q
الدول التي تصنع اللقاحات تستأثر بها لشعوبها أولا ولمن يدفع نقودا كثيرة ثانيا، ويبدو ان لا خلاص من الحرب الاقتصادية الصحية القائمة بين الدول الكبرى، التي تخلت وبشكل غريب عن المبادئ الإنسانية التي تنادي بها وتستعمر البلدان بسببها وبحجة تدعيمها حرصا منها على تقديم الأفضل لبني البشر...

شغل الجميع منذ ظهوره، وحارت التفسيرات بمن يقف وراءه، بعضهم يقول انه من صنع البشر والبعض الآخر ينسبه الى حقل الفيروسات الطبيعية، ولم تصل الجميع الى حقيقية مطلقة، لكنهم منشغلون في الوقت الحالي بعلاجه الى حد وصول الامر الى نشوب حرب اقتصادية بين الدول المنتجة للقاح.

أخيرا بين معهد بول إرليخ الالماني عن حدوث اتصالات بين الجانب الألماني والروسي بشأن مسألة التسجيل المحتمل للقاح "سبوتنيك V" المضاد لفيروس كورونا في الاتحاد الأوروبي، وعلى الضفة الأخرى أعلن صندوق الاستثمار الروسي المباشر عن استعداده لتوريد نحو مئة مليون جرعة من اللقاح لأوروبا في الربع الثاني من العالم الجاري في حال موافقة وكالة الدواء الأوروبية، كل هذا يأتي وسط خلافات أوروبية بريطانية حول توريدات اللقاح ونقص كبير في الكميات المتوفرة.

داخليا تستمر روسيا بتطعيم مواطنيها بلقاح سبوتنيك (v)، اذ تجاوزت الاعداد المتلقية المليونين مواطن، أي بنسبة 40%، من العدد المقترح للتطعيم ضد الفيروس، ما يعني ان روسيا ماضية بهذا الاتجاه ولم تلتفت للوراء بشأن مطالبات الاتحاد الأوربي الرامية لعدم الاعتراف به وتصديره الى العالم.

التنافس الموجود بين الدول الاوربية له أسباب وخلفيات سياسية وعرقية حالت دون وصول اللقاح الى المجتمع الأوربي، وأبرز ما ظهر للسطح هو الخلاف بين المملكة المتحدة البريطانية ودول الاتحاد التي تدرس إمكانية سن تشريعات تمنع تدفق العلاج خارج بلدان الاتحاد قبل تحقيق نسبة عالية من الاكتفاء الذاتي.

ويسهم تصنيع لقاح فايزر على الأراضي البلجيكية بقاءه داخل الحدود الجغرافية للاتحاد ومنعه من التسرب خارجها، في حين تتمسك بريطانيا بذات المبدأ وتمنع لقاح استرا زينكا من التدفق خارج المملكة بعد ان قررت بالخروج من الاتحاد الأوربي الذي أرهقها كثيرا.

حقيقية الامر ان ما يحصل هو شيء مؤسف بحق البشرية، فطبيعة كورونا الفتاكة لا تحتمل هذا النوع من التنافس السياسي، والنظرة الضيقة التي يحملها أصحاب القرار في البلدان الاوربية القائمة على العنصرية والقومية المطلقة دون النظر، ستؤدي الى إمكانية حدوث مضاعفات تفتك بالمجتمعات الأكثر تخلفا من الناحية الاقتصادية والصحية.

يمكن لكل دولة ان تتمتع بنظام اقتصادي متين قادر على مواجهة التقلبات، كما ان من حقها ان تتبع نظاما تعليميا تراه مناسبا للنهوض بجيلها الناشئ، لكنها لا يمكن ان تكون بمعزل عن التداعيات الصحية وسوء الحال الذي فرضته جائحة كورونا على العالم برمته، فأي مشكلة تحدث في مكان، فهي مشكلة في كل مكان.

ولذلك فأن بقاء دولة فقيرة في اقصى جنوب الكرة الأرضية دون لقاح، سيبقي التهديد قائما على دولة في اقصى الشمال الكروي، وبالتالي نعود للمربع الأول الذي انطلقت منه رحلة العيش مع وباء كورونا وما رافقتها من متغيرات شاملة للكثير من ممارسات الحياة العامة.

جميع الآراء المتخصصة تقول ان الخطر لا يزال يحدق بالبشر، طالما لم تصل نسبة التلقيح الــ70% من كل دولة، أي ذات النسبة من ساكن العالم، وهنا تزداد المسؤولية على عاتق الدول المتنفذة والمالكة للتقنيات والخبرات التي تجعلها قادرة على احتواء المشكلة ولو بصورة نسبية وعدم ترك الوباء يصول ويجول دون رادع حقيقي.

من الالتزامات الأخلاقية التي يجب ان تُفعل بالوقت الحالي هو ترك مبدأ التنافس على حساب الصحة العامة لملايين البشر، فهو ليس تنافسا على صناعة سيارات تحمل قدرا كبيرا من التقنية، ولا حول التسلح والاقتتال والحروب، وانما هو نوع من المتاجرة بأرواح الناس وعدم مراعاة الضوابط الإنسانية وتحقيق مبدأ العدالة الاجتماعية.

لا تزال الدول الاوربية غير قادرة على تخطي النفس العنصري، ومصداق ذلك قول المفوضية الاوربية حين قالت ان المواطن الأوربي أولا وهو الأهم، وتتكلم بريطانيا بذات المنطق، وبين هذا وذاك تبقى الرحى تطحن أرواح الفقراء بمشارق الأرض ومغاربها.

من بين أساليب الصراع المحموم بين الدول الاوربية هو أسلوب التسقيط الذي لمسناه عبر الحرب الإعلامية التي دارت رحاها مع بدأ الإعلان عن التوصل للقاح ناجح لتخليص البشرية من الدوامة الصحية التي بدأت ولم نعرف متى تتوقف عن الدوران.

فنرى روسيا تشهر بالولايات المتحدة الامريكية وتشكك بقدرتها على الوصول لنتائج فعلية لمحاربة الفيروس، ولا تقل عن هذه النبرة العدائية الردود الامريكية، حيث وجهت ما ليدها من قوة إعلامية وتقنية لأثبات الأفضلية على حساب غيرها من الأطراف الدولية.

وفي ظل هذه التجاذبات يشعر شريحة واسعة من الفقراء بالظلم يطرق على رؤوسهم، والسبب هو عيشهم بدول لا تزال تحت خط الفقر وتعاني التهميش الدولي بشكل واضح ولا يمكن انكاره، ولعل أحد يصفني بالتحيز لطرف ما، لكنه ليس تحيزا بقدر ما هو عرض دقيق للواقع الذي ابتعد كثيرا عن الاهتمامات الإنسانية وبقى الامر يتأرجح بين القضايا السياسية والاقتصادية.

اقل من عدد الأصابع هم القادة الذين يحكمون عالم اليوم، ويعتقد كثيرون من بينهم الكاتب انهم غير مؤهلين للتعامل مع الازمات الدولية، فكلما تذهب الأوضاع نحو الهدوء، تتأزم مجددا بسبب قصر الرؤية وعدم معرفة الانعكاسات من وراء هذه القرارات السياسية التي افسدت الجوانب الإنسانية.

ويبقى السؤال الذي يدور بأذهان الكثير ولم يحصلوا على إجابة مقنعه بخصوصه، الى متى تبقى الأقطاب الدولية المعدودة تتحكم بالمجتمعات البشرية من الناحية السياسية والتقنية والاقتصادية والصحية؟، متى تحل هذه العقدة ويتحرر العالم من هذه الهيمنة المقيتة؟

الدول التي تصنع اللقاحات تستأثر بها لشعوبها أولا ولمن يدفع نقودا كثيرة ثانيا، ويبدو ان لا خلاص من الحرب الاقتصادية الصحية القائمة بين الدول الكبرى، التي تخلت وبشكل غريب عن المبادئ الإنسانية التي تنادي بها وتستعمر البلدان بسببها وبحجة تدعيمها حرصا منها على تقديم الأفضل لبني البشر!

مثلما تقرر إعطاء اللقاح للأشخاص ممن هم أكثر حاجة اليه، وهم كبار السن وأصحاب الامراض المزمنة، ومن ثم الى بقية الشرائح، فان من الأولى ن تكون هذه الطريقة متبعة بجميع الاصقاع، ولا يستثنى منها فقير او غني، فالحاجة هي من توجب الاعطاء من عدمه وليس الانتساب لدولة (س) يجعلك أفضل ممن يعيش بدولة (ص) وبالتالي عرضنا الضمير الاممي الى نكسة واقعية.

اضف تعليق