q
ثقافة وإعلام - أدب

تيه

الى أين يمكنني أن ألجأ بعدما رأيتُ المخلوقة تلوك بيتي الكارتوني بفمها وتبصقه في المياه الراكدة، وتمدّ يديها المهولتين الى جوف الأفق قابضة على أرجل الطريق لتطويه وتسحقه بقدميها.. كما لم أعرف منذ البدء أين أبحث عني، وكيف لي أن اتتبع أثري.. أنا التائه في عدم الأشياء، أنا اللاشيء...

هبط الليلُ على الفضاء حولي، وخيّم على بيتي الكارتوني الملأى حيطانه وجدرانه بالثقوب والتشققات، حين بدأت أسأل أين عساني ذهبت؟! لم أدر ِ متى كانت آخر مرة رأيُتني فيها، ومنذ متى لم أعد اليّ. كان بيتي خاوياً مني، لكنني شعرت بافتقاده لي.

لم تردعني الظلمة، التي زحفت على المكان بسرعة، عن البدء بالبحث عني! حاولتُ تتبع أثري في الطريق المقفر والموحش الذي أمتد أمامي من عتبة بيتي المترنح الى نقطة في جوف الأفق، كانت تمسك أرجل الطريق الذي بدأ الضباب والظلام يبتلعانه معاً، فظهرت فجأة مخلوقة غريبة الشكل، ضخمة، قبيحة. استوقفني نظراتها.. وجذبني صوتها الرخيم.

حملتني وناغتني، وأصابعها الكبيرة داعبت أصابعي الصغيرة، ما دفعني لأضحك كثيرا، وأناغيها.. فجأة، بدأت خصلات شعرها تستعر، إتسعت عيناها وفمها بغلظة، وتحول وجهها الى دوائر من تجاعيد.. زاد سعيرها.. بصقت عليّ ناراً.

وماعدت أشعر بسوى هول قيامتي بين يديها، حيث صيرتني كرة ملتهبة، تلعب بها في أشواطها الطويلة. ثقيلاً كان زمني بين تلك اليدين المستعرتين، ومهولاً التهام السعير لي.

فجأة، أيضاً، أحسست ببرودة الريح وهي تعبث بي.. تنثرني. كانت المخلوقة النارية قد كفت نارها وأطلقت من فمها ريحاً حولت ما تبقى مني الى كرات رماد، لتبدأ شوطاً جديداً من العبث الوحشي.

راودتني رغبة بأن استجمع ذراتي المتناثرة.. لكنني فكرتُ لوهلة أنني قد أكون مجرد جزء صغير من كيان رمادي كامل ليس بالضرورة أن يكون كله أنا. وفكرتُ أيضاً أنني إذا كنت أصل الكيان، فكيف لي أن استجمع أجزائي، وأنا أشعر بأنني لست إلاّ ذرة تاهت كما الباقيات؟

استمرت ريح المخلوقة القبيحة تباعدنا.. تلوينا.. لم أدرِ إن كنت أبكي أم أضحك، وأنا اتلوى مع بقية ذرات الرماد.. اتمرجح يميناً وشمالاً.. صعوداً وهبوطاً.. حتى سقطت ُ في مستنقع يمتد بين طرفي ثوب تلك المخلوقة.

لااتذكر شعور الذوبان.. أكان أرأف من شعوري بالاحتراق، أم أقسى من عبث الريح بي؟! تمنيت لو أنّ المخلوقة أطلعتني على مصير الذرات الأخريات، وما إذا كانت قد ذابت في المياه الراكدة، لكنني كبتُّ الرغبة لإدراكي في لحظة أن لا جدوى من معرفة أي شيء، ولأنني لن أعرف كيف بإمكاني أن أجمع الذرات، والى أين يمكنني أن ألجأ بعدما رأيتُ المخلوقة تلوك بيتي الكارتوني بفمها وتبصقه في المياه الراكدة، وتمدّ يديها المهولتين الى جوف الأفق قابضة على أرجل الطريق لتطويه وتسحقه بقدميها.. كما لم أعرف منذ البدء أين أبحث عني، وكيف لي أن اتتبع أثري.. أنا التائه في عدم الأشياء، أنا اللاشيء.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق