لقد أثبتت التجارب فشل الدول التي اعتمدت العمران على حساب الفكر، إذ لا مناص من الربط بين المعاصرة وبين عناصر التحديث في الجانبين الفكري والمادي، ولابد أن يتم هذا التزاوج بين الفكر والمادة في ظل أجواء الحرية، ذلك أن الحرية والالتزام تعني إعطاء الكفاءات الاقتصادية والفكرية دورها...

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقته النقاشية في ملتقى النبأ الأسبوعي موضوعا تحت عنوان (الوقوف على حافة الهاوية.. كيف تنهار الدول؟)، شارك في الملتقى عدد من الكتاب والباحثين ذوي التوجهات المختلفة.

نص الورقة التي نوقشت قدمها واعدها الباحث في المركز محمد علاء الصافي على الشكل التالي:

الطموح لبناء الدولة القوية المستقرة يمثل هدفا لجميع القادة والشعوب المتمدنة، وحماية كرامة افرادها، وصون مكانة الدولة برمتها، ولا يمكن الوصول الى هذه الأهداف إذا كان الاقتصاد بدائيا أو هشا، وإدارة الدولة متخلفة.

ومن الأمور البديهية أن يؤدي الاقتصاد المتين الى هذه النتائج واقعيا، فهو كفيل بتحقيق الحياة السعيدة للفرد والمجتمع على حد سواء، وتتضح هذه النتائج، من خلال ما تحققه القوة الاقتصادية للدولة، والسياسة الحكيمة لقادتها وقدرة الطاقم الاقتصادي على التخطيط والتنفيذ الجيد، الذي سيساعد الجهات المعنية على أن تجعل الدولة والمجتمع في درجة الأمان.

في كتابه القيّم (لنبدأ من جديد)، يرى المرجع الراحل السيد محمد الحسيني الشيرازي، ان من أهم ما يجب الاهتمام به في تجديد الحياة هو حفظ كرامة الفرد والمجتمع عن طريق بناء الاقتصاد المتوازن مع التطور الفكري، كونه المنطلق لحماية كيان الدولة وتحصين المجتمع من آفات الضعف الاقتصادي، كالفقر وتوابعه.

الدولة الفقيرة لا يمكنها تأمين الحياة الكريمة لشعبها، لذا من المهم أن يتحقق هذا الشرط، لأن الإنسان، يكون معرضا للمهانة والعوز، نتيجة لعدم تحقق الشروط المطلوبة للعيش الكريم، حيث يبقى بين مطرقة الفقر، وسندان الحياة ومتطلباتها، من ناحية مواصلة العيش ومستلزماته، ولهذا غالبا ما يربط الامام الشيرازي، بين قضية التجديد على نحو عام، وبين شرطية التخطيط الاقتصادي المحدث، لسبب واضح أن هذا الربط العلمي والعملي يضمن بناء اقتصاد مهني متطور ومعافى، ما يؤدي بالنتيجة الى تشييد دولة معاصرة تقوم على الركائز الحديثة في تفاعلاتها المتنوعة، لاسيما في المجال الاقتصادي.

ارتباك العلاقات السائدة

إن طريقة تفكير الإنسان سوف تنعكس على طبيعة حياته، ونمط العيش، وسبل التعامل مع المجالات الحياتية المختلفة، هنا لا مناص من تجديد الفكر وأسلوب التعاطي مع التطور الاقتصادي الإنتاجي، فلا فائدة من أن تتطور ماديا على حساب التطور الفكري المطلوب، أي لابد أن يكون هناك توازن بين التطور في المجال المادي والعمراني، وبين التطور الفكري والثقافي وزيادة الوعي لعموم المجتمع، وفي حال تطور احدهما على حساب الآخر، سيحدث اختلال في منظومة القيم لدى المجتمع، وسوف ترتبك الكثير من العلاقات والاعراف والتقاليد السائدة، بين شرائح ومكونات المجتمع كافة، فضلا عن حالات التذبذب بين النجاح والفشل، لذا ينبغي استثمار طاقات الإنسان، ونعني هنا الدولة والمجتمع بأفضل صورة ممكنة.

ان الطاقات قد تهدر كما هي العادة عند كثير من الناس، وبصراحة يُعد الهدر ثقافة اجتماعية باتت تترسخ بشكل مستمر في العديد من المجتمعات وخاصة المجتمع العراقي، والهدر يمثل أحد أوجه الفساد الذي يمثل العقبة الأهم في تطور أي بلد، وبالتالي نحن كمجتمع نتشارك المسؤولية في تفاقم الفساد، فالفساد والهدر في الموارد لا يتعلق بالحكومات وحسب، بل هو بالأساس ظاهرة اجتماعية قبل أن تكون سياسية متجذرة في داخلنا، ولكم أن تتخيلوا حجم الإسراف والافراط في الاستهلاك بمجتمعنا العراقي سيما فيما يتعلق بأبسط الاشياء مثل موائد الطعام مروراً بهدر المال في الانفاق الترفي والكمالي وهدر استخدام المياه والطاقة وبشكل سيء، فضلاً عن الأهم وهو هدر الوقت وعدم استثماره في أشياء مفيدة.

لذلك فإن أي جدل في هذا المجال يصب لصالح التطور الفكري المادي المتوازن، حيث يُعدّ التطور الفكري المرافق للتطور المادي، شرط من شروط النجاح في البناء المجتمعي الامثل، وأنّ المسبب الأول للتخلّف هو الفكر المنحط.

هذه هي قيمة الفكر المتجدد، ترتفع بالمنجز المادي الى مرتبة أعلى وتجعل منه تطورا مجزيا، ولابد أن يكون هناك ربط بين تجديد التفكير وبناء الاقتصاد الجيد، وتخليص الإنسان من شبح الفقر، أي هنالك ارتباط وثيق بين الفكر الجيد والاقتصاد الجيد في ظل أجواء الحرية، فكلما كانت أجواء الحرية متوافرة، كلما كانت فرص التحديث الفكري أكثر حضورا، وهذا ينعكس على النجاح الاقتصادي والتطور المتوازن بين (المادي والفكري).

اذن بدون حرية لا يمكن تحقيق تطور فكري واقتصادي يؤدي الى دولة رخاء واستقرار ومجتمع متماسك، والعكس من ذلك هو الاستبداد الذي ينتج مجتمع هش وانسان مقهور وحكومات فاسدة وظالمة، وهذه المعادلة اثبتتها التجارب الإنسانية المتعددة باختلاف قومياتها واعراقها واديانها.

كذلك عدم التوازن في اركان هذه المعادلة يؤدي لنتائج مشابهة، حيث ان هناك دول تأخرت كثيرا بسبب فقدان حالة التوازن بين تطوير الاقتصاد وتطوير الفكر، وقد أظهر لنا واقع كثير منها أنها أهملت التجديد الفكري، واعتمدت على الثراء المادي لاسيما في مجال العمران، فباءت كل خططها بالفشل.

التوازن في كل شيء وفق قاعدة (لا إفراط ولا تفريط)، تُرى ما فائدة بناء الابراج وناطحات السحاب، فيما يعاني الاقتصاد من الضعف والترهل ويحاصر شعبك البطالة والعوز؟

ما فائدة أن تحقق مجتمعا صناعيا متقدما، في مقابل تدمير البيئة والمناخ ومواجهة ما تعانيه البشرية من ارتفاع درجات الحرارة وتلوث الهواء والمياه وانتشار الأوبئة والامراض؟

لقد أثبتت التجارب فشل الدول التي اعتمدت العمران على حساب الفكر، إذ لا مناص من الربط بين المعاصرة وبين عناصر التحديث في الجانبين الفكري والمادي، ولابد أن يتم هذا التزاوج بين الفكر والمادة في ظل أجواء الحرية، ذلك أن الحرية والالتزام تعني إعطاء الكفاءات الاقتصادية والفكرية دورها في بناء الدولة، فالحياة لا تصح بعيدا عن الحرية، والفكر لا ينمو ويصح بعيدا عن التحرر، حتى التطور المادي لا يمكن تحقيقه.

ولعل ما تعيشه الدول الإسلامية والعربية من حالات تخبط وتردي وتراجع في الفكر والبناء الاقتصادي، هو ناتج طبيعي لحالات التخلف والفساد الذي تسبب من فقدان التوازن الفكري المادي، لهذا عانت معظم هذه الدول من الفقر وسوء الإدارة والتخطيط والأزمات المتجددة وهو المعنى الحقيقي للوقوف على حافة الهاوية.

في محاولة لوصف الوضع في العراق على نحو دقيق وموضوعي اتفق عدد من المراقبين والمحللين، على أن العراق بوضعه الراهن يتمثل لهم في هيئة اقتصاد ريعي متهالك وقطاع صناعي وزراعي شبه منهار أن لم يكن منهارا بالفعل باستثناء محاولات فردية من مزارعين وصناعيين ومستثمرين لا دخل للدولة بسعيهم لتأسيس مشاريع متواضعة. هناك أيضا ارتفاع مقلق في نسب الفقر خصوصا في مناطق وسط وجنوب العراق، يرافقه إنفجار سكاني هائل من دون خطط لتحديد النسل او السيطرة على تناميه أو إدارة الثروة البشرية بصورة صحيحة.

ما يجري الآن مجرد عملية بسيطة لإخراج النفط وبيعه وتخصيص الإيرادات كنفقات تشغيلية، وفي حال عجزت الإيرادات النفطية للنفقات التشغيلية كما يحصل سنويا ومنذ عدة أعوام، بسبب الهدر المالي الكبير وتذبذب أسعار النفط، يتم اللجوء الى الاقتراض الداخلي والخارجي، مما دفع الدولة الى التوقف تماما عن إعادة بناء ما دمرته الحروب الماضية وتطوير قطاع الخدمات الأساسية وكذلك الشروع بإطلاق تنمية مستدامة منذ عام ٢٠٠٣ والى يومنا هذا.

يعتمد الاقتصاد العراقي على النفط بشكل رئيسي إذ تبلغ الإيرادات النفطية نسبة ٩٦٪ من الموازنة الاتحادية الفعلية والنفط كما هو معروف يرتبط بسوق عالمية تتقلب فيه الأسعار على نحو دائم ولا يقترب من الاستقرار في غالب الأحيان. وبذلك حول النفط الاقتصاد العراقي الى اقتصاد ريعي، وأصبحت الدولة المشغل الرئيسي للأيدي العاملة بمجموع بلغ نحو ٣،٢٦ مليون موظف، عدا العاملين بالعقود الشهرية والأجور اليومية المؤقتة، وفئة الرعاية الاجتماعية والمتقاعدين. ولم تعد عائدات النفط العراقي قادرة في هذه المرحلة على تغطية نفقات تشغيله، وبلغت النفقات التشغيلية للوزارات والمحافظات في الموازنة الاتحادية لسنة ٢٠٢١ على سبيل المثال أكثر من ٨٨ تريليون دينار مقابل إيرادات نفط تبلغ ٨١ تريليون دينار، لذلك يمكن اعتبار العراق من ضمن النماذج السيئة جداً في استخدام النفط كمورد للدخل الوطني.

