يعيش الاقتصاد العراقي منذ سنوات تحت تأثير صدمة هبوط اسعار النفط وتداعيات تراجع الايرادات الريعية عن المستويات التي تطبع عليها الاقتصاد والانفاق الحكومي العام بشقيه الجاري والاستثماري. ويتسع مأزق الاقتصاد الوطني مع استمرار موجات التذبذب والهبوط السعري في اسعار النفط الخام وعجز الحكومة عن تأمين موارد مالية بديلة للنفط من جهة وضغط وترشيد النفقات الحكومية من جهة اخرى. وقد الزم الواقع الاقتصادي الجديد الحكومة العراقية التفتيش عن موارد مالية بديلة تفادياً لانزلاق الاقتصاد الوطني الى الجزء الحاد من الازمة. ويتصدر الغاز الطبيعي مشهد الموارد الاقتصادية التي يمكن الاستعانة بها لتجاوز الازمة المالية في البلد وتعظيم الموارد والحد من الهدر والتلوث البيئي الناجم عن احتراق الغاز المصاحب للنفط منذ سنوات.

هدر الغاز الطبيعي: حقائق وارقام

يعد الغاز الطبيعي من أهم مصادر الطاقة البديلة للنفط، وأحد ثروات العراق التي لم تستغل بشكل الأمثل منذ عقود ولم توظف لخدمة عملية التنمية وتعظيم الموارد بشكل جيد. كما يصنف العراق كثاني أكبر دولة في إحراق الغاز على مستوى العالم رغم كونه يعاني من نقص حاد في امدادات الغاز، مما يحمل الموازنة العامة وميزان المدفوعات تكاليف باهظة لاستيراده.

ورغم امتلاك العراق لثروة هائلة من الغاز الطبيعي المصاحب لإنتاج النفط الخام والغاز الحر من حيث الحجم الكبير من الاحتياطيات المؤكدة والمحتملة، الا ان انتاج الغاز المسوق لا يتناسب مع الانتاج الاجمالي من الغاز الطبيعي ولا يتناسب مع ما يمتلكه العراق من احتياطيات كبيرة. فضلا عن التخلف المذهل الذي تعاني منه صناعة الغاز في البلد وتدني قدرات وزارة النفط في تحويل الغاز الطبيعي الى منتجات غازية تعزز من القيمة المضافة لهذه الصناعة ومن قوة الدفع للصناعات والقطاعات الاخرى. اذ يصل حجم الإنتاج الحالي إلى قرابة 2.8 مليار قدم مكعب في اليوم، ومقدار حرق الغاز الى قرابة 1.7 مليار قدم مكعب في اليوم، وهو ما يكلف البلد خسائر مادية تصل لقرابة2.5  مليار دولار سنويا(1).

صندوق النقد والبنك الدوليين وبرامج تعظيم الموارد

تشترط سلسلة القروض المقدمة من لدن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لإسناد ودعم العراق في تجاوز صدمة اسعار النفط، الالتزام ببرامج الاصلاح الاقتصادي وضبط الانفاق العام وتعظيم الموارد الاقتصادية البديلة للنفط، وذلك لمساعدة البلد على التعايش مع انحسار الموارد النفطية وتحقيق معدلات نمو مستدام بعيدة عن تقلبات اسواق النفط العالمية. وفيما يتعلق باستغلال الطاقة، لا يزال التقدم الذي يحرزه العراق على صعيد الحد من احتراق الغاز يتسم بالمحدودية. ولكي  يتسنى تحقيق إنعاش ذي مصداقية لبرنامج الحكومة الخاص بالحد من حرق الغاز واغتنام المنافع المرتبطة بذلك، فإن سلسلة قروض تمويل سياسات التنمية التي منحت من لدن البنك الدولي الزمت الحكومة العراقية على دعم واسناد الإجراءات والتدابير الرامية للحد من هدر واحراق الغاز الطبيعي، ومنها موافقة مجلس الوزراء على نموذج عقد تكميلي لإنتاج الغاز الطبيعي المصاحب للبترول، وهو اجراء إلزامي لأصحاب عقود الخدمات الفنية القائمة، أو أي مستثمر معني، بهدف وضع الشروط وتحديد الحقوق والالتزامات بشأن تجميع ومعالجة وبيع/تسويق الغاز الطبيعي المصاحب لإنتاج النفط الخام.

