q
منوعات - علوم

المـادة والخلطــة الكونـيـــة

إنه لأمرٌ عظيم أن يميط عِلْم الكون الدقيق اللثام عن كَوْنٍ غريب، يتكون من: 7 أجزاء من الطاقة المظلمة، و 2.5 جزء من المادة المظلمة، و 0.5 جزء من غازَيْ الهيدروجين والهليوم (مع آثار ضئيلة من العناصر الكيميائية الأخرى). أمّا النجوم، والنيوترينوات، وفوتونات الأمواج المكروية، والثقوب السوداء فائقة الكتلة...

إنه لأمرٌ عظيم أن يميط عِلْم الكون الدقيق اللثام عن كَوْنٍ غريب، يتكون من: 7 أجزاء من الطاقة المظلمة، و 2.5 جزء من المادة المظلمة، و 0.5 جزء من غازَيْ الهيدروجين والهليوم (مع آثار ضئيلة من العناصر الكيميائية الأخرى). أمّا النجوم، والنيوترينوات، وفوتونات الأمواج المكروية، والثقوب السوداء فائقة الكتلة ـ التي تمثِّل البقية ـ فلا تضيف إلى ذلك كثيرًا. يُخبرنا كتاب «الخلطة الكونية» The Cosmic Cocktail ـ لعالمة الفيزياء الفلكية كاثرين فرِيْز ـ عن كيفية توصُّلنا إلى هذه الوصفة الغريبة، وماذا يمكن أن تعني، وما يمكن أن يأتي فيما بعد.

الكتاب نفسه هو خلطة تمزج العلم بالسيرة الذاتية. فعندما يهدِّد طوفان الحقائق والشروح القارئَ بإرباكه، تُبهِجنا فرِيْز بشذرات من حياتها الشخصية. وبذلك نحصل على معلومات عن أماكنها المفضّلة في مدينة نيويورك للرقص وتناول كأس من المشروب، أو للتزلُّج في أسبِن بكولورادو، إضافة إلى حكاياتها المسلِّية عن عمل صيَّادي المادة المظلمة الذين قابَلَتهم وتعاونت معهم، ومنهم برنارد سادولِت، وخوان كولار. أما الصورة التي رسمتها لرائد الجسَيْمات الفلكية ديفيد شرَمّ، الذي توفي في عام 1997 على نحو مأساوي وهو يحلِّق بطائرته متجها إلى بيته بمناسبة عيد الميلاد، فقد كانت بالغة التأثير. وكل ما أوردته كان مؤثِّرا، فهي لم تكن مُمِلَّة قط، لا في كلامها المنثور، ولا في حياتها. وكتابها هو رؤية شخص من الداخل لكيفية تطوُّر علم الكون، منذ ستينات القرن الماضي، من عِلْمٍ هامشيّ إلى تخصُّص يدفع بحدود الفكر في الفيزياء إلى الأمام، وذاك تطوُّر كان لفرِيْز فيه دور جَلِيّ فعال.

لقد أعطتنا فرِيْز ـ رائدة الخلطة الكونية بلا منازع ـ سلسلة من المقدِّمات الواضحة والمفهومة إلى المفاهيم المفتاحيّة لعلم الكون، وتقنياته الرَّصْدية. ولم يكن نهجُها مصطنعًا، بل كان دائمًا يقوم على معطيات كَمِّيَّة. وكانت معالجتها للتركيب النووي جوهرية، فقد بيَّنت كيف أن الفيزياء النووية للانفجار العظيم المبكر تركتنا مع كون مادته العادية مؤلَّفة ـ في معظمها ـ من الهيدروجين والهليوم، حتى إنها حسبت نسبة هذين الغازين من خلال تقديم اثنتين من المعادلات القليلة جدًّا في الكتاب.

«قد يتساءل المرء إنْ كان التركيب الظاهري الغريب للخلطة الكونية يلمِّح إلى نهاية تُحفة آينشتاين الثمينة، أم لا».