عدم التوازن بين القطاع العام والخاص

كان العراق في الماضي القريب وعلى امتداد خارطته الزراعية يعد سلة غذاء المنطقة، لكنه وبعد سلسلة الحروب تراجعت خارطته بشكل ملحوظ وبدء القطاع الزراعي يتراجع شيئا فشيئا ومع تكرار انحسار كميات المياه المتدفقة من دول الجوار عبر نهري دجلة والفرات، الى جانب فقدان سيطرة الدولة على الأراضي الزراعية وشيوع ظاهرة تجريف البساتين وتحويلها الى مناطق سكنية وتجارية في عموم المحافظات وهجرة الفلاحين الى المدن بهدف الحصول على وظائف مدنية وعسكرية لوحظت بوادر انهيار القطاع الزراعي.

الصناعة هي الأخرى لم تكن بأحسن من الزراعة، حيث انهار القطاع الصناعي متأثرا هو الآخر قبل ٢٠٠٣ بفعل تأثير الحروب والحصار الذي أمتد لنحو ١٣ عاما، ومن ثم فقدان السيطرة على الحدود خلال السنوات التي أعقبت سقوط النظام السابق وتدفق مختلف السلع والبضائع تحت ما سمي في حينه فوضى الاستيراد والتي استمرت حتى يومنا هذا برغم تحديد ومسك المنافذ الحدودية البرية والبحرية منها من قبل أجهزة الدولة وقواتها الأمنية، حيث تفتقر عمليات الاستيراد الى المعايير الاقتصادية والمالية المعمول بها عالميا، والتي قضت على آخر ما تبقى من مصانع لم تعد قادرة على منافسة المستورد سواء من دول الجوار أو العالم، وبالتالي أغلقت أبوابها وسرحت آلاف الأيدي العاملة لتنضم الى جيش العاطلين التي ارتفعت نسبتهم الى 40%.

وللاستزادة من الأفكار تم طرح السؤالين التاليين على الحضور والمشاركين افتراضياً:

السؤال الأول: لماذا تذعن بعض المجتمعات وتقبل العيش تحت حكم مستبد او فاشل؟

السؤال الثاني: ما الذي يجعل الدول هشة قابلة للانهيار، وكيف يمكن تجنب ذلك؟

المداخلات:

استنزاف الموارد والتدميرية الذاتية

الشيخ مرتضى معاش:

يبدأ مداخلته بالآية القرآنية الكريمة: "ان المبذرين كانوا اخوان الشياطين".

التبذير هو اعلى مستويات الهدر، وهو يعني التبديد، وتدمير كل شيء وهذه من أفعال الشيطان الذي بطبيعته يقود الانسان الى جهنم والسقوط المطلق.

نجاح المجتمعات وفشلها قائم على إدارة الموارد، استنزاف الموارد بشكل مفرط هو ما يجعل المجتمعات تقف على حافية الهاوية ومن ثم الانهيار.

الناس والحكومات لا تفكر بعواقب الأمور، بل تفكر على ما تحققه من مصالح آنية ومثال على ذلك ما نشاهده من انهيارات أرضية في بعض البلاد بسبب الاستنزاف الجائر للمياه الجوفية وهذا من اهم الأسباب لحدوث هكذا نوع من كوارث.

من اكبر المشكلات في بلادنا هو التعامل مع الموارد بطريقة الاستنزاف، وهذا ما يؤدي الى صراعات وحروب وعنف وتدمير تجعلنا نقف دائماً على حافية الانهيار وهذه هي التدميرية الذاتية كما يصفها ايريك فروم.

الاستبداد والفساد هما من اهم عوامل التدمير، والاستبداد دائماً ما يقودنا الى سيطرة  الانتهازيين الفاسدين على مقدرات المجتمع، واستنزاف موارده وثرواته بشكل كارثي لتحقيق الأرباح السريعة لكن دون التفكير بالحاضر والمستقبل والأجيال القادمة والتأثيرات المناخية والاجتماعية والتفاوت الطبقي المتحققة نتيجة هذا الاستنزاف، ولكن من الممكن إدارة الموارد بصورة صحيحة وعقلانية لتنميتها ومضاعفتها بدل استنزافها.

لتجنب الكوارث يجب التفكير بالعواقب واستخدام العقل، (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره)، وعلى العقلاء ان يكون لهم القول الفصل ويخرجوا المجتمعات من الوقوف على حافة الهاوية ويفكرون في المستقبل والا فإننا نتجه الى مزيد من العنف والفساد والاستبداد.

العمل على بناء الشراكات ومحاربة الاحتكار الذي يؤدي دائماً الى الظلم والتعسف والتهميش وما يترتب عليه من ثورات وانتفاضات واحتجاجات ويجعلنا باستمرار على حافة الانهيار، بينما بناء الشراكات وتطوير العلاقات محليا ومع الدول الأخرى وتطوير المجتمع المحلي وفسح المجال امام القطاع الخاص للعمل والابداع والإنتاج ينقلنا لمرحلة الاستقرار ويبعدنا من شبح الانهيار.

بناء ثقافي جديد

الكاتب باسم الزيدي:

يرى أن الاستبداد في مجتمعاتنا العربية تحول الى ظاهرة، لأنه في الغالب نجد شعوبنا تبحث عن "المستبد العادل" الذي يجمع الشيء ونقيضه وهذا ما يجعلها مذعنة منقادة له، بينما لا تفكر الغالبية بالديمقراطية والحرية ومحاولة تجربة شيء جديد نجحت في الدول المتقدمة.

نحتاج الى بناء ثقافي جديد قائم على الحرية وهذا امر صعب جداً وفق المعطيات الحالية لكنه ليس بالمستحيل.

موت الدولة

الدكتور قحطان الحسيني:

قضية الاستبداد ذات بعد تاريخي تعود بنا الى زمن تأليه الحاكم وتقديسه وهذه نجدها تتكرر في مجتمعات اللاوعي، نتيجة انتشار الجهل والتخلف.

لماذا تنهار الدول الهشة؟ هناك عدة أسباب منها داخلية وخارجية ومن اهم أسباب انهيار الدول هو الإدارة السيئة. الكثير من الفلاسفة شبهوا الدولة بالكائن الحي" فهي تولد وتنمو وتكبر وتصل الى اكبر قدرة ممكنة لتستقر على ذلك فترة من الزمن ثم تبدأ بالضعف والانهيار وصولاً الى موت الدولة حسب التوصيف" ولا يمكن ان تبقى الدول على حالها والتاريخ مليء بتجارب الدول والامبراطوريات مع اختلاف المدد الزمنية بينها.

الاستبداد البشري

حيدر الجراح مدير مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث:

يبدأ مداخلته بوصف الاستبداد "أن تقول نعم في موقف يتطلب منك قول لا".

لماذا نركز دائماً على ان الاستبداد ينحصر فقط بين الحاكم والمحكومين، في حين انه تغيب عنا الصورة الكاملة للمجتمع من صور استبدادية لا تعد ولا تحصى تبدأ من العائلة والمدرسة والشارع والكثير من الأماكن التي نجد فيها صور متعددة للاستبداد البشري.

البناء الصحيح للبنى التحتية

الباحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الستراتيجية حامد الجبوري:

في العادة هناك بنى فوقية وبنى تحتية لكل شعب، هناك علاقة ترابطية بين هذه البنى، ثقافة المجتمع ووعييه وتطوره الفكري وتقبل الرأي هي بنى تحتية تؤدي الى بنى فوقية من نظام سياسي ديمقراطي واقتصاد متقدم وتعليم متطور وهكذا، الأساس دائماً هو ضعف البنى التحتية لكل مجتمع وهنا تكمن مشكلتنا الاساسية.

لم نصل حتى الان الى مستوى الحرية الذي يتيح لنا تحقيق البناء الصحيح للبنى التحتية السليمة للمجتمع وعند تحقق مستوى عالي من الحرية سنتجاوز عقبات الاستبداد لبناء المجتمع الصحيح.

خلق جيل متعلم واعي

الصحفي عصام علاوي:

العنف من اهم أسباب تنامي ثقافة الاستبداد في المجتمع العراقي، وهذا ما نشاهده لو حللنا تاريخ العراق الحديث وتغير الحكومات والأنظمة بالانقلابات العسكرية وثقافة القمع والقتل، نحتاج الى جيل جديد يؤمن بالحرية والديمقراطية وثقافة السلم عبر بناء المؤسسة التعليمية وتطويرها.

خلق جيل متعلم واعي كفيل بوصولنا الى مرحلة متقدمة على جميع الأصعدة، وجيل الشباب الذين خرجوا في احتجاجات تشرين شاهدنا كيف انهم واجهوا قمع السلطة بالسلمية رغم وجود بعض الحالات السلبية من العنف والتي ارجع سببها لقلة الوعي السياسي والتعليمي لدى بعض الشباب.

الإذعان بقناعة للمستبد

الدكتور حسين السرحان:

تجهيل المجتمعات وعسكرتها والفقر وانتشار الأوبئة تحول المجتمع الى مجتمع حاضن للاستبداد والمستبدين وتخضع للصورة السلبية، يعني انه يتقبل صورة الاستبداد ولا يذعن لها بسبب الخوف والبطش وحسب وهنا تكمن الخطورة.

الخوف من المستبد ممكن علاجه عبر تغيرات المجتمع سواء ثورة شعبية او ضعف عام للمستبد وسقوط جدار الخوف، لكن الإذعان بقناعة للمستبد هذا هو الخطر الأكبر، خاصة اذا تحول الى قبول لشخص وارتبط مصير المجتمع بما يرتكبه من تصرفات كما نلاحظ ذلك في الأنظمة الشمولية وكيف ان المجتمع كله ينهار بانهيار الحاكم المستبد.

التحرر من الخوف لا يبدأ الا من خلال حرية الفكر، لذلك نرى ان حرية الفكر في معظم دول المنطقة غير متوفرة وانت ممنوع من التفكير بل ان هناك من يفكر ويقرر عنك دائماً وهذا هو الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة بشكل أساسي.

استحسان الاسوأ

الباحث احمد حيدر:

هذا الموضوع المطروح في هذه الورقة هو من اهم المواضيع التي شغلت الاوساط الدولية في العقدين الاخيرين، بسبب ازدياد عدد الدول التي تصنف على انها دول هشة.

وتعرف منظمة العمل الدولية الهشاشة على انها (حالة من عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، التي تسببها حالات مفاجئة او دورية من عجز الجهات الفاعلة في سوق العمل عن توفير العمال او الوصول الى فرص عمل لائقة بسبب تدخل عامل خطير او مجموعة عوامل سواء كانت من الداخل او الخارج).

اما مجموعة الG7 فتعرف الهشاشة على انها (فترة مؤقتة في حياة الامة حيث الانشطة الاقتصادية والتنموية والاجتماعية المستدامة تفرض تركيزاً اكبر على النشاطات التكميلية على حساب النشاطات الاساسية لبناء السلام والدولة، مثل التسويات السياسية، الامن، توفير فرص العمل…الخ).

