q
آراء وافكار - مقالات الكتاب

التحكم بالأشياء وإدارة العلاقات بالزهد

مفهوم الزهد والاستهلاك في نهج الإمام علي (ع) (11)

يختلف تفكير الناس في مسألة الشيئية والنظر إلى الشيء، فالإنسان الذي يجرد نفسه عن أن يكون شيئيا وعن العلاقات الشيئية، سوف يكون إنسانا واعيا، وبالنتيجة هو يعرف معنى الشكر لله سبحانه وتعالى، وإن الله أنعم عليه بالحرية وبالوجود، والتفكّر والتعقّل، فأصبح موجودا معنويا كبيرا عظيما...

(وَلَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا رِبْحَ كَالثَّوَابِ)

تحدثنا سابقا عن مفهوم الزهد وكيف يمكن أن نحقق أهدافنا في الحياة من خلال تطبيق مفهوم الزهد، حيث أغلب الناس تضيع حياتهم وتتبدد قيمتها بآمال تضليلية وأهداف خادعة، أحلام كاذبة براقة تخدع الإنسان وتجعله مضلَّلا عن الطريق الصحيح، الطريق الذي يمكن ان يجعل لحياته قيمة حقيقية.

فكيف يمكن من خلال مفهوم الزهد وتطبيقه أن نحقق الأهداف الواقعية، ونصل إلى الغايات المسدَّدة، وأن نحقق السعادة والازدهار في حياتنا. فالزهد كاسلوب حياة وعقيدة واعية هو الذي يحقق للإنسان السعادة والازدهار والحياة الآمنة والمطمئنة والمستقرة. فكيف نحقق أهدافنا في الحياة من خلال استخدام الزهد كاستراتيجية عملية وتطبيقية نسير عليها في حياتنا؟

تطرقنا إلى بعض النقاط، وذكرنا أن من المفاهيم المهمة في هذا الباب، هو مفهوم الشكر لله سبحانه وتعالى، فإن الشكر لله يجعلنا قنوعين بما نعيشه في حياتنا، ويجعلنا متورعين عن الدخول في المشاكل، وصبورين على الحرام. فالشكر يضبط سلوك الإنسان باتجاه الأهداف الحقيقية، لأنه غالبا ما يقع الإنسان في مصيدة الضلال بسبب عدم شكره وعدم قبوله بما يقنع به في حياته.

كذلك تطرقنا إلى قضية الزهد في الحرام، وكيف أن الاستعجال في الكسب والحرص على المزيد من المغانم يؤدي بالإنسان إلى السقوط في الآمال الكاذبة والوهمية، وتطرقنا أيضا إلى إدارة الشهوات، وكيف تقوم الشهوات بمنع الإنسان عن الوصول إلى الزهد الحقيقي، وعن الوصول إلى الأهداف الحقيقية في الحياة، فتشوش نظر الإنسان فلا ينظر ببصيرته إلى الأمر الواقع فيكون مضلَّلا وغير واصل إلى السعادة والمضمون والمعنى الحقيقي في الحياة. وفي هذا المقال نصل إلى النقطة الرابعة وهي:

النقطة الرابعة: كيف يمكن التحكّم بالأشياء؟

الأشياء مشكلة كبيرة في حياة الإنسان، فالإنسان يعيش في عالم تحيط به الأشياء، بل هو يضيع في هذا الزخم الكبير من الأشياء في حياته، ولأنه يحتاجها فإن هذه الأشياء تكون حالة طبيعية في حياته.

التشيؤ، تحول ما هو ليس بشيء ليصبح شيئاً، وهذا يعني أن تنطبق عليه الصفات التي تنطبق على الأشياء، مما يغير من طبيعته، وتغيرت صفاته وخرج من عالم غير الأشياء لينتمي لعالم الأشياء. فتسقط عنه قيمته الإنسانية وتصبح المادة هي القيمة والهوية والغاية، مما يؤدي الى الاستلاب والاغتراب والانفصال الاجتماعي والعلاقات الشيئية.

