لا يمكن تحقيق التكامل الاجتماعي المنشود دون تحقيق الاعتراف بالآخر والإيمان بحقه وحريته لان: العديد من الغايات التي يهتم بها الناس لايمكن الوصول إلى تحقيقها إلا بفضل تعاون الآخرين وان هذا التعاون غالبا ما لا يكون بالإمكان الوصول إليه بالإكراه. فكيف يمكن تحقيق الحرية والوصول إليها دون ان تتحقق بصورة متكاملة للجميع، فالتغافل عن حرية الآخرين أو قمعها يقود نحو القضاء على وجود الحرية والتشكيك بمشروعيتها. ويفسر لوك الحرية بهذا المعنى: ان حرية الإنسان هي حريته في ان يتصرف ويسير كما يشاء ضمن إطار ما تسمح به تلك القوانين التي يعيش في إطارها وله بالتالي ان لايكون موضوعا لعسف إرادة الآخر.

ان الاعتراف بحرية الآخر والتواصل معه يعني الاعتراف بحريتي فكيف يمكن ان تكون الحرية مشروعة لي ما دامت محرمة على الآخر، فعندما يعترف المجتمع والفرد بحرية الآخر ويرضى بالتواصل طوعا وبادراك لما يقوم به فانه يربح الحرية لنفسه ويكون صانع خيار أخلاقي هو من مقومات الحياة الحرة.

ومن هنا وجهتنا الأحاديث والروايات الشريفة لاحترام حقوق الآخرين وعدم تضييعها حيث يقول الإمام علي (ع): لا تضيعن حق أخيك اتكالا على ما بينك وبينه فانه ليس لك بأخ من أضعت حقه. ويقول (ع) أيضا: اجعل نفسك ميزانا بينك وبين غيرك واحب له ما تحب لنفسك واكره له ما تكره لها واحسن كما تحب ان يحسن إليك ولاتظلم كما تحب ان لاتظلم.

لماذا لا نعترف بالآخر..؟

كثيرة هي الأسباب ولكن من أهمها:

أولا: الأسباب النفسية

تشكل العوامل الذاتية أكثر العناصر في محورية الذات، لان النفس الإنسانية عندما تسرف في تقدير ذاتها وتستعلي على الآخرين وتحس بالتفوق بالمطلق ترفض الاعتراف بغيرها، والاستبداد ينشأ من هذا المنطلق. هذا بالإضافة إلى سيطرة الروح الأنانية والمصلحية في الإنسان التي تحاول ان تحتكر كل شيء لصالح منافعها الخاصة، هذه الأنانية قادت ولاشك إلى كثير من النزاعات والصراعات العبثية. ويرى توكفيل: ان الفردية بحد ذاتها صيغة مخففة من الأنانية التي تدفع كل فرد من أفراد المجتمع إلى عزل نفسه والابتعاد عن الآخرين، وهكذا تبدو الفردية وكأنها في البداية تضعف القيم الإيجابية في الحياة العامة للمجتمع ولكنها على المدى البعيد تعادي وتدمر كل هذه القيم فتتحول إلى أنانية صرفة.

ثانيا: الأسباب الثقافية

ان الكثير من الأفراد والجماعات المنعزلة تتجنب التعامل والتواصل مع الآخر نتيجة لعوامل ثقافية ضاربة في عمق البناء الأساسي لسلوك هؤلاء الأفراد والجماعات. فالفرد قد ربي من صغره على احتقار الغير والإحساس بتفوقه عليه والشعور بثقة عمياء بنفسه وصحة فكره المطلقة والإيمان المطلق بجماعته ظالمة كانت أو مظلومة. وهذا هو احد موارد التعصب الاعمى للفكر أو القوم أو العرق، لان: التعصب هو في أساسه نظرة سلبية للغير والمتعصب يتجه بتفكيره أساسا الى الآخرين في حقد أو حسد أو احتقار وميل إلى إلحاق الضرر بالغير اكثر مما يميل إلى تأكيد مزاياه الشخصية أو كسب منفعة لنفسه.

ثالثا: سوء الظن بالآخر

ان التجارب السيئة التي يمر بها الإنسان في الحياة تجعله يشك بالآخر ويسيء الظن بالجميع خصوصا عندما لا يستخدم التحليل المنطقي في الاستفادة من تجاربه. وكذلك فان التربية الأسرية والاجتماعية لها دور في إساءة الظن عندما يعمم استنتاجاته بشكل كلي. فالفرد عندما يواجه ظلما أو اضطهادا أو استغلالا يتحول هذا الأمر عنده إلى حالة دائمة مع شعور دائم بالتآمر عليه. وقد كانت التجارب المرة التي مرت بها الأمة في العقود الأخيرة مدعاة لإساءة الظن في كثير من الأفكار والمناهج عبر التعميم... فكل حزب هو عميل وكل ما هو من الغرب كفر وكل تكنولوجيا حديثة فهي محرمة وهكذا...

ان سوء الظن يرجع في واقعه إلى أسلوب خاطئ في تحليل الأمور وخصوصا عندما يستند إلى استدلالات سطحية لا تعتمد المنطق والعقلانية، واذا كانت أحكام الفرد أو المجتمع ارتجالية وعاطفية وانفعالية فإن سوء الظن من أهون الأشياء خصوصا عندما يختص الأمر بحوادث تجرح الشعور جروحا تؤدي إلى الإحساس بالنقص والضعف وان كان هذا الشعور واهما.

وقد ورد في الأحاديث الشريفة قدح في إساءة الظن وذم للمسيء ودعوة لحسن الظن، فقد روي عن أمير المؤمنين علي (ع): ان المؤمن أخ المؤمن لا يشتمه ولا يحرمه ولا يسيء الظن به. وأيضا عنه (ع): ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك منه ما يغلبك ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا وأنت تجد لها في الخير محملا.

وتنشأ معظم الخلافات التصادمية نتيجة لسوء الفهم وعدم القدرة على التفاهم مع الطرف الآخر والتشكيك بنياته، فعندما تفترس الفرد الشكوك المظنونة الناشئة من دواع واهمة يفقد القدرة على تفهم الآخرين والتفاهم معهم.

رابعا: الخوف من الآخر والشعور بالضعف

الإنسان بطبيعته كائن ينتابه الضعف عندما لا يقدر على تجاوز المحن والصعاب، وشعوره بالخوف هو الذي يحرك فيه كوامن الحذر والاحتياط، وقد يتحول هذا الامر إلى حالة مرضية عندما يفقد ثقته بنفسه ويتحول خوفه إلى شعور بالضعف الدائم والهزيمة من الآخر، لذلك يتراجع إلى داخله متحصنا بأسوار حديدية أمام هجوم الآخر كما يتوهم، وحينئذ فهو ينكر كل شيء يرتبط بالآخر سواءا كان صحيحا أو خاطئا محقا كان أو باطلا مفيدا له ام غير مفيد، فيصبح عدوا دائما له ومحورا للشر، ويمكن رؤية هذا الأمر في الأمهات اللواتي يزرعن الخوف في أبنائهن من كل غريب وقريب.

كما ان المجتمعات والامم التي ركبها الوهن الفكري والعجز الثقافي هي الأخرى تحارب الآخر لانه يشعرها دائما بضعفها فتخاف ان تتواصل معه خوفا من ان يغزو أفكارها ويحصد أفرادها، والجماعات الإسلامية في السنوات الأخيرة مثال على ذلك حيث سورت كيانها ضد كل انواع الاتصال خوف من تعرضها للاختراق الفكري والثقافي واندساس افكار ورؤى تعتبرها مضرة بأهدافها.

والغريب في الامر ان الخوف وروح الانهزام لاتزيد الفرد أو الجماعة إلا ضعفا واندثارا، لانه عندما يفتقد الارتباط مع الآخرين يفقد الفرد القدرة على فهم معطيات الصراع والمتغيرات وبذلك يبدأ بفقدان أوراقه وتتساقط أفكاره وينكشف وهنه فيرتمي في أحضان الغير مستسلما استسلاما مطلقا. وتفقد الجماعات أفرادها عندما لا تستطيع ان تقدم لهم عناصر القوة والبقاء. يقول الإمام علي بن أبى طالب (ع): اعجز الناس من عجز عن اكتساب الاخوان واعجز منه من ضيع من ظفر به منهم.

خامسا: العزلة والانعزال

تشكل العزلة من العوامل المهمة في فقدان القدرة على التواصل، وقد تكون أسباب العزلة نفسية أو ثقافية أو جغرافية أو اقتصادية، ولكن المنعزل ينأى بنفسه عن الآخرين مشكلا لنفسه عالما خاصا، فتنشأ الأسر الصغيرة التي تكون لنفسها حياة خاصة بها كالأسر الاقتصادية الإقطاعية والتكتلات العشائرية والأحزاب المنغلقة والمجتمعات النائية في الجبال والجزر والمناطق البعيدة حيث تشكل لنفسها ثقافة خاصة وحياة منفصلة.

ويصعب على الانعزاليين التفاهم مع الآخرين لافتقادهم لغة الحوار والتفاهم. ويمكن رؤية اغلب الشعوب المتحضرة من خلال زاوية تواصلها مع العالم الخارجي فالبلاد التي تطل على مناطق منفتحة على العالم الخارجي هي أكثر تحضرا من المناطق البعيدة والنائية كالتي منعزلة في الجبال أو الجزر.

* مقتطف من مقال منشور في مجلة النبأ-العدد -47-ربيع الثاني 1421/تموز2000، تحت عنوان: التواصل مع الآخر لتأصيل منهجية التعايش

اضف تعليق


التعليقات

مختار
العراق
الافضل الانعزال لان نتجنب الصدام لان التعامل ويا الاخر يسوي مشاكل وخلافات ثقفاية وعقائدية2017-12-14
الكاتب الأديب جمال بركات
بذور الكراهية يتم زرعها في مرحلة الطفولة بتشويه صورة الآخر
هذا الآخر قد تكون أفعاله سيئة بالفعل كالإستعمار وتاريخه بالظلم زاخر
وقد تكون زراعة الكراهية ممنهجة لأغراض في النفوس بسبب التنافس والتناحر
أحبائي
دعوة محبة
أدعو سيادتكم الى حسن الحديث وآدابه....واحترام بعضنا البعض
ونشر ثقافة الحب والخير والجمال والتسامح والعطاء بيننا في الأرض
جمال بركات...مركز ثقافة الألفية الثالثة2018-12-27