بالتالي فإن الهشاشة تعني عدم الاستقرار الذي يصيب الدولة في اثناء عملية البناء. وهذه الظروف الاستثنائية تشمل حالات عدم الاتفاق السياسي بين الفرقاء السياسيين، الذي ينعكس عندما يتطور فيما بعد على زعزعة الاستقرار الامني، مما يؤدي الى جعل بيئة الدولة طاردة للاستثمارات الخارجية، وهروب رؤوس الاموال الوطنية الى الخارج، لان رأس المال جبان ويحتاج للأمن كي يبدأ بالاستثمار، مما يقلل فرص خلق وظائف جديدة وبالتالي ينعكس على ازدياد الاعتماد على الاقتصاد الريعي ويظهر التضخم وتزداد المشاكل الاقتصادية التي تتحور فيما بعد الى مشاكل اجتماعية تسبب تفكك الشبكة الداخلية لفئات المجتمع.

وبالتالي فأننا اذا اجبنا عن (ما الذي يجعل الدول هشة قابلة للانهيار)، فإن ذلك سوف يقودنا الى الاجابة عن السؤال الاول لماذا تذعن بعض المجتمعات وتقبل العيش تحت حكم مستبد او فاشل)، وذلك لان دخول المجتمعات غير المستقرة في صراعات داخلية طويلة الامد نسبياً يؤدي الى استحسان الاسوأ، فبدلاً من البحث عن معنى واضح للحرية بكل انواعها، وخصوصية ثابتة لهذا المجتمع، يتم البحث عن منقذ من الشتات والصراع والتشرذم الذي تعيشه هذه الامة، وقد عانت من هذا الامر المانيا على سبيل المثال خلال الفترة بين الحربين العالميتين، والتي ادت الى صعود حزب العمال الوطني الاشتراكي الالماني (الحزب النازي) بقيادة هتلر الى رأس الحكم عن طريقة انتخابات حرة.

والذي اثمر فيما بعد عن الحرب العالمية الثانية، وهزيمة المانيا وتقسيمها الى جزئين (جزء شرقي اشتراكي، جزء غربي رأسمالي) عن طريق جدار برلين.

أن اهم معالجة قامت بها الدول الغربية في المانيا، هي دمجها في محيطها الاقليمي عن طريق ربط اقتصادها باقتصادات الدول الكبرى في منطقتها كفرنسا وهولندا وبلجيكا، الامر الذي ساهم بجعل المانيا الغربية اغنى وارفه من المانيا الشرقية التي بقيت منعزلة عن محيطها بسبب سيطرة الكتلة الشيوعية عليها.

واهم جزء ساعد الالمان على هدم جدار برلين وتوحيد المانيا في عام ١٩٨٩، كان ايجاد منطق الحرية الخاص بالالمان، ليست الحرية من، بل الحرية الى، وهذه الفلسفة في ايجاد الذات الالمانية ساعدت على ايصال المانيا الى مصاف الدول الكبرى في يومنا الحاضر.

الخلاصة ان المجتمعات الهشة تحتاج الى شقين اساسيين من العلاج:

١- شق اقتصادي يساهم في رفع حالة ابناء هذه المجتمعات من حالة الفقر الى حالة اقتصادية مستقرة نسبياً.

٢- شق ثقافي تربوي، يبحث في خصائص المجتمع ذاته عن المفاهيم التي تساعده على تجاوز مأزق او حالة الهشاشة، كالحرية، او ادارة التنوع الديني والمذهبي (كما في العراق).

مما يحد من اثار وحدة الصراعات والنزاعات الداخلية وينتقل بالمجتمع الهش الى مرحلة بناء السلام والدولة، وبالطبع هذا الشرح لا يتجاوز تأثير ودور العامل الخارجي على اثراء الهشاشة الداخلية للدولة، إذ أن السياسة هي فن استراتيجي لخلق فرص جديدة وممكن عن طريق استغلال جميع العوامل الداخلية منها والخارجية، وبناء حالة او نموذج تتجاوز به دولة ما حالة الهشاشة وتمتص الصدمات الداخلية قبل الخارجية، لكي يصبح لدى هذا المجتمع رؤية استراتيجية لطرق حماية هذا الاستقرار والاستفادة من فوائده الان ومستقبلاً.

أركان ثلاثة في الحضارات

الدكتور محمد مسلم الحسيني:

حضارات البلدان تقوم على أركان ثلاثة هي: شعب واع واقتصاد متين وحاكم أمين. حصول الخلل في أي ركن من هذه الأركان الثلاثة في بلد ما، يؤدي الى خلل في صيرورة وبناء ذلك البلد. يتضعضع كيان البلد إن التهم الجهل والتخلف عقول أبنائه حيث يحل الوهم مكان الحقيقة فتحدث الغشاوة في الرؤية، فيذهب المرء ضحية وهم الإدراك والاحساس فيدرك غير الحقيقة ويحس بغير الواقع ويحصل الضياع، كذلك شأن الاقتصاد، فإن كان المثل يقول "العقل السليم في الجسم السليم" فيجوز هنا أن نقول "الاقتصاد السليم في البلد السليم". إن ساد الأمن وشاعت الأمانة وسخرت الكفاءة وتبلور النظام في بلد سلم اقتصاده وترعرع ونشأ والعكس صحيح.

أما الحاكم وهو قمة الهرم فهو مصدر الداء والدواء معا لمسيرة الأمة وحضارة البلد. البلد الذي يقوده حاكم نزيه متمرس كفوء مدرك عادل ومؤمن بوطنه سيقود بلده لبر الأمان، بينما الحاكم مسلوب الفهم والكفاءة يقود بلده لحافة الهاوية والانهيار. فالعلاقة جدلية بين هذه الأركان الثلاثة لا ينكرها أحد، إن اجتمعت هذه الأركان إيجابا تجددت الحضارة وانتعش البلد، وان اختل أي ركن فيها تقهقرت الحضارة وحصل ما نخشى ونخاف. الحاكم المستبد حينما يبطش بشعبه يجعله غارقا في الجهل والتخلف وحينما يمسك اقتصادا قوياً يهدره ويبدده. وهكذا فالنهوض يبدا برفع الرأس اولا كي ترتفع الهامة، فالعراق المعتمد كليا في اقتصاده على النفط عليه أن يسرع في بناء بنيته التحتية والفوقية قبل أن يفقد النفط قيمته وحاجة العالم اليه في ظل التوجه السريع لاستبدال مصادر الطاقة. دون الإسراع في تحضير العراق نفسه لواقع جديد ومنظور فإن مصيره سيكون في محطة اللاوجود لا سمح الله.

الاستبداد والهشاشة

الدكتور اسعد كاظم شبيب:

في تفسير الظاهرة الاستبدادية هناك عناصر مختلقة تساهم في ركون الناس إلى المستبد منها دغدغة المشاعر واللجوء إلى الشعارات وعمليات ما يمكن أن نسميه التنويم المغناطيسي عبر توظيف محددات معينة تجعل من فئات مختلفة من الناس تخضع إلى الاستبداد، إضافة إلى عنصري الخوف والترهيب اللذان يلجأ إليهما المستبد طوال حكمه، فالمستبد او الطاغوت يوظف العناصر المذكورة في تثبيت أركان حكمه، ووفق للنظرية الخلدونية فإن الحاكم يثبت أركان دولته في مرحلته الأولى عبر طور الظفر والاستيلاء ومن ثم تتحول إلى طور الاستبداد وهكذا إلى أن تصل الدولة إلى طورها الاخير وهو طور القنوت والمسالمة وهو بمثابة هرم الدولة وموتها، ومن هناك نتفق مع مفكرين آخرين من ان الاستبداد والفشل وأسباب أخرى كالفساد يؤدي بالدولة إلى أن تتحول إلى دولة هشة مهما تظاهر حكام الدولة بالقوة او سيادة النزعة الاولغارشية.

من هنا نوصي بضرورات اعتماد العمل المؤسساتي وايصال الخبرات والكفاءات وأصحاب التخصص لإدارة الدولة لان هذه العوامل تساهم في معالجة العجز والهشاشة التي تصيب الدولة ونظامها السياسي مما تودي إلى تداعيات كبيرة وخطيرة على مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وحتى التعليمية والتربوية من حيث ان الاستبداد في الحكم وهشاشة الدولة يوديان إلى ذات النتائج وهنا بمأزق متشابهة لكن النمط مختلف.

مكامن القوة والكفاح والبناء

الدكتور سليم كاطع علي:

ان تحديد اسباب فشل الدولة وانهيارها لا يمكن قياسه وفقاً لعامل محدد، وإنما هو نتيجة تراكم جملة من العوامل والمسببات التي تدفع باتجاه فشل الدولة وانهيارها في مرحلة ما، وهنا يمكن القول ان أحد اسباب انهيار الدولة هو فشل قياداتها في ان تحدد الفكر والمنهج الصحيح في عملية التغيير نحو غاياتها المرجوة، وعدم مراجعة التجارب التاريخية السابقة التي بذلتها الامم للخروج من أزماتها، وعدم وتقويم تلك التجارب تقويماً دقيقاً وأميناً وموضوعياً، إذ ان بداية كل نهوض يبدأ من الفكر والمنهج كونه المقدمة الصحيحة لكل عمل، وهو شرط للخروج بالإمة من ازماتها.

وهنا لا بد من الاشارة إلى ان المجتمعات والشعوب كما اثبتت التجارب التاريخية هي من تساهم في استمرارية الحاكم المستبد الفاشل، وتخضع له ولقراراته، وان هذا الحاكم المستبد سرعان ما يبدأ بإعادة إنتاج نفسه بانه المنقذ وان تغيرت مفردات خطابه. فالقيادات السياسية عندما تصل الى السلطة تتجه نحو توظيف السلطة وادواتها، بما يخدم مصالحها، وتتجه نحو اخذ الناس بالقوة، ولا يكون للمشاركة في مستقبل الدولة مجال او نصيب إلا ظاهرياً فقط، وهو ما يؤدي الى الانحسار والتراجع الحضاري في الكيان النفسي والفكري للفرد وفي المؤسسات والنظم كافة.

كل دولة تصل الى حافة الانهيار نجدها تمر في مرحلة صعبة جداً من تاريخ وجودها، تتسم بالتمزق والتفكك وضياع الهوية وانهيار المؤسسات، والعجز عن الخروج من حالة التيًه التي تتردى فيها، وعدم قدرتها على رد المخاطر والاطماع الخارجية نتيجة لضعفها وتراجعها.

وهنا يمكن القول ان عدم الاستقرار والعنف الداخلي وسيادة الظلم والقهر الاجتماعي بكافة عناوينه، وغياب العدالة والمساواة، وشيوع التطرف والتعصب، وعدم تلبية المطالب المشروعة للشعوب، من قبل الانظمة السياسية بمختلف انواعها، هي أحد عوامل انهيار الدولة مع مرور الوقت، اذ انه سيؤدي الى توقف الدولة عن أداء دورها السياسي الايجابي الذي يعود بالمنفعة على شعوبها، وهو ما ينتج عنه فقدان الحكومات المتعاقبة لمصداقيتها امام شعوبها، وتصبح عملية استمرارها موضع شك، وفاقدة للشرعية في نظر مواطنيها.

فضلاً عن ان غياب التخطيط والرؤية الاقتصادية، وضعف اغلب القيادات الادارية في الدولة، واعتماد الدولة على نظام اقتصادي ريعي يعتمد النفط مثلاً، كمصدر رئيس للدخل القومي، وانهيار القطاعات الاخرى. الى جانب إتساع حجم الفساد وتشابك حلقاته وترابط آلياته، وممارساته في نواحي الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والادارية، مع عدم إغفال خطورة اعتماد النظام السياسي على اُسس بعيدة عن المفاهيم الوطنية عبر إتخاذه للمحاصصة الطائفية والتوافقية كوسيلة لتسلم السلطة، وهي من المسائل التي أصبحت تهدد وجود الدولة، وتشكل عاملاً لانهيارها في المستقبل. ولعل ما تقدم، يمكن ان يتجسد في العراق كدولة تعيش اليوم أزمات متداخلة ومركبة في الوقت ذاته، أزمة أخلاق وقيم، ترافقها ازمات سياسية واقتصادية، وإدارية ومالية واجتماعية، وهي تشكل بمجملها عومل تهدد وجود الدولة العراقية ككيان.

ان معالجة موضوعية لكيفية تجنب انهيار الدول، يدفع نحو التأكيد على حقيقة ان لكل دولة تكوينها الخاص بها في قيمها وعقائدها ومفاهيمها، ولها دوافعها وتاريخها، شأنها في ذلك شأن مكونات بني الانسان، فاذا لم يتم التعامل معها عبر فهم تلك الجوانب، ومن خلال تلك المكونات فانه من الصعب تحريك مكامن القوة والكفاح والبناء فيها، وسوف تصبح عرضة للتراجع والضعف وربما الانهيار في مرحلة لاحقة من تاريخها. ومن ثم وفي سبيل تجاوز حالة التراجع والضعف في الدولة، والحيلولة دون انهيارها، فهناك ضرورة لنشر مبادئ العدل والمساواة والتسامح، والترويج لقيم الاعتدال والوسطية في المجتمع، ودورها في وضع الاسس والمفاهيم الصحيحة لتطور المجتمع وفقاً لنهج الاعتدال في الفكر والممارسة، وبعيداً عن الشعارات والمثاليات التي قد تعمق من الخلاف والتناقض بين افراد المجتمع.

فضلاً عن اهمية ايجاد نظام سياسي منسجم ومستقر، يعتمد الهوية والمصلحة الوطنية بدلاً عن الهويات والمصالح الفرعية الاخرى، والابتعاد عن المحاصصة السياسية والديمقراطية التوافقية، الى جانب اتباع سياسات اقتصادية مدروسة وخطط للتنمية الاقتصادية وبما يتناسب مع الأهداف الوطنية لحماية الاقتصاد الوطني من التهديدات أو الهزات الاقتصادية المصطنعة، التي تشكل عائقاً أمام التطور الاقتصادي وتعد عقبة رئيسة تعيق عملية الإصلاح الاقتصادي وتحقيق التنمية المنشودة، وهنا تبرز اهمية تنويع مصادر الدخل القومي وعدم الاعتماد على قطاع ريعي فحسب كقطاع النفط، لأن النفط بضاعة تخضع لتقلبات السوق العالمية والسياسات الاقتصادية لدول العالم المختلفة، ومن ثم فهو مصدر غير مضمون وغير ثابت، ويشكل خطراً على البلاد واستقرارها، مما يعرض مؤسسات الدولة وسياساتها وخططها المستقبلية للخطر، فضلاً عن ضرورة بناء مقومات القوة العسكرية للدولة، وبما يحقق استقرارها السياسي والاقتصادي والأمني.

الدولة ضرورة

الدكتور حميد مسلم الطرفي:

أن نظريات أصل الدولة وسبب نشوئها قد تدلنا إلى بعض الإجابة، فهوبز مثلاً يرى أن المجتمعات قد منحت الحاكم الحرية المطلقة في التصرف بشؤونها وتنازلت هي عن حرياتها له بعد ان ادركت أن بني البشر مجبولون على التوحش والتنازع وارتكاب اكبر الفظائع مع بعضهم البعض وهي بذلك اقتنعت ان لا مناص من الحكم المطلق للملك لكي يمنع هذا التنازع فالاستبداد وفق هذه النظرية حاجة تمليها الطبيعة البشرية هذا من جانب، ومن جانب اخر فان النفس البشرية تحمل توجهين في آن: الاول هو حب السلطة والحكم والثاني هو الطاعة والانقياد، والاستبداد فن من فنون الحكم يستثمر وبذكاء توجه الطاعة لدى البشر ترغيباً أو ترهيباً، فلا غرابة ان تجد شعباً يحمل ارثاً تاريخياً وحضارة عريقة ان يذعن لحاكم مستبد كالشعب الالماني في خضوعه لهتلر (1933-1945) او الروسي في خضوعه لستالين (1922-1953) وتعيش اليوم عشرات الشعوب تحت انظمة حكم شمولية استبدادية. لذا فقهر الشعوب واخضاعها لا يتعلق بشعب دون آخر وانما يتصل بإجادة فن الاستبداد، اما عن الفشل فالمستبد يدعي انه الانجح بين اقرانه من الشعوب ويسوق هذا الادعاء عبر آلته الاعلامية واتباعه فمن اقتنع بها والا فالترهيب كفيل بإخضاعه.

أما فيما يتعلق بهشاشة الدول وقابليتها للانهيار، فهنا لا بد من التفريق بين انهيار الحكومات وانهيار الدول، فالأول مرتبط بالنظام السياسي للدولة فقط مع احتفاظها بوحدة شعبها واقليمها وسيادتها وانهيار الحكومات كثير فقد يكون السبب اقتصادي او اجتماعي او سياسي، فمتى بلغت الانقسامات المجتمعية حد الانفصال والخروج عن سيطرة الدولة حينذاك تنهار الدولة وتتحول الى دولتين او اكثر وكذا اذا احتلت الدولة كلاً باتت تسمى دولة محتلة تخضع لقوانين الاحتلال او بعضاً فهي حينئذ مهددة بالانهيار الكامل، او وضعت تحت الانتداب فتفقد السيادة.

انهيار الدولة يعني فقدانها لشخصيتها المعنوية والغاء وصف الفاعل الدولي عنها. التاريخ علمنا أن الدول العظمى تمر عبر تاريخها بمراحل تشبه الى حد بعيد مراحل الانسان من حيث الولادة ثم الطفولة ثم الشباب ثم الكهولة ثم الشيخوخة ومن بعدها الموت وذاك ما حصل للدولة الرومانية والفارسية والاموية والعباسية والعثمانية والاتحاد السوفيتي في العصر الحديث. بقي ان نقول ان انهيار اي دولة يخلف مآس كثيرة وكبيرة للشعوب ومن النادر جداً ان تنهار دولة سلماً ويستقر شعبها ما بعد الانهيار، فالدولة هي الضرورة اللازمة لبقاء المجتمعات وبهذا المعنى يرد قول علي (ع): (لابد للناس من امير براً كان او فاجراً)، والدولة هي ام المؤسسات وصمام امانها وهي على علاتها وما فيها من قيود ومظاهر استبداد احياناً تبقى أفضل من اللا دولة لذا قيل (ظالم غشوم ولا فتنة تدوم).

الدكتاتور يأكل حقوق الناس

الباحث حسن كاظم السباعي:

إنَّ المجتمع أو الشعب المكبوت الذي كان يعاني من البطش والتنكيل طوال أعوام، سيرضى بكل من يعطيه هامش من الحرية، كالسجين الذي همّه الوحيد هو الخروج من السجن دون النظر إلى احتياجاته الأخرى، وإنَّ الشعب الذي يعاني من سوء الخدمات وسائر أزمات الحياة اليومية فإنه سيرضى بمن يقدِّم له هامش من تلك الخدمات، كالجائع الذي يبحث عن كسرة خبز يابسة ليسدَّ رمقه دون الالتفات إلى سائر احتیاجاته الجسدية أو الروحية، وهذا هو حال الشعب العراقي الذي رضي ويرضى بجزء من حقوقه دون النظر إلى الكل، وذلك ليعيش يومه دون النظر إلى سائر الأيام. ومن هنا فإنَّ المجتمع الذي يقتنع أن يعيش تحت حكم من يخدمه في جزء من حقوقه ويحرمه من الأجزاء الأخرى فهو مجتمع يقبل العيش تحت حكم فاشل أو مستبد؛ ففي بداية العهد الجديد من العام ٢٠٠٣ كان هذا المجتمع قانعًا أن يحصل على هامش من الحرية ليمارس شعائره الدينية ويبدي معتقداته ويتكلم بما يشاء، وما كانت سائر الحقوق لتهمه، ‎وبعد حوالي العقدين من الزمن بدأ يطمح في من يقدِّم له خدمات الحياة من ماء وكهرباء دون الحاجة إلى أمور أخرى كـ الحرية والديمقراطية، فحاله كحال سابقه، وما دام ديدنه ذلك فلن يتغير من الأمر شيء.

‎وهنالك فرضية خاطئة أو مغالطة تتحدث عن ضرورة وجود "دكتاتور عادل" وأنه قادر أو مؤهل لأن يحكم بلد مثل العراق، وقس على هذه النظرية مثيلاتها كـ "الحاكم المنتخب" من قبل الشعب، فمجرد كونه منتخبًا يكفي، ولا داعي للخصائص الأخرى، أو يكفي أنه ينتسب إلى التيار الفلاني أو الجهة الفلانية أو حتى يكفي أن يكون مجرد نزيه، وكل هذه النماذج خاطئة وتؤدي إلى حكم مستبد، ‎فالحكومة الحقّة لابدَّ أن تكون سليمة من كل النواحي، وتأخذ بجميع الاعتبارات وتضمن جميع الحقوق، وتكوَّن وحدة شاملة في المفاهيم. ‎‎يقول الإمام الشيرازي: "من التهافت الشائع في ألسنة جماعة من المثقفين كلمة "الدكتاتور العادل"، وهل يمكن أن يكون دكتاتورًا يأكل حقوق الناس ثم يكون عادلًا يعطي حقوقهم، إنَّ الحق لا ينحصر في المال ونحوه، بل من حق السياسة، والدكتاتور يأكل حقوق الناس في السياسة ولا يستشيرهم، ولا يكون كأحدهم وإنما يستبد بالحكم، ثم هل يكون بعد ذلك عادلًا، هذا غير ممكن، وإن كان يراعي جوانب الاقتصاد والاجتماع والتربية وما أشبه.

وهل يمكن أن يكون إنسان صحيح، نصف جسمه مشلول ونصفه الآخر لا فإنَّ نصفه السقيم يؤثر على النصف السليم، حيث يشل حركات هذا النصف السليم.

من هنا وبناءً على هذا الأساس؛ فإنَّ المجتمع لو آمن بضرورة وجود جميع مؤهلات العدالة لدى الحكومة - دون ترك جزء على حساب جزء آخر- وطالب بجميع حقوقه، فإنَّه سوف لن يرضخ لأي حكم مستبد أو فاشل.‎ ‎ويمكن إيجاز كل تلك المؤهلات في مفردة "الأخلاق" ومن هذه المفردة الفضفاضة تتفرّع مفاهيم كـ "الأُخوَّة" و"اللاعنف" و"المجتمع المدني"، ومثيلاتها من المفاهيم، ولتخرج هذه المفاهيم من إطار الشعار إلى حيز التنفيذ، فلابد من إيقاظ الضمائر وهزِّ الأفئدة.‎

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2021
http://shrsc.com

اضف تعليق