وقد تم استكمال الإجراءات والتدابير المشار إليها أعلاه بالتزام من جانب الحكومة العراقية بموجب برنامج صندوق النقد الدولي الخاص باتفاق الاستعداد الائتماني لتصفية المتأخرات الخارجية عليها (التي تتضمن متأخرات لشركة غاز البصرة، وهي المورد الرئيسي للغاز للحكومة) بنهاية 2016. وهناك معيار أداء كمي آخر بموجب اتفاق الاستعداد الائتماني تجري متابعته ورصده أثناء مدة اتفاق الاستعداد الائتماني يتمثل في عدم تراكم متأخرات جديدة لشركات النفط والغاز العاملة في البلد. ومن المتوقع أن ينجم عن الإصلاحات المقترحة خفض معدلات حرق الغاز من خلال العناصر الاتية:

1- تصفية المتأخرات القائمة مع شركات معالجة الغاز، والتزام الحكومة (وهو معيار للأداء بموجب برنامج صندوق النقد الدولي الخاص بالاستعداد الائتماني) بدفع فواتير الغاز الجاف وغاز البترول المسال وما يتم توصيله من مكثفات أولاً بأول، وسينتج عن ذلك إعادة تنشيط برامج الاستثمار المتوقفة حالياً بهدف التوسع في قدرات معالجة الغاز الطبيعي.

2-  وضع إطار تعاقدي وتنظيمي فعال نهاية عام 2017 لزيادة الاستثمارات في البنية التحتية الخاصة بتجميع ومعالجة ونقل الغاز الطبيعي.

3- زيادة قدرة وزارة النفط على مد السوق بالغاز الطبيعي ذي الجودة التجارية للوفاء باحتياجات توليد الطاقة الكهربائية. ومن المتوقع أن يؤدي التوسع الناتج في قدرات معالجة الغاز الطبيعي الى تحقيق حجما إضافيا من الغاز المعالج بواقع 629  مليون قدم مكعب قياسي في اليوم في عام 2018 أعلى من خط الأساس البالغ 671 مليون قدم مكعب قياسي في اليوم والمثبت عام2015 . 

وبدون الالتزام بشروط صندوق النقد الدولي والبنك الدولي المضمنة في برامج القروض الانمائية سيولد التوسع في إنتاج النفط في العراق المزيد من حرق الغاز وتبديده، ما لم يتم اتخاذ تدابير لجمع ومعالجة ونقل الغاز الطبيعي المرتبط بذلك. ومن الضروري أن تتخذ الحكومة إجراءات للمساعدة في استيعاب تكاليف الغاز الذي يتم حرقه حاليا، واغتنام المنافع الاقتصادية والاجتماعية التي يمكن أن تتأتى من زيادة الاستثمارات الخاصة في البنية التحتية الخاصة بتجميع ومعالجة ونقل الغاز، ومن خفض فاقد وحرق الغاز.

ويضمن النطاق المستهدف لاستغلال الغاز المصاحب والمحترق تامين احتياجات وزارة الكهرباء من الغاز المعالج لأغراض توليد الكهرباء، وتحويل المتبقي الى منتجات غازية تعزز من القيمة المضافة لهذه الصناعة وتزيد من قوة الدفع للصناعات والقطاعات الاخرى. 

ومن المتوقع أن يعمل الاستغلال الجاد للغاز المحترق على تحقيق وفورات كبيرة في المالية العامة وفي ميزان المدفوعات، فضلاً على خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، وتحسين أثر الرفاهية على الطبقات المتوسطة والفقيرة.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2017
www.fcdrs.com

...........................
(1) البنك الدولي للإنشاء والتعمير، القرض الثاني لتمويل برامج سياسات التنمية، تقرير رقم108714-IQ، ديسمبر 2016، ص36.

اضف تعليق