q
ورغم ضخامة العجز المخطط واتساع معظم بنود الانفاق العام، يفتقد مشروع موازنة 2023 لخطوط تنموية واعدة تعزز التنويع الاقتصادي وتقلل الاعتماد على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد، بدلا من ذلك تعزز بنود الموازنة من عمق الاختلال المالي والانكشاف على تقلبات النشاط الاقتصادي واسواق النفط في العالم، مما يضاعف...

لا يزال مشروع الموازنة الثلاثية، المثير للجدل، قابعاً في مجلس النواب من اجل المناقشة والمناقلة وتقليص العجز المالي الشاهق، والبالغ قرابة (64.5) ترليون دينار، نتيجة نمو بنود الانفاق العام من نحو (130) ترليون دينار عام 2021 الى نحو (199.5) ترليون دينار في مشروع موازنة 2023، وبنسبة زيادة تقارب (53%). وما يثير القلق فعلا امكانية ارتفاع العجز الفعلي عن الرقم المذكور، نظرا لتضخيم الايرادات العامة بشقيها النفطية وغير النفطية الى أكثر من (134) ترليون دينار في حين لا يتوقع ان يحقق العراق عام 2023 أكثر من (120) ترليون دينار وفقا لأسعار النفط الجارية والمتوقعة خلال العام الجاري.

ورغم ضخامة العجز المخطط واتساع معظم بنود الانفاق العام، يفتقد مشروع موازنة 2023 لخطوط تنموية واعدة تعزز التنويع الاقتصادي وتقلل الاعتماد على النفط في تمويل الموازنة والاقتصاد، بدلا من ذلك تعزز بنود الموازنة من عمق الاختلال المالي والانكشاف على تقلبات النشاط الاقتصادي واسواق النفط في العالم، مما يضاعف المخاطر المالية ويهدد الاستقرار الاقتصادي والنقدي في البلد.

هل يمكن تصويب مشروع الموازنة؟

تصحيح الاختلال البنيوي الكامن في بنود الموازنات العراقية بحاجة لاستراتيجية صارمة لا يسمح الوضع السياسي بها حاليا، مع ذلك، توجد العديد من الاعتبارات التي يمكن مراعاتها من اجل تقليل المخاطر والحد من فرص الهدر والفساد في ابواب وبنود الموازنة العامة.

1- يتطلب ضمان تصحيح مسار الموازنة الاتحادية وجعلها اداة للاستقرار ومظلة لتمكين سياسات الاصلاح من النفاذ الى الاقتصاد الوطني، العمل على اعادة النظر في التقاليد المعتادة لإدارة المالية العامة. وقد تضمن قانون الادارة المالية رقم (6) لعام 2019 العديد من الضوابط والمعايير الضامنة لإنتاج موازنة عامة تلائم برامج الاصلاح المالي في العراق. ومنها ضرورة الالتزام الصارم بقانون الادارة المالية بعدم تجاوز العجز المالي اكثر من (3%) من الناتج المحلي الاجمالي.

2- تغيير منهجية واسلوب اعداد تقديرات الموازنة العامة والتي تقوم حاليًا على جمع تلك التقديرات من الاسفل الى الاعلى في هرم الحكومة ووزارتها، والتحول نحو بناء التقديرات من الاعلى (اللجنة الاقتصادية في مجلس الوزراء ومجلس الوزراء وبالتنسيق مع اللجنة المالية واللجنة الاقتصادية في مجلس النواب)، وتحديد سقوف للتقديرات على مستوى القطاعات ثم الوزارات والجهات الاخرى بناءًا على خطة الحكومة والاهداف التي تسعى لتحقيقها وفقًا للأولويات.

3- نظرا لعدم انجاز الحسابات الختامية خلال السنوات الاخيرة، لا بد من الاحتكام للمصروفات الفعلية السنوية لتدقيق الحسابات المقدرة في موازنة 2023 وغيرها من الموازنات. فهل يعقل ان يكون اجمالي المصروفات نهاية عام 2022 نحو (120) ترليون دينار وتكون حسابات الانفاق العام المخطط لعام 2023 نحو (199) ترليون دينار؟.

4- اهمية ربط نمو الانفاق العام بنمو الايرادات غير النفطية من اجل ضمان الحد من النمو المتضاعف في الانفاق العام والسيطرة على الانفاق الجاري المخطط خارج حدود الامكانية المالية. فوفقا لحسابات الموازنة ينبغي اقتراض (10) ترليون اضافة الى (23) ترليون رصيد مدور وكامل الايرادات النفطية المخمنة (117) من اجل تغطية الانفاق التشغيلي البالغ (149) ترليون دينار... ويفصح ذلك عن ترهل خطير في النفقات وعجز الايرادات النفطية عن ملاحقة تيار الانفاق الجاري. في حين تلزم قواعد الضبط والترشيد ضرورة كفاية الايرادات النفطية لتمويل النفقات الجارية والاستثمارية معا، وتحقيق فائض يحول الى رصيد او صندوق للطوارئ، كما هو الحال في بلدان الخليج العربي.

5- ضرورة حصر الاقتراض العام بتمويل النفقات الاستثمارية، وتحديدا مشاريع البنى التحتية والمشاريع الكبرى من اجل تحفيز الاستثمار ورفع مساهمة القطاعات غير النفطية في النمو الاقتصادي.

6- اعادة النظر بسعر برميل النفط المقدر واعتماد سعر تحفظي لتجنيب الموازنة مخاطر تراجع اسعار النفط العالمية، فقد اقدمت اوبك+ مؤخرا على خفض اجمالي الانتاج لعام 2023 بقرابة (3.6) مليون برميل يوميا تحسبا لمخاطر تباطؤ الاقتصاد العالمي وتراجع الطلب على النفط وانخفاض الأسعار.. وهو ما يتطلب ان يكون سعر النفط المعتمد في موازنة 2023 بحدود (50-55) دولار للبرميل لا اكثر.

7- ضرورة مراعاة قيود العملة الاجنبية عند تقدير الانفاق العام نظرا لما فرضته سياسات الامتثال وضعف تدفق الدولار الى البلد من ضغوط على مبيعات البنك المركزي واتساع الفجوة بين السعر الرسمي والسوقي، مما يتطلب تقنين الطلب على العملة الاجنبية بما يناسب متوسط مبيعات الدولار، عبر ضبط تيار الانفاق العام الى الاقتصاد والاسواق.

8- اقتراض مبلغ (23) ترليون دينار من البنك المركزي العراقي بشكل غير مباشر عبر اعادة خصم الحوالات الحكومية لدى البنك المركزي يزيد من اجمالي الديون الحكومية التي مولت من قبل البنك ويزيد من الكتلة النقدية في البلد وما لذلك من تداعيات على ارتفاع معدلات الاسعار وارتفاع الطلب على الدولار. كما ان تجربة تمويل العجز من قبل البنك المركزي تزيد من مخاطر ادمان الحكومة على الاقتراض من السلطة النقدية وهو مخالف لاستقلالية البنك المركزي وفقا لقانونه رقم 56 لسنة 2004.

9- لا يمكن الكلام عن خطط ومشاريع لتنويع الاقتصاد العراقي في ظل النسب المتدنية للتخصيصات الاستثمارية للقطاعات غير النفطية.. فمثلا كانت التخصيصات الاستثمارية لوزارة الصناعة (183) مليار والتي لا تتجاوز نسبة (3 بالألف) من اجمالي النفقات الاستثمارية.. علما ان التصنيع هو الامل الوحيد لانعتاق العراق من هيمنة القطاع النفطي ومعالجة الاختلالات في الموازنة وميزان المدفوعات وبنية الناتج وتحقيق نمو مستدام وحل مشكلة البطالة.

10- اعادة النظر بحصة الاقليم في الموازنة والالتزامات المالية المفروضة على الاقليم مقابل استلام حصة في الموازنة الاتحادية، اذ لا تنسجم المواد الخاصة بحصة الاقليم في مشروع موازنة 2023 مع قرار المحكمة الاتحادية الذي يعد النفط من الاصول الاتحادية الخاضعة لسيطرة الحكومة من كافة النواحي (الادارة والانتاج والتصدير والعائدات).

ختاما، تعمل السياسة الاقتصادية في العراق بشكل معكوس على الدوام. اوقات الازدهار النفطي، تكرس الوفرة المالية لتضخيم الانفاق الجاري واحكام ربط الموازنة بتقلبات اسعار النفط، بدلا من استثمار تلك الوفرة في تنويع الاقتصاد والحد من الاعتماد على النفط في تمويل الموازنة ونمو الاقتصاد عبر تعزيز الجهد الاستثماري الحكومي بمشاريع كبرى وتطوير البنية التحتية. في حين تتعالى الدعوات الحكومية الى الاصلاح وتنويع الاقتصاد، اوقات الانهيار النفطي، حينما تنهار الإيرادات النفطية وتعجز الحكومة عن تامين رواتب الموظفين فقط... كيف يمكن حينها تنويع الاقتصاد؟ ومن اين يمول الجهد الاستثماري الحكومي؟

الاتجاه العام للحكومات العراقية المتعاقبة ما بعد 2003 يفصح بانها انشغلت بتلبية وتنمية مصالح الاحزاب القابضة على السلطة على حساب تطوير الاقتصاد وحمايته من الصدمات الخارجية عبر برامج وسياسات احترازية، خصوصا مع تكرار الازمات المالية التي هددت الاستقرار الاقتصادي في العراق نتيجة انهيار اسعار النفط في الاسواق العالمية، ومنها ازمة عام 2014 وازمة عام 2020. بدلا من ذلك، تساير السياسات الحكومية اتجاهات الدورة الاقتصادية العالمية، تماما كمركب دون ربان، في بحر تثور امواجه بين الحين والاخر.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2023
www.fcdrs.com

اضف تعليق