q
الحوزات العلمية وتفرعاتها من مدارس دينية تدرّس علوم أهل البيت، عليهم السلام، في مناطق مختلفة من العالم، تتميّز عن جميع مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي في العالم بأنها أشبه ما تكون بشخص يحمل صندوقاً مليئاً بالمجوهرات يريد العبور به عبر نهر عظيم متموّج الى الضفّة الأخرى محافظاً على نفسه من الغرق...

الحوزات العلمية وتفرعاتها من مدارس دينية تدرّس علوم أهل البيت، عليهم السلام، في مناطق مختلفة من العالم، تتميّز عن جميع مؤسسات التعليم المدرسي والجامعي في العالم بأنها أشبه ما تكون بشخص يحمل صندوقاً مليئاً بالمجوهرات يريد العبور به عبر نهر عظيم متموّج الى الضفّة الأخرى محافظاً على نفسه من الغرق، وعلى صندوق المجوهرات من الضياع.

الكنوز المعرفية والعلمية الهائلة هي التي تطمئن الناس بوجود رصيد من القوة والمَنَعة تعينهم على مواجهة التحديات في الخارج، فضلاً عما توفره من حلول وبدائل لما تشكوه في الداخل.

حتى وإن جرى القضاء بتغييب معالم هذه القوة ذات البعد المعنوي لصالح تسيّد القوى المادية المختلفة الاشكال في الساحة، يبقى الجانب الانساني ذو الصلة بمسائل الأمن والحكم والسلم الأهلي، وحتى الاقتصاد، على صلة عضوية بمشروع الحوزة العلمية بالاساس، اذا ما عدنا الى فلسفة وجود هذا الكيان في الحقبة التاريخية المتأخرة كحالة متطورة لمشروع البناء الانساني والحضاري الممتد منذ عهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وبداية العلاقة مع التلاميذ، ثم الفقهاء، ثم الوكلاء في عهدهم، وفي عهد ما بعد غيبة الامام الحجة المنتظر، عجل الله فرجه-.

أصحاب القرار السياسي في العواصم المعنية بالوضع العراقي على وجه التحديد ينظرون بأكثر من عين على مكونات التأثير في كوامن الانسان العراقي لدى سماعه "فتوى الجهاد الكفائي" مثلاً، أو المشاركة في العملية الديمقراطية (الانتخابات)، أو عدم الانجرار وراء الاستفزازات والصراعات الطائفية، ولا أشك أن هذا التأثير الخفي كان يدفع أولئك المعنيين لدعوة الحوزة العلمية لتفعيله والاستفادة منه في أيام الشدّة حتى إن كان رجال الحوزة العلمية، وفي طليعتهم؛ مراجع الدين عازفين عن التصدّي للشأن السياسي.

مسارات لأدوار استراتيجية

وهذا يؤكد الادوار بعيدة المدى (الاستراتيجية) للحوزة العلمية، الى جانب أدوارها الآنية في أداء مهمتها الأساس في دراسة الأحكام الشرعية وفق مبدأ الاجتهاد الذي تنفرد فيه المدرسة الفقهية لأهل البيت، عليهم السلام، ثم نشر وتعميق الثقافة الدينية في المجتمع، ومتابعة المشاريع الخيرية والثقافية، ولعل استمرار وجود روح التكافل الاجتماعي، و الوازع الديني في السلوك العام، وبشكل عام الأرضية الدينية الملاصقة للفطرة البشرية، هي التي تستدعي المزيد من البحث استراتيجياً لضمان الاستمرارية والحيوية والعطاء بالشكل الصحيح من خلال مسارات عدّة نذكر منها:

المسار الأول: تقويم العقل

وقد كان مثار جدل عميق في بواكير الحركة العلمية منذ عهد الامام الصادق، والامام الرضا، عليهما السلام، عندما ادّعى طائفة من علماء الأمة أرجحية العقل كحجة وحيدة على سائر الحجج في تثبيت حقائق الدين، وتنحية الغيب والوحي من مرتكزات التشريع والعقيدة، الأمر الذي أثار قلقاً عميقاً، وهاجساً سكن نفوس طائفة كبيرة من العلماء المقربين من الأئمة المعصومين، ثم في الفترة اللاحقة، والى يومنا الحاضر، مما حداهم للانطواء على الروحيات والمعنويات كأساس للعقيدة و داينمو للأخلاق والآداب، مع عدم جهلهم بالثنائي العلمي من حيث المبدأ؛ العقل والوحي في تحديد مسارات التشريع واستخراج الاحكام الدينية، ولا أدلّ من المساحة الواسعة للنشاط الذهني والعقلي في عهد الأئمة الاطهار من نموذج جابر بن حيان، عبقري الكيمياء، وما انتجته الحوزة العلمية في فترات زمنية لاحقة من علماء برعوا في مجالات الهندسة والفلك والطب، وما تزال معالم تلك المنجزات العلمية ماثلة للعيان في بقاع عدّة من البلاد الاسلامية.

هذه القطيعة سببت لنا مآلات قاسية ليس أقلها التخلّف على مختلف الصُعد، ثم التبعية القاتلة الى حد التقليد الأعمى بسبب الحاجة الى التقنيات الحديثة والتكنولوجيا المتدخلة في مختلف شؤون الحياة، لاسيما عالم الاتصال، و لتدارك هذه الثغرة دعا علماء في الحوزة العلمية الى حل وسط بتزكية النفس وتهذيبها لتكون قادرة على قيادة العقل نحو اكتشاف الحقائق العلمية ثم الاستفادة منها بما يخدم البشرية، فمن دون هذه التزكية لن يأمن العلم من استغلال أهل المال والسلطة في تجيير العقول لانتاج اسلحة الدمار الشامل، او العمل على تجويع المليارات من البشر لاستنزاف ثرواتهم، أو التسبب في خلق أوبئة فتاكة.

والتزكية تعني أن يتعلم الطالب الأخلاق والدين قبل علوم الطب والهندسة والأحياء المجهرية، وحتى الاقتصاد والسياسة، حتى تكون علميته قائمة على أساس أخلاقي وانساني وحضاري يرنو الى خدمة البشرية، وتحقيق بعض مستويات السعادة في الحياة.

المسار الثاني: حُب الرموز الناجحة

وهو ما أكده علماء التربية والاجتماع والنفس في تأثير الاقتداء على مسيرة الانسان بالحياة، فاذا كانت القدوة ناجحة على طول الخط، كان النجاح حليف المتأثر على طول الخط ايضاً، وليس لفترة محدودة، أما اذا كانت القدوة فاشلة فمن المؤكد تجر المتأثرين الى مهاوي الفشل ولو بعد حين، لوجود بعض المظاهر البراقة والمثيرة للمشاعر والغرائز توهم اصحابها بأنهم يتعلقون بفارس الأحلام.

وعندما يكون الحديث عن رموز انسانية عظيمة مثل المعصومين الأربعة عشر، عليهم السلام، ومن كانوا حولهم من شخصيات اقتبسوا من نورهم العلوم والمعارف والآداب، فارتقوا الى المعالي، فهذا يعني أننا نتحدث عن علاقة تتوفر على كل مقومات النجاح لأمرين اساس: الاول؛ المشترك الانساني، وهي الحجة البالغة التي رافقت مسيرة الانبياء والمرسلين في تعاملهم مع أهل زمانهم، {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ}، والاساس الثاني؛ التطابق الفطري بين هذه العلاقة وبين كل الفضائل والمحاسن الموجودة لدى تلكم الشخصيات العظيمة، مما يجعل إقامة علاقة الحب والاقتداء غاية في السلاسة والعفوية، و دون أي تكلّف او تصنّع، والانسان بطبعه ميّال الى الخير والحق والفضيلة، حتى وإن كان حاكماً طاغياً، او فرداً منحرفاً ومجرماً، فانه يسعى دائماً لجرّ الحق الى نفسه وأعماله.

وبقدر النجاح في تعميم القدوة الناجحة والنموذج الأسمى، بنفس القدر نكون، ليس فقط عممنا التجارب الناجحة على الاجيال الممتدة، بل وحولنا هذا النجاح من محيط السلوك الاجتماعي والبناء الفردي، الى فرصة ذهبية لتعويض شيء من مسافات التخلف عن الآخرين، مما ورد ذكره في المسار الاول، بالاستضاءة من المنهج العلمي لتلكم الرموز العظيمة، وكيف كانوا يختصرون الطرق لاصحابهم نحو المكتشفات العلمية.

المسار الثالث: مواجهة تحديات الحياة

صحيح أن الناس في كل مكان ينظرون الى حياتهم اليومية لتلبية الاحتياجات المعيشية بالمستوى المقبول، بيد أنهم يتطلعون ايضاً الى المستقبل، لاسيما في ظل المعطيات السياسية التي ثقفت الناس على التفكير، ليس فقط بالحصول على وظيفة، وإنما الوظيفة التي يصاحبها "التقاعد" لضمان استمرار الراتب الشهري، مخافة الفاقة والعِوز، هذا الى جانب هواجس التعليم والصحة والبناء والزواج، كلها ذات مديات مستقبلية تحتاج برامج وخطط متكاملة تتولى أمرها مؤسسات الدولة، بيد أن الحوزة العلمية بامكانها تقديم المشورة والاقتراحات وفق معرفتها بأحوال الناس وتوجهاتهم، لاسيما اذا عرفنا أن علوم الفقه تستوعب جميع شؤون الحياة، حتى الجانب التعبّدي في مسائل الطهارة لها مدخلية مباشرة في الصحة البدنية كما أثبتت التجارب العلمية، الى جانب المسائل المتعلقة بعقود العمل، والبيع والشراء، والزواج، والقضاء، مع وجود منظومة أخلاقية متكاملة في سيرة المعصومين، عليهم السلام، من شأنها تنظيم حياة البشرية كلها و رسم الطريق الآمن لحياة أفضل.

