q
كان المشاركون في الاستطلاع أكثر إيجابية بشأن أمورهم المالية؛ ولكن عندما يُسألون عن الاقتصاد ككل، كانوا يعبرون عن التشاؤم. إن عدداً أقل من الناخبين ينظرون الآن إلى القضايا الاقتصادية باعتبارها "المشكلة الأكثر أهمية" في أميركا مقارنة بشهر أكتوبر، كما زاد عدد الناخبين الذين يعبرون عن ثقتهم..
بقلم: جيفري فرانكل

كامبريدج ـ إن الولايات المتحدة الأمريكية تعيش في أيامنا هذه وضع اقتصادي جيد بشكل غير معتاد حيث لا يلوح في الأفق أي ركود، ولكن يبدو أنها تعاني من حالة تتلخص في "اعتقاد الناس بوجود ركود"، إذ تظهر استطلاعات الرأي استياء واسع النطاق إزاء الاقتصاد وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. ما الذي يفسر هذا التباين بين الأداء والتصور؟ وقد تم تقديم ما لا يقل عن ست إجابات وبعضها أكثر مصداقية من غيرها.

التفسير الأول هو أنه لا يوجد تباين على الإطلاق؛ فالمؤشرات الاقتصادية الإيجابية خاطئة أو مضللة، والحالة الحقيقية للاقتصاد الأمريكي سيئة كما يشير الرأي العام، وهذا التفسير خاطئ بكل بساطة، فبينما يمكن أن يتعرض رقم معين لخطأ في القياس، فإن مجموعة واسعة من الإحصاءات ــ التي تغطي النمو الاقتصادي، وقوة سوق العمل (الوظائف التي تم توفيرها أو البطالة)، والتضخم (مؤشر أسعار المستهلك أو نفقات الاستهلاك الشخصي، سواء كانت رئيسية أو أساسية) ــ قد تم جمعها بشكل منفصل إلى حد كبير وهي ترسم بأغلبية ساحقة صورة إيجابية للغاية.

 إن التفسير الثاني المحتمل ــ الذي يقدمه الخبير الاقتصادي بول كروجمان وآخرون ــ هو أن نتائج استطلاعات الرأي السلبية تعكس الحزبية الجمهورية، وعلى الرغم من أن المرء قد يفترض أن الديمقراطيين والجمهوريين حزبيون على حد سواء، فإن المشاركين في استطلاعات الرأي من الجمهوريين يميلون في الواقع إلى التأثر بشكل أكبر بالحزب الذي يسيطر على البيت الأبيض. عندما خلف الجمهوري دونالد ترامب الديمقراطي باراك أوباما، أعلن الجمهوريون فجأة عن رضا أعلى بكثير عن الاقتصاد، وعندما تولى الديمقراطي بايدن السلطة، أصبحوا يركزون مرة أخرى على الحرمان الاقتصادي المفترض للأسر الأمريكية. تميل ردود استطلاعات الرأي من قبل الديمقراطيين إلى متابعة المؤشرات الاقتصادية عن كثب.

يؤكد التفسير الثالث ميل وسائل الإعلام الإخبارية إلى التركيز على الأمور السلبية. يمكن أن تصبح الزيادات في أسعار البنزين عناوين أخبار رئيسية، ولكن من غير المرجح أن تظهر الانخفاضات في الصفحة الأولى. إن المتنبئين الذين يتوقعون حدوث ركود وشيك - كما فعل كثيرون في عام 2022 - يحظون باهتمام أكبر بكثير من الصحفيين مقارنة بأولئك الذين يختلفون معهم. أما على وسائل التواصل الاجتماعي، فإن من الممكن أن ينتشر بسرعة منشور يحتوي على حكاية مضللة تشير إلى أن التضخم قد أصبح خارج عن السيطرة بينما القصة التي تتحدث عن تحسين النتائج تدريجيًا هي أقل قابلية للمشاركة بكثير.

 رابعاً، تتخلف التصورات عن الواقع فعندما خسر جورج بوش الأب محاولة إعادة انتخابه في نوفمبر 1992، اعتقد الأمريكيون أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت لا تزال في حالة ركود؛ ولكن الركود كان قد انتهى في مارس 1991، وعلى نحو مماثل، خلال انتخابات التجديد النصفي في عام 2010 وحتى الانتخابات الرئاسية في عام 2012، تصور العديد من الأميركيين أن الركود العظيم ــ الذي انتهى في يونيو 2009 ــ لا يزال مستمراً، وقد يكون نفس هذا التأخر موجودًا اليوم، ففي نهاية المطاف، يستغرق التغير في التضخم ما يقدر بنحو عامين حتى يتمكن ثلاثة أرباع تأثيره التراكمي الطويل الأجل من أن يشكل انطباعًا على معنويات المستهلك، وقد بدأ التضخم في الانخفاض في الولايات المتحدة في يونيو 2022.

