q
إسلاميات - اخلاق

الإحسان و نظرية التنمية المستدامة

من المحفزات الأخلاقية

يعد العدل قيمة عليا وأساس في الأحكام والتشريعات لتنظيم حياة الناس، فالمهم إعطاء كل ذي حقٍ حقه، فعندنا مصنع، فيه المهندس، وفيه العامل البسيط، مع مجموعة كبيرة من العاملين في حقول مختلفة، فيأتي العدل هنا ليعطي للمهندس حقّه نهاية الاسبوع او الشهر...

"العدل الإنصاف، والإحسان التفضّل".

أمير المؤمنين، عليه السلام

ننظر الى صور من الجو لمدن في العالم مزروعة بأبراج شاهقة وجميلة، وشبكات طرق جذابة بجسورها وأنفاقها، وطائرات عملاقة وقطارات نفاثة، ومظاهر عمرانية اخرى، بل وايضاً؛ ما يمتلكه الناس من سيارات فارهة وبيوت وشقق سكنية رائعة، كل هذا يعطينا انطباعاً ايجابياً عن تقدم وتطور عمراني واقتصادي في هذا البلد، ولكن! عندما نضع اقدامنا في شوارع هذه المدن ونتجول فيها نصطدم بمشاهد الفقر والتشرّد في الشوارع والأزقة، حيث ينام البعض على الأرصفة وفي الأزقة الضيقة بالقرب من تجمع النفايات لتوفير الطعام! كما نصطدم بحجم التلوث البيئي لمخلفات المصانع وتأثيرها على المياه وعلى الهواء، ثم سرعة انتشار الامراض بسبب الاطعمة الجاهزة التي يقف خلفها عمالقة الجشع في مصانع الأطعمة والمشروبات ذات الماركات العالمية.

الخطوة الناقصة

من حيث المبدأ؛ يعد العدل قيمة عليا وأساس في الأحكام والتشريعات لتنظيم حياة الناس، فالمهم "إعطاء كل ذي حقٍ حقه"، فعندنا مصنع، فيه المهندس، وفيه العامل البسيط، مع مجموعة كبيرة من العاملين في حقول مختلفة، فيأتي العدل هنا ليعطي للمهندس حقّه نهاية الاسبوع او الشهر، بما يفوق العامل او موظفي الخدمة، رغم إن الظاهر بذل هؤلاء جهوداً عضلية أكثر، فيما المهندس يجلس في غرفة مكيفة ويصدر الأوامر وحسب.

ولكن! هل يعني هذا أن نترك العمال البسطاء على رواتبهم الشهرية التي لا تكاد تفي لبضعة ايام، ليواجهون آلامهم ومعاناتهم مع احتياجات أسرهم من علاج ودراسة ومستلزمات ضرورية لحياتهم؟

هذا في الجانب المادي، وفي الجانب المعنوي نشهد القضاء في جميع بلداننا الاسلامية "يبترّك" بكلمة العدل في لوحات ضخمة وجداريات مزينة بالنقوش والزخارف، واحياناً نقرأ الآية الكريمة: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}، فالعدل ثم العدل، هو الهم الاول والاخير في الظاهر عند المؤسسة القضائية، وعند القضاة والمحامين وجميع رجال القانون، فعندما تصلهم من مواطن شكوى ضد آخر اختلس ماله خلال معاملة مضاربة في السوق او أمر آخر، فإن أول جملة تواجه المشتكي: "القانون لا يحمي المغفلين"! لأن القانون يقف بعدله الى جانب من يمتلك الأدلة والبراهين الثبوتية على المتهم، طبعاً؛ هذا إن أخذت مجراها لإحقاق الحق للمشتكي، بيد أن المبدأ القانوني هكذا، بمعنى أن القانون يحمي الاذكياء فقط!

نعم؛ العدل مبدأ وقيمة مقدسة يعتزّ بها الانسان، وهي ملجأه في حياة آمنة ومطئمنة، بيد أن الحياة مليئة بالتعقيدات والاستحقاقات في مجالات عدّة تتطلب النظر اليها، لذا نقرأ في أحكام الإسلام استحباب إمهال الغريم في حالة عسره امام الدائن، أو المستأجر في مسكنه او محل عمله، حتى وإن استوفت المدة المقررة والمكتوبة في العقد، لأن ببساطة؛ العقد المكتوب، والأدلة والبراهين تفيد القانون الصامت، بينما الانسان يحتاج من يتكلم معه ويتفهّم ظروفه من خلال مفهوم الإحسان المكمّل للعدل، ولعل هذا يفسّر لنا اقترانه بالعدل في الآية القرآنية: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ}، وقد تعددت آراء الفقهاء حول وجوب الإحسان كما العدل، وعلى رأي فانه من المستحبات، إذ ليس من الواجب على الانسان أن يكون محسناً بالضرورة، بيد أن الآية الكريمة صريحة في الوجوب {يأمُرُ}، وهذا يعكس أحد وجوه النظام الاجتماعي والاقتصادي في الإسلام الذي يصغي للحق الاجتماعي كما يهتم بالحق الفردي.

الإحسان يواجه الفساد

تجربة تاريخية عظيمة لدور الإحسان في مكافحة الفساد المالي، والتقدم من بعدها الى مراقي النمو والتطور والتقدم، عندما جاء الخطاب السماوي لأحد افراد بني اسرائيل في زمن نبي الله موسى، عليه السلام، وهو؛ قارون، الذي كان من بين المؤمنين من بني اسرائيل، وقد شهد المعاجز وهلاك فرعون وتدمير نظام حكمه تحت راية النبي موسى، بيد أن الإثراء والغنى سحبه الى منحى آخر، مع ذلك، فان الخطاب لم ينهاه عن الإثراء وأن يكون غنياً؛ {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}، فالدين يعطي حرية التملك والإثراء للإنسان شريطة أن يكون هذا الثراء لتحقيق الصلاح في المجتمع لا الفساد، فقد كانت رغبة قارون النفسية في التصرف بأمواله وفق ميوله ورغباته، وعندما جاء النداء بالتفكير بالآخرين استشعر الخطر على أمواله، فقال: {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي}، فقد أوهم نفسه بأنه أوجد هذه الثروة بنفسه ولا دخل للتوفيقات والاسباب الغيبية في هذا.

في واقعنا المعاصر يوجد الكثير مثل قارون، يكنزون الاموال الطائلة متذرعين بمشروعية هذا العمل وإنه "بكد يديهم وعرق جبينهم"، وليس هناك داعٍ لانفاق الاموال على اشخاص لا يعملون، او يقبظون الاموال دون تعب، ويعد هذا مناقض للعدل والانصاف، بيد إن هذه الصورة المشوهة وغير الدقيقة لا تعكس حقيقة الإحسان ودوره البناء والحضاري، فالاسلام يحضّ ويؤكد على العمل والانتاج، ولكننا بالحقيقة؛ نطبق النظام الاقتصادي الظالم السائد في العالم تحت اسم "الرأسمالية" المحتكر لفرص العمل والإثراء بيد طبقة محدودة من الناس، وإلا ما فائدة بلد يعد نفسه متقدم اقتصادياً، من خلال حجم انتاجه وحجم صادراته الى بلاد العالم، بل وامتلاكه مستويات من التطور التقني والعلمي، فيما يوجد في البيوت من يشكو الامراض والجوع والتهديد بالتشرّد أمام البنوك المهيمنة على المنازل المستأجرة، مع جيوش من العاطلين، او من يعملون في مجالات خادشة للكرامة الانسانية، مثل؛ الدعارة والإدمان الى المخدرات والسرقة والاختطاف لابتزاز الاموال.

في الآونة الاخيرة أدرك البعض في بلاد الغرب الحلقة المفقودة بين الإثراء والمنفعة الشخصية، وتحقيق المنفعة العامة الضامنة لمزيد من الانتاج والنجاح في العمل، من خلال الاهتمام بالعمال والموظفين ومراعاة ظروفهم المعيشية.

هذه الممارسة تحتاج الى كثير من التدريب والتنمية البشرية ليكون الانسان متسعداً لمد يده في جيبه والإحسان الى الآخرين، بينما في بلادنا التي نعيش فيها القيم السماوية، والتراث العظيم لأهل البيت، عليه السلام، المليئ بالتجارب والعِبر عن قدرة الإحسان في مكافحة الفساد المالي والاجتماعي عندما يستشعر ذوي الدخل المحدود بأنه مصان في كرامته وشخصيته أمام هاجس الفقر وانعدام المال لديه، وفي خطوة متقدمة أخرى، أن يدرك أنه ذو شأن في تحقيق التنمية المستدامة في بلاد قابعة على أضخم مخازن الثروات المعدنية والطاقة في العالم.

ولا أجدني بحاجة الى ذكر شواهد وقصص من حياة النبي الأكرم، ومن بعده؛ أمير المؤمنين، والأئمة المعصومين، في تأكيدهم الشديد على تكريس ثقافة الإحسان في المجتمع، فهم لم يكونوا –على الأغلب- في موقع قيادي ليحققوا العدل لابتعادهم عن الحكم، ما عدا النبي الأكرم وأمير المؤمنين، وبعده الإمام الحسن لفترة قصيرة جداً، بيد أنهم رفعوا شعار الإحسان وطبقوه بين اوساط المجتمع، و أوصوا المقربين اليهم بالتزام هذه القيمة المقدسة والحيوية في حياة الأمة.

اضف تعليق