كل هذا بحاجة الى بلورة وتفعيل وتثقيف عام ليجد تطبيقاته العملية على ارض الواقع، وإلا فان الناس تعرف مسبقاً أن كل الخير والفضيلة والنقاء في منهج أهل البيت، عليهم السلام، لذا نجدهم يلوذون بمراقدهم المقدسة ليل نهار، ويتوسلون بهم الى الله –تعالى- لقضاء حوائجهم المستعصية، أما كيف يكون للدين تأثير في تربية الأولاد، أو حل مشكلة عائلية، او توفير فرصة عمل، او تذليل العقبات أمام طلب العلم، فهذا ما يغيب عن كثير من افراد المجتمع الاسلامي في هذا البلد او ذاك.

فاذا نُقرّ بمحورية المرأة في كيان المجتمع، كما نُقرّ بحساسية الطفل كبذرة قابلة للنمو والتطور التأثّر ايضاً، فنحن معنيين اليوم –وكل يوم- بالعمل في كل الاتجاهات لاستيعاب هذين المحورين الاساس في كيان الأمة، والاهتمام بهما من خلال برامج تأسيسية تهتم بصحة المرأة والطفل عبر الرياضة، وثقافة الغذاء، واستجلاء المهارات والهوايات لاكتشاف المواهب الكامنة خلف حُجب نفسية او عادات اجتماعية غير بناءة، ومن ثمّ الحديث عن التنمية الفكرية بالمطالعة والتواصل المفيد.

إن شريحة المرأة والطفل على وجه التحديد بانتظار المؤسسة الدينية –الحوزة العلمية- لتدلو بدلوها في هذا المعترك الثقافي والفكري المحتدم بالعالم، فإن تعجز عن مجارات الآخرين في الإطار المثير المتمثل بالتطور التقني والتكنولوجي، فانها تنفرد بالمحتوى العميق والثري بالافكار المنطقية المتطابقة مع فطرة الانسان، وهو ما تنجذب اليه النفوس من خلال صالات الرياضة، وقاعات الرسم والنحت والخط والكتابة وسائر الاعمال اليدوية والفنية تفتح ابوابها للبراعم والصغار من الجنسين، ليتعلموا فنون الحياة.

هل الفكرة قابلة للتحقيق؟!

اذا راجعنا سيرة مراجع الدين خلال القرن الماضي، نجد أن تجارب ناجحة بشكل باهر ثبتها مراجعنا الكرام في تاريخ العلاقة بين الحوزة العلمية والمجتمع، فقد كان الناس يعودون الى الحوزة والى العلماء في كل شيء بحياتهم، من أخلاق وآداب، ومعاملات في السوق، ومسائل أسرية واجتماعية، فضلاً عن أحكام الدين، ومن ألمع التجارب؛ مرجعية السيد ميرزا محمد حسن الشيرازي في سامراء، الذي ورد أنه لم يكذّب حامل رسالة تلاعب برقم لمبلغ مالي طلبه وكيله في مدينة ما، ثم قال للمقربين منه: "ربما كان يحتاج الى المال"، فقد ستر عليه ولم يفضحه امام الناس، وربما نبّهه على فعلته فيما بعد، وايضاً؛ مرجعية السيد ابوالحسن الاصفهاني الذي ظل واقفاً لفترة طويلة أمام سائل عن كيفية الصلاة للمصاب في ساقه، ثم اجابته له "انك تتمكن من الصلاة واقفاً دون جلوس، لأنك وقفت امامي لفترة اطول من الصلاة"! وثمة أمثلة ونماذج رائعة من علاقة لصيقة بمراجع الدين، وايضاً؛ بخطباء المنبر الحسيني وعلماء أفذاذ بمختلف شرائح المجتمع، ومنهم النساء والاطفال و"المتعلمين" في مؤسسات الدولة.

إن أكثر ما يقضّ مضاجع الناس في الوقت الحاضر؛ جهلهم بما يحدث غداً، بسبب تشابك القضايا السياسية مع الاقتصادية والأمنية، مما خلق أجواء ضبابية قاتلة تثير القلق والحيرة، وتفقد الإرادة على فعل شيء، فالجميع يجدون انفسهم منفذين لأوامر الأقوياء، او متأثرين بهم، ولا شغل لهم سوى قضاء يومهم بأحسن ما يكون، ومن اجل ضمان المستقبل عليهم توطيد العلاقة مع اصحاب القوة، وهي ليست سوى سلطة الحكم والمال، وقد أثبتت التجارب أن حتى هذه القوى الظاهرية لم تضمن الحياة السعيدة عندما يظهر من هو أقوى من القوي السابق، فاذا تمت الإطاحة بهذا القوي ينقلب النعيم الى جحيم لكل من رهن مصيره به، بينما الحوزة العلمية بامكانها تقديم نموذج للقوة الحقيقية المستدامة طول الزمن، والتي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.

اضف تعليق