الأخيرة وحدها أحداثًا غير مسبوقة، "وهذا يجبرنا على الاعتراف بأنه بالرغم من كل المعرفة التي وصلنا إليها في علوم المناعة والفيروسات، لم يكن لأحد منا أن يتوقع آنذاك ما كان سيحدث مستقبلًا".

اضف تعليق