فنحن نعيش في عالم يحوِّلنا إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، وأن يتحول الإنسان إلى شيء، حيث تُطَبَّقُ القياسات الكمية.

فإذا أصبح هذا الإنسان ذليلا وعبدا لهذه الأشياء سوف لا يستطيع التحكم في نفسه من خلال هيمنة أهوائه وشهواته وبسبب حرصه على الدنيا يصبح في الواقع ضائعا، ولا يستطيع أن يحقق الإشباع الحقيقي ولذة الحياة والاحساس بقيمتها، فالتشيّؤ يعني أن الإنسان يصبح محاطا ومؤطّرا بالأشياء فتكون هي التي تؤطره وتشكل نمط حياته ووتيرتها، فيصبح هو شيء من الأشياء، فتصبح قيمته كقيمة السيارة أو الثلاجة أو الأثاث المنزلي أو الكرسي.

بعض الناس تكون قيمته بقيمة الكرسي الذي يجلس عليه، عندما يكون عنده شغف بالسلطة، فيصبح شيئا من الأشياء متغيّرا ومتلونا حسب الشيء الذي يكون فيه أو الشيء الذي يطلبه، وهكذا يصبح الإنسان شيئا، وتنطبق عليه كل صفات الأشياء، مما غيّر طبيعة هذا الإنسان من كائن له وجود وكينونة وذات إنسانية وعمق ومعنى إلى شكل ومظهر ومجرد شيء من الأشياء الموجودة في العالم المادي الخارجي.

الاستلاب والاغتراب الاجتماعي

فيصبح انتماؤه ليس للإنسان، وإنما للأشياء، وتصبح قيمته مجردة من قيمته وهويته الإنسانية مما يؤدي إلى حالة الاستلاب والاغتراب والانفصال الاجتماعي حيث تكون علاقة الإنسان علاقة شيئية مع الآخرين، فنلاحظ في المجتمعات المادية المحضة تكون القيمة فيها للأشياء، ولا توجد فيها قيمة للإنسان، فقيمتك بقدر ما تمتلك من أشياء وبقدر ما تكون أنت شيئا كبيرا، لأن الأشياء تختلف قيمتها أيضا، فبعض الأشياء قيمتها عالية وبعضها متوسطة وبعضها قيمتها ضحلة.

استغلال الإنسان في المجتمع الرأسمالي

التشيؤ ظاهرة النظام الرأسمالي، وهذا النظام هو الذي يتحمل مسئولية ظهور ونمو التشيؤ، بالنظر إلى طبيعة العلاقات الإنسانية على أنها مجرد صورة مجسدة لحركة السلع المادية في الأسواق، وبالتالي تم اختزال منظومة الحراك الاجتماعي إلى ذلك التنميط الساذج المنطوي على إسقاط مفاهيم السوق وحركة السلع المادية على كافة تعقيدات الحياة الإنسانية بجانبيها الروحي والجسدي، وفي هذا النظام المعولم يتحول كل شيء إلى سلعة قابلة للبيع والشراء وفق مبدأ المنفعة وهنا تصبح المقولات المعنوية الفن والجمال والأخلاق والحب والدين والعلاقات الاجتماعية مجرد مفاهيم مجردة يمكن تجسيدها عبر سلع قابلة للتبادل الآلي البحت.

الإنسان يبيع نفسه بنفسه في عالم الأشياء حاله حال الأشياء الأخرى، ويقدَّر من الناحية الكميّة كشيء وليس من الناحية النوعية كإنسان، لذلك نلاحظ في بعض المجتمعات الرأسمالية أو المجتمعات التي تٌستلَب فيها القيمة الإنسانية والجوهر الإنساني، ان الإنسان بمجرد أن لا يكون قادرا على العمل بشكل جيد يُطرَد من عمله. 

ولا يُنظَر له كإنسان، وإنما يُنظَر إليه كآلة تؤدي عملا، فبعض الشركات الكبيرة يمكن أن تترك مجتمعها عاطلا باطلا وتذهب لتستثمر في مجتمعات أخرى من أجل أن تدفع أجورا أقل وتتحمل تكاليف أقل، فتضحي بالإنسان وبالمجتمع عبر استغلال الآخرين بأجور قليلة وزهيدة. فيصبح الإنسان مجرد آلة من الآلات التي تبتكرها الشركات أو التي تستغلها الشركات من أجل تحقيق الأرباح المادية.

المشكلة اليوم في عالم ما بعد الحداثة التي تعيشها المجتمعات المعاصرة، سواء في الغرب أو الشرق، تتجسد في أن الإنسان أصبح شيئا من الأشياء وأصبح سلعة من السلع، ويُسوَّق في عالم اليوم كسلعة مقنعة بالطعام، أو باللباس، عبر الدعاية التي تجعل منه مجرد شكل ومظهر خال من الإنسانية.

الإنسان سلعة قابلة للبيع والشراء

بالنتيجة يُختزَل الإنسان ويلخص من كونه إنسان اجتماعي له فكر ومشاعر وعواطف إلى مجرد كائن جامد ليس له عواطف ولا مشاعر، وإنما مجرد مادة وسلعة وينظر إليها كمشتري يعطي المال، ولهذا فالإنسان فقد اليوم جانبه الروحي والمعنوي، وأصبح سلعة قابلة للبيع والشراء، ويستخدَم معه مبدأ المنفعة، فهذا الإنسان مفيد لي اذا نفعني، فإذا لم ينفعني فيعتبر مضرّا لي وبالنتيجة فإن هذا الإنسان يُعزَل ويُهمَّش كما هو حال مع الكثير من المهمّشين في عالم اليوم لأنهم لا يمتلكون القدرة المادية.

خاصة عندما أصبح العالم اليوم عالما آليا، قائم على الأتمتة والذكاء الاصطناعي، حيث سيحل قريبا محلّ البشر، عندما تستلب الآلات والروبوتات وظائف البشر، ويصبح الإنسان لا شيء عندما تكون هذه الآلات هي المسيطرة على الأمور. 

ولكن هذه مشكلة كبيرة يصنعها الإنسان بنفسه، عندما تكون نظرته ضيقة للأمور، من خلال انغلاقه في عالم الأشياء، فيخرج نفسه من عالم المعاني والأخلاق، ويصبح رهينة لعالم الأشياء. وإذا أصبح الإنسان مرتهنا في عالم الأشياء، سوف يكون مجرد شيء من الأشياء.

كيف تعبد الله؟

عن الإمام علي (عليه السلام): (من عرف نفسه عرف ربّه)(1)، هذه الكلمة الرائعة تقودنا الى معرفة موقعنا في عالم اليوم، فعندما تعرف نفسك وتدرك معنى وجودك وتفهم ذاتك وكيف تفكر، ولماذا هكذا يكون سلوكك، وماذا تريد، ما هي أهدافك، ما هي آمالك، ولماذا تعيش؟

هذه أسئلة لابد أن نقدمها لأنفسنا، حتى نستطيع أن نجيب الإجابة الصحيحة عنها، ونتخذ القرار الصحيح والموقف السليم في الحياة، فنظرتنا للحياة وإلى الله سبحانه وتعالى، ورؤيتنا إلى الدين والكون والطبيعة، وإلى الأخلاق والمجتمع، هي بالنتيجة تحدّد وجهتنا في الحياة، وخصوصا طريقة عبادتنا لله سبحانه وتعالى.

الإنسان يعبد الله تارة لأنه تقليديا تعلم على العبادة، لا يوجد عنده نوع من التفكير والتعقّل في آيات الله سبحانه وتعالى، وإنما تعلّم على هذا النمط. وبعض الناس يعبدون الله سبحانه وتعالى خوفا من العقاب، وبعضهم يعبدون الله سبحانه وتعالى طمعا في الجنة.

 ولكن هناك آخرون يعبدون الله سبحانه وتعالى لأنه يرى نفسه إنسانا موجودا مفكِّرا كائنا عاقلا، فيمتلك الحرية والمسؤولية، ويمتلك القوة على أن يفهم ويعي، فيرى الله سبحانه وتعالى ببصيرته، ويحمد الله على وجوده، ويشكره على الذاتية التي خلقها تعالى بها.

فعن الإمام علي (عليه السلام): (إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَغْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ التُّجَّارِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ رَهْبَةً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ وَ إِنَّ قَوْماً عَبَدُوا اللَّهَ شُكْراً فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ)(2)، هكذا نلاحظ الفرق في المستوى بين الناس، فيمكن أن يكون الإنسان جيدا وطبيعيا، ولكنه يعبد الله رغبة في الجنة لأنه يعيش في عالم الماديات، وهذا التفكير الشيئي يجعله يفكر من زاوية الأرباح التجارية.

لذلك يختلف تفكير الناس في مسألة الشيئية والنظر إلى الشيء، فالإنسان الذي يجرد نفسه عن أن يكون شيئيا وعن العلاقات الشيئية، سوف يكون إنسانا واعيا، وبالنتيجة هو يعرف معنى الشكر لله سبحانه وتعالى، وإن الله أنعم عليه بالحرية وبالوجود، والتفكّر والتعقّل، فأصبح موجودا معنويا كبيرا عظيما.

ولكي يرتفع الانسان ويسمو عن عالم الأشياء ويرتقي نحو الأهداف الحقيقية لابد من معالجة عدة قضايا منها:

أولا- الارتهان للأشياء

 إذا أصبحت هذه الأشياء حاضرة بقوة فإنها سوف تسيطر على الإنسان وتجعله مِلْكا لها، فيصبح ملكا للأشياء وليس مالكا لها، فهو يعمل بجهد كبير من أجل أن يحصل على سيارة موديل عالٍ، أو يحصل على كاش ورصيد في البنك. 

أي يكون هدفه ماديا، فيكون مرتهنا لهذه الأشياء ومحبوسا في إطار هذه الأشياء فتسيطر عليه وتكون مهيمنة عليه فيكون كل تفكيره نابع منها.

عن الإمام علي (عليه السلام): (من خدم الدنيا استخدمته، ومن خدم الله سبحانه خدمته)(3)، فالإنسان الذي يركض وراء الدنيا يخدمها ويصبح عبدا لها، ويصبح مستخدَما وموظفا عندها ولصالحها، ولكن الإنسان الذي ينظر إلى الله سبحانه وتعالى سوف تكون الدنيا خادمة له، هذا هو الفرق بين الارتهان للأشياء والسيطرة عليها.

لذا فإن التحكم بالأشياء هو أهم ما يجعل الإنسان مسيطرا على أهدافه في الحياة ويجعله زاهدا حقيقيا، فإذا سيطر على الأشياء وتحكم بها تصبح الأشياء لا قيمة لها عنده، لأنه يعرف أنها أشياء فانية وأن البقاء لله سبحانه وتعالى، فهذه الأشياء تذهب، فالإنسان الذي تكون قيمته عظيمة إذا فقد أموالا كثيرة لا يجزع ولا ينزعج، ولا يتألم ولا يعاني، لأنه يعرف ويؤمن بأن الأموال تذهب وتأتي.

هذه هي طبيعة الدنيا والأشياء، فإذا حدث عطل في شيء من أشياء بيته، الثلاجة مثلا عليه أن لا يتألم، لأنه يعرف أن طبيعة الأشاء معرضة للعطل، فإذا أصبح مثل الأشياء قابلا للعطب سيكون معطوبا، لذلك لا تكن حالك حال الأشياء المعطوبة فتكون معطوبا، لأن الإنسان عندما يكون قويا ومسيطرا على الأشياء لا يكون معطوبا بل يكون صالحا دائما وباستمرار، لأن قيمته الذاتية تنبع من معنوياته وذاته ووجوده وشكره لله سبحانه وتعالى.

عن الإمام علي (عليه السلام) يقول: (لا ترغب في كل ما يفنى ويذهب فكفى بذلك مضرة)(4)، إن الأشياء فانية، فإذا أصبحت عبدا بشدة لها ستكون ذاهبا فانيا مثلها، فهذه مضرة، عليك أن تنظر للأشياء بلا قيمة، قيمتها بأنها وسائل تلبي حاجتك في الدنيا لا أكثر، فلا قيمة لهذه الأشياء اكثر مما هو يحتاجه فعلا، فيكون زاهدا بها وبالنتيجة متحكما بها ومالكا حقيقيا لها وليس ملكا لها.

ثانيا- خمول الفكر وسطحية التفكير

الانصياع للأشياء يؤدي إلى خمول الفكر وسطحية التفكير، الفكر شيء كبير، فإذا أصبح هذا الفكر صغيرا بقدر حبة الحمص، يحدث هذا عندما يكون نظر الإنسان بعينه وليس ببصيرته، فيصبح فكره وتفكره ضئيلا حاله حال الأشياء. 

فيكون حجمه وتفكيره بحجم الأشياء التي ينظر إليها، فهو يكدّ ويعمل لكي يشتري له شيء معين، مثلا موبايل غالي وثمين حتى ينظر له الناس بأنه يمتلك موبايلا ثمينا، فتكون قيمته بقدر قيمة هذا الموبايل، وليس قيمته قيمة إنسان متفكر عاقل. 

بالنتيجة عندما يكون فكر الإنسان ضيّقا ضئيلا يكون عنده خمول فكري، وسطحية وتفاهة في التفكير ينظر فحسب إلى الأشياء الشكلية والمادية، فيصبح تافها بقدر تفاهة الماديات والأشياء الفانية التي يلهث وراءها، لذلك نلاحظ العالم اليوم أصبح متشيّئا بالسلع، يزداد تفاهة كلما غرق في المستنقع السلعي.

فترى بعض الناس يذهب وراء عمليات التجميل، وعمليات التزويق والبهرجة، وعندما ينشغل الإنسان بهذه الأشياء فحين تناقشه في أي موضوع ستجد أنه ضحل التفكير وسطحيّ في التفكّر، ضيّق الأفق، ولا توجد عنده بصيرة، وإنما حواسه هي التي تتملكه، ويكون حاله حال الطفل الصغير الذي لا يمتلك بصيرة.

عندما يأتي الصغير إلى الحياة تراه يضع كل شيء في فمه، حتى بصره لا يعمل، أي أنه لا ينظر للشيء من خلال الفكر، وإنما من خلال ما يتذوقه، لذلك يضع كل شيء في فمه، لأن فكره لا يزال صغيرا ويحتاج إلى نمو في ملكة التفكير والتفكر تدريجيا، والتعلم والاكتساب.

خطورة العلاقات الشيئية بين الناس

فهذا الإنسان الذي يكون في حياته وطبيعته المادية وتفكيره بأسلوب مادي يكون ضحل التفكير، ويفقد القدرة على البصيرة، وإذا فقد الإنسان القدرة على البصيرة يصبح ممتلئا بالمشكلات والأزمات والتعاسة، فالكثير من الناس اليوم عندهم مشكلات وأزمات، والسبب لأن علاقاتهم شيئية وليست إنسانية، ولم تقم علاقاتهم على البصيرة وعلى التفكر بل علاقات قائمة على الشيئية. 

فتلاحظ أنه لا يمتلك البصيرة ولا يعرف الحل ولا يوجد عنده وعي، ويكون محجوبا بالماديات والشهوات والأهواء لأن هذه الأمور تحجب النظر بصورة صحيحة إلى الأشياء، فيكون الإنسان عنده أزمات ومشكلات مع الآخرين دائما، وبالنتيجة سوف يعيش حالة من التعاسة والبؤس، لأن قياساته مادية فقط.