خامسا، لا تكمن المشكلة في معدل ارتفاع الأسعار، بل في مستوى الأسعار، فقد كان مؤشر أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة أعلى بنسبة 16% في يناير 2024 عما كان عليه قبل ثلاث سنوات، وقد أدى هذا إلى تعزيز السردية ــ التي تروج لها وسائل الإعلام الرئيسية والبديلة ــ والتي مفادها أنه حتى مع تبدد التضخم فإن إرثه المتمثل في ارتفاع الأسعار يؤدي إلى انخفاض الدخل الحقيقي للأسر وبالتالي مستوى معيشتها.

ولكن خلال فترة الثلاث سنوات نفسها، ارتفعت الأجور في الساعة بنسبة 16%، وازداد الدخل الوطني بنسبة 18%، ونما الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بما يتجاوز 21%، وتوسع الإنفاق الاستهلاكي بالدولار الأميركي بنسبة 23%. وبالتالي فإن القوة الشرائية للأسر الأميركية أصبحت أعلى بالقيمة الحقيقية مما كانت عليه قبل ثلاث سنوات وعلى الرغم من ارتفاع الأسعار.

إن من المؤكد أنه على الرغم من أن التكاليف الحقيقية المترتبة على التضخم المعتدل منخفضة في سنة ما ــ وخاصة بالمقارنة مع الفوائد الحقيقية المترتبة على النمو الاقتصادي ــ الا ان الارتفاع التدريجي للتضخم سوف يؤثر في عمل الاقتصاد بنهاية المطاف حيث ليس من الممكن إبقاء الاقتصاد في حالة توسع غير منضبط بشكل دائم. وعليه فإن الزيادة الأخيرة في الأسعار لا تجعل من الصعب على أغلب الأميركيين تغطية نفقاتهم (على الأقل ليس أصعب مما كان عليه الحال قبل بدء موجة التضخم الأخيرة)، وعلى الرغم من أن خبراء الاقتصاد لا يستطيعون تجاهل تصورات الناس ــ فالتضخم لا يحظى بالشعبية وحتى عندما يتم تعويض تأثيراته على الدخول الحقيقية بشكل فعلي ــ الا انه من غير الممكن بالنسبة لنا أن نقبل السرديات التي تتعارض مع الحقائق.

 ولا يزال البعض يجادلون ــ وهذا هو التفسير الأخير ــ أنه حتى لو كانت أحوال المواطن الأميركي العادي على ما يرام، فإن التضخم يلحق الضرر بالأسر ذات الدخل المنخفض. إن هذا الطرح غير صحيح حيث تشهد الأجور الأسبوعية الحقيقية ارتفاعًا منذ أن بلغ التضخم ذروته في الربع الثاني من عام 2022 وخاصة بالنسبة لأدنى شريحة من العمال. ماذا عن الشخص المسن الذي يعتمد على الضمان الاجتماعي، ويسدد أقساط الرهن العقاري على منزله والذي جعل حسابه البنكي سنة 2020 فارغًا بنهاية الشهر؟ أنه الان في وضع أفضل لأن مدفوعات الضمان الاجتماعي مرتبطة بالتضخم. وعلى الرغم من أنه ليس من الضروري أن يكون هناك تفسير واحد للتصورات السلبية المتعلقة بالاقتصاد، فإن فرضية التأخر تبدو أكثر إقناعًا.

 توجد هناك أسباب تجعلنا نعتقد أن الأميركيين بدأوا يدركون أن الأمور تتحسن، فبادئ ذي بدء، كما أشار كروجمان، كان المشاركون في الاستطلاع أكثر إيجابية بشأن أمورهم المالية؛ ولكن عندما يُسألون عن الاقتصاد ككل، كانوا يعبرون عن التشاؤم. علاوة على ذلك، ارتفع الإنفاق الاستهلاكي بسرعة. ثم هناك أحدث نتائج الاستطلاعات، فقد ارتفع منذ نوفمبر الماضي مؤشر جامعة ميشيغان لثقة المستهلك والذي كان منخفضًا بشكل محير في عام 2022 وأوائل عام 2023. وفقاً لمؤسسة غالوب، فإن عدداً أقل من الناخبين ينظرون الآن إلى القضايا الاقتصادية باعتبارها "المشكلة الأكثر أهمية" في أميركا مقارنة بشهر أكتوبر، كما زاد عدد الناخبين الذين يعبرون عن ثقتهم بالاقتصاد وبعض وسائل الإعلام تشير إلى تحسن التصورات. وفي غضون عامين فقط، تحولت السردية السائدة من "نحن حاليا في حالة ركود" (أوائل عام 2022) إلى "الركود وشيك ولا مفر منه" (أواخر عام 2022) إلى "الثقة في الاقتصاد منخفضة" (أوائل عام 2023) إلى "هناك فجوة بين التصورات السيئة والمؤشرات الجيدة” (أواخر 2023). ولعل السردية في الغد هي أن الاقتصاد جيد ــ والناس يعرفون ذلك.

* جيفري فرانكل، أستاذ تكوين رأس المال والنمو بجامعة هارفارد، عمل سابقًا كعضو في مجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس بيل كلينتون. وهو باحث مشارك في المكتب الوطني الأمريكي للبحوث الاقتصادية.

https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق