q
إسلاميات - اخلاق

النصيحة رأسمال

من المحفزات الاخلاقية

إن النصيحة رأس مال لمن يتاجر، او يتعلّم، أو يتزوج، او حتى يعيش حياة طيبة في محيطه الاجتماعي، ولكن! هذه الهدية الثمينة معرضة للضياع والفساد لمجرد خطأ بسيط في الطرح، فبدلاً من أن تكون مرقاة للتطور والرقي، تكون سبباً في الابتعاد عن القيم والفضائل، كما نشهده اليوم، لاسيما في اوساط الشباب، بل وحتى الاطفال...

"حق المؤمن على المؤمن أن يمحضه النصيحة في المشهد والمغيب"

الإمام موسى بن جعفر الكاظم، عليه السلام

لا يماري أحد في حاجته الى من يساعده على تحقيق آماله وطموحاته في الحياة، مهما أوتي من الذكاء والمال والقدرة البدنية، فثمة أشياء يراها الآخرون القريبون منه، وربما حتى البعيدون دون أن يراها هو، لذا كانت التجارب والعِبر مما يوصي به الحكماء والعلماء لمن يريد الرقي والتطور.

هذه المساعدة تختلف بيافطاتها في طريق الحياة، فثمة ما نقرأه بأنه إرشاد، أو إبلاغ، أو تحذير، وحدود هذه الاشارات بقدر ما نراه او نسمعه، ثم نمضي الى حال سبيلنا، نواصل طريقنا فيما نريد، بيد أن ثمة إشارة من نوع خاص، لها طعم خاص ايضاً، فهي لا تكتفي بإرسال إشارة عابرة، بقدر ما تحمل ترافق صاحبها الى أقصى درجات الاستفادة، بل لها مدخلية في تقوية أواصر العلاقات الاجتماعية عندما يعدها المعصوم، عليه السلام، حقاً على المؤمن لأخيه المؤمن، كما صدرنا المقال، فهي من لبنات البناء الاخلاقي والانساني لكيان المجتمع والأمة الناهضة.

وفي اللغة؛ "صَحَ الْجَوُّ: صَفا"، و "نَصَحَ الشيءُ نَصْحاً، ونُصُوحًا، ونَصَاحةً: خَلَصَ"، و"النَّصْحُ: إِخلاصُ المشورة"، كما جاء: "نَصَحَ الثوبَ ونحوَه نَصْحاً، ونِصَاحَة: أَنعم خياطَته"، مما يؤكد الدلالة العميقة لهذه الفضيلة، و علاقتها اللصيقة بالنفس والفطرة الانسانية.

أقرب الطرق للخروج من زنزانة الفردية

كل الناجحين في الحياة درجوا على أم حنون، أو أب حكيم، أو معلم مخلص، أو صديق وفي، مدوا جميعاً –أو أحدهم- يد النصح لمواصلة الدراسة الى مراتب علمية عليا، أو للحصول على مهارات عملية، أو الانخراط في التجارة والدخول في مشاريع استثمار، او حتى تحقيق زواج ناجح، وتشكيل أسرة بمواصفات انسانية وأخلاقية راقية، ولم يتنكّر أحد من هؤلاء، أو غيرهم لمبدأ النصيحة.

بينما يعتقد البعض الاستماع الى الغير فيما يتعلق بشؤون الحياة، مدعاة للفشل والخسران، بدعوى التقاطع في الأمزجة والقناعات واختلاف الظروف الاجتماعية، والمستويات الثقافية، فمن يكون بالمستوى الذي ينصح طالب جامعي –مثلاً- في طريقة اختياره لتخصص علمي، أو ينصحه في طريقة تعامله مع الاشياء والاشخاص في المجتمع، أو حتى بعض التصرفات ذات العلاقة بالمحيط الاجتماعي وما تتركه من آثار سلبية في بعض الاحيان؟

لذا يكون التفضيل بأن يكون الانسان "ناصحاً لنفسه"! فهو أدرى بأحواله ومكنوناته، أما الآخرون فانهم ينصحون بدوافع مختلفة لا تلامس همومه وواقعه، وربما –حسب تصور البعض- ينصح بدافع المصلحة الشخصية، او لحل مشكلة اجتماعية، كما يحصل في بعض البيوت، في حين إن النصيحة بهذه المواصفات هي بالحقيقة مثل الماء الزلال النازل من الأعالي، يمر عبر الصخور والتعرجات غير المريحة، ولكنه "عذب فرات"، لأن "من أكبر التوفيق الأخذ بالنصيحة "، يقول أمير المؤمنين، عليه السلام، في "غُرر الحكم و دُرر الكلم".

و رب قائل عن الكم الهائل من المعلومات على الانترنت، وفي مواقع التواصل الاجتماعي، وهي تضخ على مدار الساعة مختلف اشكال الاحاديث التي تحمل صفات التوجيه والتعليم والإرشاد، وحتى النصيحة، والمستهدف بالدرجة الاولى الشباب المتطلع الى الأفضل في الحاضر والمستقبل، فمن الأقرب؛ هذه الاحاديث الصادرة من أماكن مجهولة، وربما من وراء البحار، عادةً نفسها قريبة ولصيقة باليد (الموبايل)، أم الوالدين أو الاخوان والاصدقاء المقربين ممن يستشعرون الهموم المشتركة، مما يسهّل عملية ايجاد الحل، او حتى اقتراح الافكار العملية للتطوير وايجاد فرص عمل مناسبة للشاب او الشابة؟ لاسيما مع الظروف الاجتماعية المشتركة، وامكانية الإفادة من تجارب اجتماعية او مهنية، او علمية لدى الآخرين تتطابق مع شخصية الشاب الباحث أبداً عن الأفضل.

النصح الذاتي أولاً

ما يعزز ثقافة النصيحة في المجتمع؛ استشعار آثار النصيحة عند الناصح نفسه، فمن ينصح بالصبر، والتعاون، والزهد، وحب الآخرين، وسائر الفضائل والمحاسن، وتجنّب الرذائل، لابد أن يلتزم بمبدأ "البداية من النفس"، وهو ما أكد عليه الإسلام في منظومته الأخلاقية والاجتماعية، وقد صرحت الآية القرآنية على شكل تساؤل استنكاري: {یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفۡعَلُونَ * كَبُرَ مَقۡتًا عِندَ ٱللَّهِ أَن تَقُولُوا۟ مَا لَا تَفۡعَلُونَ}، كما أوصت الروايات الواردة من المعصومين، بالأهمية البالغة للبداية من النفس في النصيحة والإرشاد والوعظ قبل الآخرين، لتكتسب النصيحة مصداقية عملية، مع مصداقية أخلاقية تعزز الثقة بالقيم الاخلاقية في النفس، بينما نجد النتائج العكسية عندما يكون التعامل العكسي مع مفهوم النصيحة، لذا قال أمير المؤمنين في "دُرر الكلم": "إن أنصح الناس أنصحهم لنفسه و أطوعهم لربه".

وثمة مسألة جوهرية حساسة في هذا السياق يتعلق مراعاتها بنجاح النصيحة من حيث المبدأ والتطبيق، فالانسان؛ مهما كانت حاجته للنصيحة –كما يرى المحيطين- فانه يحتاج قبل هذا لمراعاة مشاعره ومكنوناته النفسية، فهو يحب الظهور، والمديح، والشكر، ولا يرضى بالمهانة، وربما تكون بعض الفضائل المتوجه اليه مثل المساعدة المالية، او المساعدة الاستشارية، او أية مساعدة اخرى، لكن يجد أنها تمر عبر المهانة والإذلال، فيكون الموقف؛ الرفض، مهما كانت حاجته اليها شديدة، او حتى يعرف يقيناً أنه مخطئ في موقف أو كلمة له بحق شخص ما، او في مكان ما، وطالما أكد علينا المعصومون، عليهم السلام، بأن تكون المساعدة بمختلف اشكالها تحت جنح الظلام، او بشكل ثنائي وخاص بعيداً عن الانظار، ومن بلاغة القول عن أمير المؤمنين: "نصحك بين الملأ تقريع"، فكما صدقة السر تحفظ ماء وجه الفقير، وتحفظ كرامته، فان نصيحة السر تحترم عقل الطرف المقابل.

حقاً؛ إن النصيحة رأس مال لمن يتاجر، او يتعلّم، أو يتزوج، او حتى يعيش حياة طيبة في محيطه الاجتماعي، ولكن! هذه الهدية الثمينة معرضة للضياع والفساد لمجرد خطأ بسيط في الطرح، فبدلاً من أن تكون مرقاة للتطور والرقي، تكون سبباً في الابتعاد عن القيم والفضائل، كما نشهده اليوم، لاسيما في اوساط الشباب، بل وحتى الاطفال لانهم لا يتحسسون حلاوة ونقاوة النصيحة بما يندمج مع نفسيتهم ومشاعرهم وحاجاتهم في الحياة.

اضف تعليق