والقياسات المادية شكلية ولا تلائم الإنسان كإنسان، بل هي تلائم الأشياء، حيث تقيس علاقاتك مع الآخرين على التشيّئ والشيئية والسلعية وتحترم هذا الشخص لأنه يمتلك الأموال والاشياء، هذه الحالة موجودة في المجتمع اليوم، فلا يُحترَم الإنسان لأنه إنسان، أو لأنه متقٍ، أو لأنه عالم، او لأنه صاحب كفاءة، بل تحترمه لأنه يمتلك الأموال، ولأنه شيء ويمتلك الأشياء، هذه المشكلة خطيرة ونعاني منها اليوم، فلا يُحترَم الفقير حتى ولو كان قديرا في الجوانب المعنوية.

ولكن الزهد يفتح آفاق التفكير عند الإنسان ويجعله واسع البصيرة، متمكنا في التفكير والتفكّر، قادرا على رؤية الأشياء بطريقة صحيحة في الحياة.

أفكار ملوثة بالشهوات والأهواء

وعن الإمام علي (عليه السلام): (الْفِكْرُ مِرْآةٌ صَافِيَةٌ وَالِاعْتِبَارُ مُنْذِرٌ نَاصِحٌ وَكَفَى أَدَباً لِنَفْسِكَ تَجَنُّبُكَ مَا كَرِهْتَهُ لِغَيْرِك)(5)، الفكر مرآة صافية تريك الأشياء الحقيقية في الحياة، اليوم لماذا لا نستطيع أن نفهم، لأن أفكارنا محجوبة، وملوثة بالشهوات والأهواء التي تزوق الأشياء. 

وعندما ننظر إلى الواقع الخارجي ننظر إليه كشيء، ولا ننظر إلى عمق هذا الشيء ومعناه وفلسفته، لهذا يكون الفكر محجوبا، أما الفكر بحد ذاته فهو مرآة صافية يعطي للإنسان القدرة على الاعتبار والفهم والاستفادة من حياته بطريقة صحيحة.

لذلك يجب أن نأخذ بالاعتبار المنذر الناصح لأنه ينصح الإنسان ويرشده الى الطريق الصحيح ويدله على الطريق القويم وهذا يؤدي بالنتيجة إلى (وكفى أدبا بنفسك تجنبك ما كرهته لغيرك)، هذا نوع من التأدب العظيم حيث يصبح الإنسان مهذبا مؤدبا عندما يمتلك القدرة على أن يكون متفكرا منصوحا متعظا في حياته، فيكون مؤدَّبا وينظر للآخرين كعلاقات إنسانية، ويحب لهم ما يحب لنفسه ويكره لهم ما يكره لها، هذه هي العلاقات الإنسانية الصحيحة، وليس العلاقات الشيئية التي تؤدي بالإنسان إلى ضحالة التفكير، والاستبداد بالرأي والأنانية والاحتكار والاستحواذ والنهم الى تملك الأشياء، وإلى احتقار الآخرين.

إن الذي يتصرف بهذه الطريقة ليس بإنسان، بل أصبح شيئا من الأشياء وهذه هي من صميم العلاقات الشيئية، لذلك نؤكد على الزهد لأنه يعطينا القدرة على الرؤية الصحيحة في العلاقات الإنسانية مع الآخرين علاقة متأدبة لها قيمة فوق قيمة الاشياء.