تَرَكَّز اهتمام معظم الكتاب في اصطياد المادة المظلمة. فقد ألمحَ الفلكي الفرنسي يوربا لا فيريَر في القرن التاسع عشر إلى وجود كوكب جديد، أسماه فولكان، لتفسير الشذوذ الغريب في مدار عطارد، لكنْ تبيَّن أنه كان مخطئًا، لأنه استعمل نظرية قديمة، ألا وهي الثقالة النيوتونية، بدلًا من ثقالة نظرية آينشتاين في النسبية العامة. وقد يتساءل المرء إنْ كان التركيب الظاهري الغريب للخلطة الكونية يلمِّح بدوره إلى نهاية تُحفة آينشتاين الثمينة، إلّا أن فرِيْز تجادل بقوة بأن المادة المظلمة ليست فولكان النسبية العامة، وأن البحث عن مكوِّناتها الجسَيْمية سوف يُكَلَّل في النهاية بالنجاح.

أما النقطة المحورية في الكتاب، فهي البحث عن جسَيْمات المادة المظلمة. فبدءًا من فريتز تسويكي في أوائل ثلاثينات القرن الماضي، أقام الفلكيون دليلًا قاطعًا على وجود المادة المظلمة. ويُستدل على وجودها من جذبها الثقالي للنجوم في درب التبانة، ولمجرات برُمّتها في مجموعات المجرات. وعلى غرار النيوترينوات، نحن لا نُدرك وجودها. إننا لا نشعر بها، ولا نراها. وفي الحقيقة، اعتُقد في الماضي أن النيوترينوات ذات الكتلة الملائمة هي المادة المظلمة، إلا أن هذه الفكرة الخلابة لا تنطوي على الكون الذي ترصده تليسكوباتنا، مع أن النيوترينوات موجودة فعلًا.

وعلى غرار النيوترينوات أيضًا، لا يوجد تأثير متبادَل بين جسَيْمات المادة المظلمة والمادة العادية، أو ليس ثمة الكثير منه. ولم يؤدِّ البحث المكثَّف طوال أكثر من عقدين حتى الآن إلى اكتشافها، إلا أنه وضع بدلًا من ذلك حدا أعلى للمقطع العرضي لجزيء المادة المظلمة الذي يتبادل التأثير مع المادة العادية، أو لاحتماله.

تصف فرِيْز ـ على نحو لافت ـ السباق التنافسي الشديد نحو الحد الأصغر للمقطع العرضي، مقدِّمة اللاعبين الرئيسين مع تجهيزات القياس واسعة التنوُّع التي يستعملونها. ونظرًا إلى أن التجهيزات مصنوعة من مادة عادية، فإنها لا تتأثَّر عمومًا بمرور جسَيْمات المادة المظلمة. وحتى من أجل أضأل احتمال للنجاح، يجب بناء كواشف هائلة الأحجام، أو تطوير تقنيات كشف خيالية. ومن الأفضل تحقيق كليهما، لأن الأمل من معظم كواشف اليوم هو أن ينعكس جسَيْم مادة مظلمة عن نواة في وسط كاشف، مؤديًا إلى اهتزازا يولِّد مقدارًا ضئيلا من الضوء أو الحرارة يمكن للكواشف التقاطه، والاستدلال منه بالتالي على وجود الجسَيْم. وهذا ليس مجازفة اقتصادية، فاكتشاف الجسَيْم ـ مع جائزة «نوبل» المضمونة له ـ يمكن أن يكون قاب قوسين أو أدنى في أي لحظة.

يُعَدُّ كتاب «الخلطة الكونية» تمهيدًا ممتازًا للمهتمِّين من غير المختصين، أو لأولئك الذين قضوا وقتًا طويلًا في مختبرات فيزياء الجسَيْمات، ويرغبون في الاطلاع على توجُّهات علماء الكون. والكتاب سوف يكون ملهمًا للطلاب أيضًا بلا ريب. فهو يميط اللثام عن سِرَّيْن عظيمين عن العِلْم، هما: ما كان الأب الروحي للنيوترينوات الشمسية ـ جون باكول ـ يردِّده غالبًا في محاضراته قائلًا: «العِلْم يمكن إدمانه، ولا يمكن التنبُّؤ به». ويمضي الكتاب عبر المنعطفات، والنهايات المسدودة، والإنذارات الزائفة، والفرص الضائعة، والمفاجآت. وفي يوم من الأيام، قد يصطدم امرؤٌ بمادة مظلمة.

.........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق