q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

أخلاقيات الحرب في المنظور الإسلامي

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

حتى الحروب المدمِّرة العنيفة المليئة بالخرب، لابد أن تحكمها أخلاقيات ومبادئ تراعي إنسانية الإنسان، هكذا ينظر الإسلام إلى الحرب، ويرفض شنّها على الآخرين طيشا أو نزقا أو رغبة بالعظمة، فالحرب غير جائزة إلا في حالة واحدة، حين تكون دفاعا عن النفس، وهكذا هي جميع حروب الرسول الأكرم (ص) وحروب الإمام علي (ع)...

(نشر الفضائل يجعل الدنيا أقل مشاكل في المستقبل)

سماحة المرجع الشيرازي دام ظله

الحرب أنواع وأشكال تبعا لحجمها، ولغاياتها، وللمشاركين في اندلاعها وتأجيجها، لكنها في كل الأحوال غير إنسانية لاسيما إذا استهدفت الأبرياء، وإذا كان هناك وصف محمود للحرب، فإنها حرب الدفاع عن النفس التي كان يعتمدها الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) والإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام). ولذلك هناك أخلاقيات تحكم المتحاربين أثناء القتال.

تاريخ الحروب يشي بأنها تميل إلى التدمير المتبادَل بين إرادتين، أو كما يعرّفها أصحاب الشأن، بأنها نزاع مسلح تبادلي بين دولتين أو أكثر من الكيانات غير المنسجمة، حيث الهدف منها هو إعادة تنظيم الجغرافية السياسية للحصول على نتائج مرجوة ومصممة بشكل ذاتي.

وقد قال المنظر العسكري البروسي كارل فون كلاوزفيتز في كتابه عن الحرب إنها «عمليات مستمرة من العلاقات السياسية، ولكنها تقوم على وسائل مختلفة». وتعد الحرب تفاعلًا بين اثنين أو أكثر من القوى المتعارضة والتي لديها «صراع في الرغبات» ويستخدم هذا المصطلح أيضا كرمز للصراع غير العسكري، مثل الحرب الطبقية.

وللحرب كيانها الثقافي وممارستها ليست مرتبطة بنوع وحيد من التنظيم السياسي أو المجتمعي. بدلا من ذلك، كما تمت مناقشته من قبل جون كيغان في تأريخه للحرب، فإن الحرب هي ظاهرة عالمية، وشكلها ونطاقها يحدده المجتمع الذي يقوم بها. تمتد سير الحرب على طول سلسلة متصلة من الحروب القبلية شبه العالمية والتي بدأت قبل التاريخ المسجل للإنسان، ثم إلى حروب بين المدن أو الأمم أو الإمبراطوريات.

من الأخلاقيات العظيمة التي ذكرها التاريخ الإسلامي، تلك القواعد الأخلاقية التي وضعها وأمر بها وطبقها الإمام علي (عليه السلام) في حرب الجمل، فالحرب وإن كانت مكروهة لكن حين تُخاض تحت حاجة الدفاع عن النفس، فإنها مقبولة، لكن مع هذا القبول لابد أن ترافق الحرب أخلاقيات وسلوكيات مبدئية لا يصح تجاوزها.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيمة التي شرحت الحرب من منظور إسلامي:

(بعد نهاية حرب الجمل، وانتصار الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وانكسار أصحاب الجمل، قتل جماعة من الطرفين وجرح آخرون وفرّ بقيّة الباقين من أصحاب الجمل، أمر الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه بعدّة أمور، منها، أن ينادوا:

أولاً: لا تجهّزوا على جريح. ثانياً: لا تتبعوا مدبراً. ثالثاً: من وجد ماله فليأخذه).

ثوابت مبدئية أثناء خوض الحرب

ولو أننا بحثنا في عموم التاريخ البشري الذي يتعلق بسجل الحروب، فإننا لن نعثر على قائد وضع ما وضعه الإمام علي من ثوابت أخلاقية أثناء خوض الحرب، وهذا يعني أن الإسلام يرفض الحرب، إلا إذا كانت دفاعا عن النفس، كما أن الاحترام صفة وسلوك يجب أن يتحلى به الطرف المنتصر، ولا يستغل انكسار الطرف الآخر وهزيمة للحطّ من كرامته، أو إلحاق الأذى به وبممتلكاته بل يجب أن يحترمه وإن كان عدوّه الخاسر في الحرب.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أشار إلى هذه النقطة في قوله:

(هذه الجمل الثلاث من الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه، لا نظير لها في تاريخ الحروب، لا في ماضي الدنيا ولا في حاضرها. فعادة في الحروب عندما ينتصر أحد الطرفين في الحرب، لا يحترم الطرف الآخر المنكسر، خصوصاً إذا كان المنكسر هو الذي أوجد الحرب).

المبدأ الأخلاقي الآخر الذي ثبته الإمام علي في حرب الجمل، هو عدم الإجهاز على جرحى العدو حتى لو قتلوا من المسلمين، أو ألحقوا الضرر بهم، فطالما انتهت الحرب، يجب أن يتم احترام أفراد الطرف الآخر وإن كانوا جرحى، لكن في حالة كونه غير جريح ويقاتل في أرض المعركة، فإن قتله يكون جائزا.

أما حين تضع الحرب أوزارها فإن جرحى العدو يكونوا في مأمن من الأذى، وهذا المبدأ الإسلامي الإنساني الكبير طبّقه الإمام علي (عليه السلام) في حرب الجمل، وأخذه عن معلّمه وابن عمه رسول الله (صلى الله عليه وآله).

يقول سماحة المرجع الشيرازي:

(كان المراد من قول الإمام صلوات الله عليه: (لا تجهّزوا على جريح) أي لا تقتلوا من جرح واُصيب بالمعركة من جيش الجمل ممن سبّ الإمام وجاء لحربه وكان يأمل إن أمكنه أن يقتل الإمام ويقتل أصحابه، وربما الجريح قد قتل مجموعة من أصحاب الإمام ولكنه صار جريحاً).

أما المبدأ السلوكي الآخر الذي أوجبه الإمام علي (عليه السلام) على جنوده ومعاونيه، فهو عدم تعقّب الهارب من جنود الطرف الآخر، فلا يجوز ملاحقة من يفرّ من أرض المعركة، لكننا نلاحظ حروبا كثيرة قريبة أو بعيدة، لاسيما في العصر الحالي، يستغل الطرف المنتصر هزيمة الطرف الآخر، ويلاحق الفارين ويلقي القبض عليهم، فأما يقتلهم جميعا أو يذهبون أسرى في أحسن الأحوال.

نشر الفضائل يقلل مشاكل المستقبل

لكن الإمام علي (عليه السلام) وضع قاعدة أو مبدأ عدم ملاحقة المدبر أو الهارب من ساحة المعركة، وعدم استغلال هزيمة العدو، والتعامل مع هذه الحالة وفق المنظور الإسلامي الذي لا يبيح قتل الهارب من المعركة، في حين يستغل قادة الحروب هذه الحالة من أجل تقوية موقفه في المفاوضات التي تلي توقف الحرب، بمعنى يتم استغلال هزيمة العدو إلى أقصى حد ممكن، لكن هذا السلوك منعه الإمام علي وأمر بعدم ملاحقة الهاربين من العدو.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)

(المقصود من كلام الإمام صلوات الله عليه: (لا تتبعوا مدبراً) أي لا تتبعوا الذين لم يقتلوا من أصحاب الجمل ولم يصابوا وجعلوا ينهزمون ويفرّون. وعادة في الحروب، يعقب الطرف المنتصر الأفراد الذين ينهزمون ويفرّون من الطرف المنكسر، وإما يأخذهم أسراء أو يقتلونهم).

كذلك في المنظور الإسلامي للحرب، يجوز للعدو أن يسترجع أملاكه وأشياءه إذا عثر عليها بعد توقّف الحرب، حتى لو كانوا مهزومين، فحتى في حالة فراراهم ووجدوا شيئا يعود لهم، يمكنهم أخذه واسترجاعه من دون التعرض لهم بأذى، وهذه قاعدة غير موجودة في سلوكيات الحروب السابقة أو التي حدث في التاريخ القريب والمنظور.

وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:

(أما معنى قول الإمام صلوات الله عليه: (من وجد ماله فليأخذه) هو مال أصحاب الجمل الذين فرضوا الحرب على الإمام، وقتلوا مجموعة من أصحاب الإمام. فأمر الإمام انّه إذا فرّوا وانهزموا ووجد بعضهم مالاً له باقياً في المعركة أن يأخذه).

وهناك شاهد إثبات من أرض معركة حرب الجمل، حيث شاهد بأم عينيه تلك الهزيمة الساحقة للأعداء، لكن لا أحد من جنود الإمام علي (عليه السلام) مدّ يده إلى أموال العدو ودنانيره المبعثرة فوق الأرض من ذهب وفضة، نقرأ قول هذا الشاهد وهو صحابي جليل في كلام سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(يقول عمّار بن ياسر الذي كان مع الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه في حرب الجمل: شهدنا مع عليّ الجمل، فلما ظفرنا، فجعلنا نمرّ بالذهب والفضّة، أي الدنانير والفضّة، فلا نتعرّض لها. فهل يوجد لهذا نظير في تاريخ الحروب بالعالم؟).

هذه هي الحرب من المنظور الإسلامي، فهي وإن كانت عنيفة مليئة بالقتل والدمار، لكن هناك ثوابت إسلامية إنسانية، أخذها الإمام علي (عليه السلام) عن معلّمه الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وطبّقها عبر أوامر واضحة التزم بها جنوده، ولو أننا نتحلى بالإنسانية الحقة، لابد أن نقوم بتوصيل هذه الثوابت والمواقف الإسلامية إلى العالم أجمع.

وهذا ما يطالب به سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) إذ يقول:

(يجب على من يشعر في نفسه بالإنسانية أن ينقل هذه الأمور وينشرها، فإذا انتشرت الفضائل فبالنتيجة هناك من يعملون بها، وتكون الدنيا أقل مشاكل في المستقبل مما هي في الحاضر).

خلاصة الأمر حتى الحروب المدمِّرة العنيفة المليئة بالخرب، لابد أن تحكمها أخلاقيات ومبادئ تراعي إنسانية الإنسان، هكذا ينظر الإسلام إلى الحرب، ويرفض شنّها على الآخرين طيشا أو نزقا أو رغبة بالعظمة، فالحرب غير جائزة إلا في حالة واحدة، حين تكون دفاعا عن النفس، وهكذا هي جميع حروب الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وحروب الإمام علي (عليه السلام).

اضف تعليق