الحالة السلعية والعلاقات الشيئية

وعن الإمام علي (عليه السلام): (فَلْيَنْتَفِعِ امْرُؤٌ بِنَفْسِهِ فَإِنَّمَا الْبَصِيرُ مَنْ سَمِعَ فَتَفَكَّرَ وَنَظَرَ فَأَبْصَرَ وَانْتَفَعَ بِالْعِبَرِ ثُمَّ سَلَكَ جَدَداً وَاضِحاً يَتَجَنَّبُ فِيهِ الصَّرْعَةَ فِي الْمَهَاوِي وَالضَّلَالَ فِي الْمَغَاوِي...)(6)، فتنتفع من نفسك كإنسان، ولا تنتفع منها كشيء، حيث تسيطر عليك الماديات، ينتفع الإنسان من نفسه ويكون بصيرا في حياته، متفكرا وبالنتيجة هذا الإنسان المتفكر بشكل صحيح يسلك الطريق الصحيح الواضح المستقيم، ويتجنب السقوط في المهاوي والضلال والمهالك، لأنه يتفكر بصورة صحيحة.

وهذا هو الذي يحققه الزهد عند الإنسان، فيجعله إنسانا حقيقيا وليس شيئا، لأن الشيء يقود الإنسان كما ذكرنا في المقالات السابقة باتجاه الأشياء والسلع والاستهلاك والطلب الزائد، فيؤدي ذلك إلى الوقوع في المهاوي والضلال والمشكلات والأزمات الكبيرة التي تطرقنا إليها وذكرنا أرقاما كبيرة وكوارث هائلة أصابت الإنسان بسبب الحالة السلعية والعلاقات السلعية والعلاقات الشيئية فيما بين البشر.

ثالثا- فقدان مضمون العمل، والعمل من اجل الأشياء

الإنسان الشيئي المرتهن للعلاقات الشيئية بالخضوع إلى عالم الأشياء، تجعله فاقدا لمضمون العمل، فتتكون لديه غاية محددة وهي العمل من أجل الأشياء، وليس توظيف الأشياء من أجل العمل، هناك فرق بين المعادلتين، أنا أجعل من الأشياء وسيلة لعملي، أو أجعل العمل من أجل الحصول على الأشياء.

فإذا كنت إنسانا يسعى وراء الأشياء فسوف أكون مرتهنا لتلك الأشياء، ومثل هذا الإنسان سوف لا يعرف مضمون العمل، العمل هدف كبير بالنسبة للإنسان، العمل يحقق ذات الإنسان، ويحرك الإنسان من أجل بناء ذاته ونفسه والاستفادة من آفاق الحياة، والتقدم والنمو المتواصل، وترسيخ قيم العمل الجاد والصالح والجيد والمتقن والمتقي، كل هذا يؤدي بالإنسان إلى تحقيق إنسانيته (يَا أَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ) الانشقاق 6. هذا الكدح والعمل الدؤوب هو الذي يجعل الإنسان يحقق ذاته ويعرف نفسه.

حيث يمكن أن نرسخ قيمة العمل في حياتنا ونجعل الأشياء طيّعة بأيدينا، نمتلك الأشياء ونسيطر عليها، من أجل تحقيق أهدافنا العظمى المعنوية السامية العليا.

عن الإمام علي (عليه السلام): (وَإِنَّ الْمَالَ وَالْبَنِينَ حَرْثُ الدُّنْيَا وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ حَرْثُ الْآخِرَةِ وَقَدْ يَجْمَعُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى لِأَقْوَامٍ فَاحْذَرُوا مِنَ اللَّهِ مَا حَذَّرَكُمْ مِنْ نَفْسِهِ وَاخْشَوْهُ خَشْيَةً لَيْسَتْ بِتَعْذِيرٍ وَاعْمَلُوا فِي غَيْرِ رِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ فَإِنَّهُ مَنْ يَعْمَلْ لِغَيْرِ اللَّهِ يَكِلْهُ اللَّهُ لِمَنْ عَمِلَ لَهُ نَسْأَلُ اللَّهَ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَمُعَايَشَةَ السُّعَدَاءِ وَمُرَافَقَةَ الْأَنْبِيَاءِ)(7)، هذا كلام عظيم جدا وفي الصميم، فالإنسان الذي يهمه المال والبنين فقط في حياته، فإنه يفكر في نفسه وأولاده ولا يفكر بالآخرين، ويختصر أمره على الحياة المادية والشهوية، فالمال والبنين هو حرث الدنيا، ولكن ليس هذا عملا صالحا، وجيدا من ناحية المضمون والقيمة الحقيقية والنتائج المستقبلية والعواقب البعيدة المدى. 

التحرّر من عالم الماديات

(والعمل الصالح للآخرة)، هو حرث الزراعة الحقيقية في الحياة، وهو المنتج والانتاج الصحيح في الحياة، لأنه يقودك إلى مضمون أكبر وأعظم من الحالة المادية السلعية الشيئية، ويجمعهما الله تعالى لأقوام أي يجمع لهما حرث الدنيا وحرث الآخرة، وذلك لبعض الناس الأذكياء المتبصرين العقلاء الفاهمين الذين يعرفون كيف يعيشون حياتهم ويتحكمون بالأشياء ولا تسيطر عليهم الدنيا ولا يخدمونها، لأنهم ينظرون إلى الآخرة نظرة بعيدة المدى ومتبصرة، وبالنتيجة يستثمر المال والبنين في العمل الصالح، فيصبح ذلك بقيّة صالحة في الدنيا والآخرة.

عندما يستثمر الإنسان هذا المال في بناء الخيرات من المدارس والجامعات والحسينيات والمساجد والمكتبات ومساعدة الفقراء، هذا هو الاستثمار الصالح في حرث الآخرة، فيكون عنده المال وعنده الدنيا وعنده الآخرة، وكذلك عندما يربي أولاده تربية صحيحة في طريق العمل الصالح، سوف يصبح هؤلاء الأولاد ناجحين في الدنيا وناجين في الآخرة.

هذا عمل جبار وصعب جدا، يجمعه الله عند بعض الناس، حيث يجمعون الأمرين، لأنهم تحرروا من عالم الماديات، ومن عالم المال، ولذلك من أهم التجارات في الحياة هي التجارة في العمل الصالح، واستحصال الربح في الثواب.

عن الإمام علي (عليه السلام): (وَلَا تِجَارَةَ كَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَلَا رِبْحَ كَالثَّوَابِ)(8)، العمل الصالح هو التجارة الحقيقية، لأن هذا الإنسان يربح الدنيا والآخرة، والثواب الحقيقي هو الثواب المعنوي، وحتى الأرباح المادية عندما ينظر لها الإنسان بنظرة اللاشيء فيكون في الواقع ينظر بنظرة الثواب المعنوي وهذا الإنسان يكون رابحا في الدنيا والآخرة.

لذلك عندما تتغير مفاهيم الإنسان ورؤيته للحياة وللأشياء، سوف يستطيع أن يتحرر من الماديات، وينظر إلى الآخرة كتجارة وثواب، إلى الآخرة كهدف، وينظر إلى العمل الصالح كاستثمار حقيقي في الحياة، وبالنتيجة سوف يرى هذه الدنيا الفانية والأشياء الفانية ضحلة ولا يكون خاضعا لمعادلة الأشياء ومتحررا من العلاقات الشيئية، وبالنتيجة تكون علاقات هذا الإنسان إنسانية عميقة، عندما تكون رؤيته معنوية، ومتحررا من اغلال المادة وشاكرا لنِعَم الله سبحانه وتعالى.

للبحث تتمة..

......................................

(1) غُرَرُ الحِكم ودُرَرُ الكلِم، الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، الحديث رقم: 4637.

(2) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 237.

(3) عيون الحكم والمواعظ - علي بن محمد الليثي الواسطي - الصفحة ٤٦٥.

(4) غُرَرُ الحِكم ودُرَرُ الكلِم، الشيخ عبد الواحد بن محمد التميمي الآمدي، الحديث رقم: 2311.

(5) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 365.

(6) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 153.

(7) نهج البلاغة – خطب الإمام علي (ع)، خطبة رقم 23.

(8) نهج البلاغة - حكم الإمام علي (ع)، حكمة رقم: 113.

اضف تعليق