q
ليس البشر وحدهم مَن لديهم أساليب خداعية. لقد اكتُشف أن مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحيوانات تُنفذ هي الأخرى حملات تضليل، قد تضلل الحيوانات أفرادًا من نفس نوعها أو من أنواع أخرى عن طريق التمويه أو المحاكاة، عندما تُعطى إشارة كاذبة عن عمد، يُعرَف هذا بالخداع التكتيكي...

ليس البشر وحدهم مَن لديهم أساليب خداعية. لقد اكتُشف أن مجموعة كبيرة ومتنوعة من الحيوانات تُنفذ هي الأخرى حملات تضليل، قد تضلل الحيوانات أفرادًا من نفس نوعها أو من أنواع أخرى عن طريق التمويه أو المحاكاة، عندما تُعطى إشارة كاذبة عن عمد، يُعرَف هذا بالخداع التكتيكي وهو إستراتيجية تمارسها مجموعة متنوعة من الكائنات، بدءًا من الحبار وانتهاءً بالكلاب.

يبدو أن عالم الحيوان يفيض لطفًا وتعاطفًا هذه الأيام. فالأدلة على تعاوُن الكائنات العائمة والمخلوقات الطائرة والدواب وتراحمها فيما بينها قد استحوذت على خيال الناس بوجه عام. ففي المحيطات، يُشكِّل سمك الهامور والكيدم والأنقليس فريقًا متعدد الأنواع، يعمل أفراده معًا لدفع الفريسة إلى الخروج من مخبئها وتناوُلها، في نوبات من الصيد التعاوني. وفي السماء، يحدث تعارف بين طائر النمنمة الساحرة المبرقشة والنمنمة الساحرة الرائعة، ويُشكِّلان معًا شراكات قوية، ويتعاونان في الدفاع عن رُقَع أحراش الكافور. وفي مجتمع الدجاج، تتألم الأمهات تعاطفًا مع صيصانها عندما يصيبها قليلٌ من المشقة. وتهرع قردة الشمبانزي لمواساة الخاسر في القتال، حتى وإن لم يكن لها دورٌ في الشجار. وفي إحدى صور التضحيات الكبرى، تتخلى الجرذان عن غنيمة الشوكولاتة لإنقاذ رفقاء اضطُروا إلى عبور بركة صغيرة من الماء.

بالَغَ العلماء المتخصصون في سلوك الحيوان على مدار قرون في التركيز على دور التنافس والعنف بين الحيوانات. ويُعَد التركيز الحالي الذي أصبح منصبًّا على اللطف والاهتمام بمنزلة تصحيح ضروري لتلك النظرة القديمة إلى الطبيعة، المتمثلة في وصف الشاعر ألفريد لورد تينيسون "دم على الضرس والمخلب". ومع ذلك، في حين أننا متحمسون لفكرة التعاطف بين الحيوانات، ثمة خطورة تتمثل في أن نشرد بعيدًا عن الحقيقة ويُحجَب عن أعيننا جزءٌ من القصة. تُنفذ حيوانات كثيرة حملات تضليل تستهدف أفرادًا آخرين من النوع نفسه ومن أنواع أخرى؛ فهي تمارس سلوكيات شائعة تنطوي على الخديعة، مثل التضليل والغش والكذب.

نية الخداع

يُعرَّف الخداع في الحيوانات غير البشرية على أنه إرسال إشارات كاذبة في محاولة لتعديل سلوك حيوان آخر على نحوٍ يعود بالنفع على الحيوان المُرسِل لتلك الإشارات. ويجيد الحبار هذا النوع من التضليل. فبوصفه أحد أقارب الأخطبوط، يمتلك الحبار القدرة على تغيير لونه بسرعة، ويرجع ذلك إلى وجود خلايا صبغية في جلده تسمى حاملات اللون. وما يمتلكه من قدرة على التخفي يمكن أن يؤدي إلى حدوث اضطراب عند التزاوج. أفاد اختصاصيون في علم الأحياء البحرية بقيادة جاستين ألين من جامعة براون أنهم لاحظوا اقتراب أحد ذكور الحبار الأوروبي الشائع من إحدى الإناث عندما كانوا يغوصون تحت الماء في بحر إيجه قبالة السواحل التركية. ابتعدت الأنثى في برود واضح. تخفَّى الذكر عن طريق التلوُّن بلون البيئة الخلفية المحيطة لمدة ست دقائق، تاركًا الأنثى على ما يبدو في حالةٍ من عدم الإدراك لحقيقة أنه لا يزال بالمكان. ثم اندفع فجأةً وأمسك بها وتزاوجا مباشرة.

وفي نوع حبار أسترالي يسمى الحبار الحزين، يتجاوز الخداع التخفي. فعندما يسبح ذكر بين أنثى يرغبها على اليسار وذكر منافس على اليمين، فإنه يرسل مجموعتين من الإشارات تحوي بيانات متضاربة. فعلى يساره يصدر إشارات تودُّد ذكرية، ولكن يصدر على يمينه إشارات أنثوية. وعندها يظنه منافسه الذكر أنه أنثى أخرى. تصرف ذكي، ومخادع!

يُطلق عالم الأحياء كولوم براون -من جامعة ماكواري في سيدني- وفريقه على الإشارات المزدوجة التي تصدر عن ذكر الحبار الحزين "الخداع التكتيكي"؛ لأنه يتم وفقًا لتخطيط مسبق، ويحدث في سياق محدد (عندما يتودد ذكر إلى أنثى في وجود ذكر آخر منافس). ويُعَد التخفي والمحاكاة والخداع التكتيكي ثلاثة أنواع رئيسية من الخداع الحيواني، ولا توجد حدود واضحة تفصل بحسم بين هذه الفئات، مثلما توضح نماذج الحبار. فعندما تُنفَّذ محاولات التضليل عن قصد، سواء كان ذلك عن طريق التخفي أو المحاكاة أو أي سلوك آخر، فإن ذلك يُعد خداعًا تكتيكيًّا.

وبوصفنا رئيسيات تعتمد اعتمادًا أساسيًّا على حاسة الإبصار، نميل نحن البشر إلى تمييز الخداع بناءً على أي تحوير يحدث في الصور المرئية.

غير أن الحواس الأخرى يمكن خداعها أيضًا. فطائر الدرونجو شوكي الذيل ذو الصوت العالي الذي يستوطن صحراء كالاهاري في أفريقيا يُصدر أصواتًا تحذيرية لدى رؤيته للمفترسات. أحيانًا تكون تلك الإشارات صادقة ونافعة، ليس فقط لطيور الدرونجو الأخرى، بل أيضًا للطيور المجاورة، مثل طائر الثرثار المرقط الجنوبي والسرقاط؛ إذ ستُغادر مكانها في الحال طلبًا للأمان عند سماعها نداءات الدرونجو. ولكن في بعض الأحيان لا يفعل الدرونجو أشياءً بهذا القدر من الأمانة، بل يسلك سلوكًا خبيثًا تمامًا. فعلى سبيل المثال، إذا لاحظ الدرونجو أن بحوزة السرقاط طعامًا لذيذًا، مثل وزغ سمين، فقد يطلق الطائر نداءات الإنذار دون وجود أي مفترس على الإطلاق. وعندما يسمع السرقاط نداءات الدرونجو فإنه يترك ما في حوزته من طعام ويفر طلبًا للأمان. وعندها يلتقط الدرونجو الوزغ ويلتهمه. بالتعاون مع زملائه، اكتشف عالِم الحيوانات توم بي فلاور -الذي يعمل الآن بجامعة كابيلانو في مقاطعة بريتيش كولومبيا- أن هذا النوع من سرقات الطعام يمثل نحو ربع الكتلة الحيوية التي يتناولها طائر الدرونجو، وأي فرصة لزيادة حصته من الطعام الشهي المسروق تشكل منطقًا تطوريًّا جيدًا بالنسبة له.

ومع ذلك، لا ينتهي ميل الدرونجو نحو التظاهر عند هذا الحد. فالإشارات الصادقة هي القاعدة في عالم الحيوان. فالمبالغة في التضليل الموجه إلى الجمهور ذاته ستؤدي إلى انكشاف الخدعة؛ لأن الشركاء الاجتماعيين للفرد المخادع سيدركونها على الأرجح. وعلى أية حال، لدى بعض الحيوانات -مثلما هو الحال مع الأطفال الصغار- متلازمة "الاستنفار الكاذب". يقول فلاور وزملاؤه إن التطور قد شكَّل بالتبعية المخزون الصوتي لطيور الدرونجو؛ فهذه الطيور تُصدر 51 إنذارًا كاذبًا على الأقل، وهي تعمل على تنويع تلك الإنذارات خلال محاولاتها المتكررة لسرقة الطعام. وفي ظل رغبتها في سرقة الطعام من "الأهداف" نفسها أكثر من مرة، تُغير طيور الدرونجو من نوع الإنذار الذي تطلقه نحو 75% من الوقت، بل ويصبح سلوكها المخادع أكثر جلاءً عندما تطلق نداءات الإنذار على نحوٍ يخص الأهداف نفسها. هذا المزيج الإستراتيجي من المحاكاة الصوتية والخداع التكتيكي يجعل أهداف الدرونجو تظل تخمن، وهو ما يصب في مصلحة الدرونجو. ومثل الحبار، تتعمد طيور الدرونجو الخداع، وتلك هي الفرضية على الأقل. إنها فكرة منطقية؛ لأنه في كلتا الحالتين، لا تصدر تلك الإشارات الكاذبة بطريقة عشوائية، بل تصدر بعد إجراء تقييم وافٍ للحياة الاجتماعية الديناميكية للحيوانات.

واستنادًا إلى ميولنا التطورية نحو الخداع المتعمد، فلا عجب أن نجد أقرب أقربائنا من الحيوانات وهم السعادين والقردة من بين أبرع المخادعين. روى عالم الرئيسيات فرانس دي فال -من جامعة إيموري- واقعة الشمبانزي "يروين" بحديقة حيوان أرنهيم في هولندا، الذي كان يتظاهر بأنه يعرج في وجود منافسه نيكي فقط بهدف كسب التعاطف. وتُشير أبحاث منهجية أُجريت على الشمبانزي وعدة أنواع من القردة، إلى أن هذه الرئيسيات تبتكر حيلًا إبداعية لتشتيت انتباه شركائها الاجتماعيين وتضليلهم عندما ترغب في التزاوج أو الفوز بطعام.

احتيال لا شعوري

لكن تعقيد الخداع الحيواني –وطرافته بطبيعة الحال- لا يعتمد على قصدٍ واعٍ. فالعنكبوت الأسترالي الرائع يصطاد العث في الليل باستخدام كرة من الحرير اللزج تُدعى "بولاس". وتتسم هذه العناكب الرائعة بلونها الأبيض وبعلامات متنوعة على جسمها. وبدلًا من أن تنسج شبكةً لاصطياد فريستها، تنتج تلك العناكب خيطًا وحيدًا من الحرير في نهايته كرة وتقذفه نحو عث على مقربة منها. وإليكم هذا الجزء الميكافيلي الرائع: تُفرز كرة "بولاس" فيرومونًا يحاكي رائحة إناث العث. وينجذب ذكور العث إلى الرائحة التي لا يستطيعون مقاومتها، ويحلقون قريبًا ومن ثمَّ يسقطون في شَرَك الحرير اللزج. وقد تلتهم العناكب العث على الفور، أو ربما تخزنها ثم تلتهمها فيما بعد. هذا السلوك المخادع الذي تمارسه العناكب لا ينطوي على شيء يوحي بوجود خطة مدروسة، إلا أن التطور قد عزَّز هذا السلوك؛ لأنه يزيد فرص نجاحها في عملية التكاثر.

وتعطي الآلية ذاتها تفسيرًا للسلوك المخادع الذي تمارسه ذبابة الفاكهة. فهذه الذبابة لا تخجل من ميلها نحو التهام مثيلاتها؛ فاليرقات الصغيرة قادرة على التهام نظيراتها الأكبر سنًّا أو المصابة. بيد أنها نادرًا ما تلتهم بيض ذباب الفاكهة. بالتعاون مع فريقها، اكتشفت عالِمة البيئة سونيثا ناراسيمها -من جامعة لوزان في سويسرا- السبب في ذلك. فقد تبين أن ثمة فيرومونًا تفرزه ذبابة الفاكهة الأم يعمل على إحكام الغلق على البيض، بما يمنع تسرُّب رائحته المميزة، وبالتالي يُخفي حقيقة أمره عن الملتهم الصغير. إنها طريقة رائعة لإخفاء البيض عندما يكون في مكان يسهل اكتشافه لدى نوع لا تُعرف عنه الحماية الأبوية الصريحة.

يُوفر الجنس والتكاثر سياقًا مناسبًا لتبادل الإشارات الزائفة. ففي عالم الطير، تشتهر إناث طائر الوقواق بأنها تضع بيضها في أعشاش إناث أخريات ثم تغيب عن المشهد. وبذلك تتعرض الأمهات في الأعشاش للخداع ويصير عليها بذل الجهد للعناية بصغار لا تخصها. ينتشر هذا السلوك على نطاق واسع يتجاوز طائر الوقواق، ويُوصف بأنه تطفُّل على أعشاش الطيور من النوع نفسه، أو بعبارة أخرى، شكل من أشكال الغش المتمثل في وضع بيضة في عش طائر من النوع نفسه لتحظى برعاية مجانية على نحوٍ تطفُّلي، ويُمارس هذا السلوك المخادع 200 نوع من الطيور.

يبدأ الخداع لدى بعض الحيوانات قبل إنتاج أي فرد من نسلها. فتهتز أنثى السلمون المرقط البني بعنف كما لو كانت على وشك وضع البيض حتى وإن لم تكن تفعل ذلك في واقع الأمر. ففي دراسة أُجريت عام 2001 حول ذلك السلوك المدهش، أطلق إيريك بيترسون وتوربيورن جارفي -وكلاهما كان في المجلس الوطني لمصايد الأسماك في السويد- على ذلك السلوك اسم "النشوة الكاذبة". واستجابةً لتلك الهزة، تنخدع الذكور وتقذف حيواناتها المنوية دون إخصاب أي شيء مطلقًا. لماذا تبذل الإناث ذلك الجهد الإضافي؟ ربما لا تريد سوى إبعاد الذكور غير المرغوب فيها. ومما يثير الاهتمام، رغم ذلك، أن بيترسون وجارفي توصلا إلى أن معدل تكرار النشوة الكاذبة ارتفع مع اقتراب الموعد الحقيقي لوضع البيض. لذا فمن الممكن أن يكون تفسير هذا هو سعي الإناث إلى الحصول على حيوانات منوية من ذكور مختلفة؛ لأن ذلك يزيد من قوة نسلها.

حيوانات أليفة كاذبة

قد تمارس الحيوانات الخداع حتى بداخل منازلنا. يشيد البشر بولاء الكلاب الفائق، بيد أن الصورة الحقيقية أكثر تعقيدًا مما نتصور. فخلال تعاملها مع الكلاب الأليفة، أجرت أخصائية سلوك الحيوان ماريان هيبرلين -من جامعة زيوريخ- تجربةً يتفاعل فيها الكلاب مع إحدى امرأتين، الأولى شاركت معها الطعام (وستسمى بالسيدة المتعاونة)، والأخرى رفضت مشاركة الطعام معها واستأثرت بالطعام لنفسها (وستسمى بالسيدة المتنافسة). وسيتعين على الكلاب بعد ذلك اقتياد هاتين السيدتين إلى مكان فيه طعام محبب، أو طعام غير محبب، أو مكان ليس فيه طعام. في اليوم الأول، قادت الكلاب السيدة المتعاونة نحو المكان الذي يوجد فيه الطعام المفضل عددًا أكبر من المرات. وبحلول اليوم الثاني، كانت الكلاب قد اكتسبت معرفةً أكثر بشأن وضعها، وصارت تقود السيدة المتنافسة بمعدل أقل نحو مكان الطعام المحبب، وكبحت سلوكها الخاص بالبحث عن الطعام المفضل في وجود السيدة المتنافسة.

وكما يعرف أي شخص عاش مع الكلاب، هذه الحيوانات لا تجيد التخلي عن الأطعمة المحببة. فيما يبدو أن الكلاب في تلك التجربة أرادت زيادة فرصها في الحصول على الطعام المفضل فيما بعد، وأدركت أن خداع السيدة المتنافسة الأنانية قد يزيد من تلك الفرص. تقول هيبرلين إن الكلاب ربما لم تتقبل أيضًا فكرة حصول إنسان لا تحبه على طعام شهي. وبصرف النظر عن ماهية دافعها، كان خداع الكلاب تكتيكيًّا.

ما الدرس المستفاد هنا؟ كن لطيفًا مع الكلاب وبطبيعة الحال ستكون لطيفةً معك. وبصورة أشمل، قد يسلك الحيوان سلوكًا مخادعًا بوعي بل وأحيانًا بحماس عاطفي. ولهذا السبب، قد نرى شيئًا من أنفسنا في الكلاب أو في سمك الحبار الذي يُصدر إشارات زائفة للتزاوج، وكذلك لدى الطيور التي تسلك سلوكًا مخادعًا كي تسرق الطعام. ومع ذلك، فإنه عبر أنواع مختلفة، تتضمن تلك الحيوانات التي تُخادع دون وجود نية مُبيتة لذلك، قد يتصرف أفرادها أنفسهم بأمانة في بعض المواقف وبتآمر في مواقف أخرى. وربما تبدو هذه الطبيعة ذات الوجهين مألوفةً لنا أيضًا نحن البشر.

اضف تعليق