الليل يدخل في صمت رهيب، يرتدي لونه الاسود المعتم، يخيم الظلام بثقل، نجمة مددت خطها لترسم أشكالا هندسية في صفحة سوداء، ليل بلا قمر، ومدينة بلا يشر، حديقة بلا شجر، ثمة صبي وحيد ممد على اريكة خشبية قديمة عليها بعض الفرش، بسطح داره، باهت الالوان، حركات يده العشوائية تعبث بصمت الليل احلامه تسارع السماء، ترصد النجوم حركاتها، بجانبه والدته تغطى وجهها بقطعة بيضاء، حاول الصبي ان يسرق النوم من والدته، لكنها متعبة جدا، تَنفس بصُعوبة أرتِل كلماته بِهدوء بصوت شَجيّ خَفيف.

يهدر ويزمجر، نائحا ملتاعا، صوته مُتشبع بالحزن ومقيد بالحنين، رغم صغر سنه، سكون غطى المكان، فأصبحت العزلة التي تكتنفه، والسكينة التي تلفه، تضفي عليه روعة وجمالا ، اغمض عينيه وبدأ بالعد "١، ٢، ٣، ٤... لم يكمل 60"حتى ذهب في نوم عميق، استيقظ في باكورة الصباح، وجد والدته جالسة أمام (الطابون) الخبز تحضر.

أطرقت رأسها في الطابون لتخرج الرغيف.

نظر إلى يديها التي لطخت بالدقيق حتى أصبحت بيضاء مثلها تمام وعلى الرغم من بياض يديها الا أنها اكتسبت ذلك اللون أيضا، يتأمل ضرباتها البسيطة على الرغيف. .

وضع يده بتثاؤب على تلك المنضدة التي بجانبه، إلى أن وقعت يداه رغيف خبز حار.

رفضت أمه أن يأكل من هذا الخبز قائلة: هذا الخبز ليس لك وليس من حقك، اني أعده للمقاتلين الشرفاء، تنظر إليه بطرف خفي، اخذ قطعة خبز وخبأها براده حرارتها حرقت يده سآخذك معي اليوم حين اكمال العجين.

إلى أين يا أمي، نوزع الخبز على الجنود المقاتلين.

انطلقت الأم وابنها بخطى متسارعة باتجاه الشارع الذي يبعد عن البيت مسافة كيلو متر بين الأعشاب الذابلة يستقبلون صباحهم بالذهاب الى الجنود. في الطريق أخذت ألام بالحديث عن أبيه وكيف كان يعمل في هذه الأرض قائلة انها المرة الرابعة التي اخرج معك الى الشارع ولولا الجنود لما خرجت من داري، توقف عن المشي وسأل. أمه عن السبب الذي يجعلها تقوم ذلك فقالت

في يوم من الايام استيقظت من النوم ولم أجد أباك في البيت، خفت كثيراً وعند غرة الصباح جاء وهو يرتدي ملابس عسكرية، قلت لما تركتني؟! أجابني انت معي. قلت كيف انا معك وانا نائمة هنا، قال في الأمس تطوع مجموعة من شباب القرية أن يحموا زوار الإمام الحسين عليه السلام عن طريق البساتين، نحميهم وندلهم على الطريق الصحيح، ومن ثمار البستان يوزع عليهم. وطلب مني في شهر محرم الحرام أن اخبز كمية كبيرة واوزعها للزائرين عن طريق قريتنا.

فكان يهتف والدك قائلا (هلا بيكم زوار الحسين).. وبعدها سجن ولم أراه الا بعد ثلاث سنوات عندما قروا أن يعدموه رميا بالرصاص. وأنا اليوم اعمل بوصية والدك.

دمعت عيناه اثارت احزانه أبواه وبلغ من الحزن عتياً، وبسن الرابعة عشر من الطفولة قرر السير على طريق والده، هيا بسرعة!! يامي .

أغمضت عينيها ببطء، وهي تتذكر حياتها السابقة، لتدمع عيناها على الماضي وهي تضم بكتاب الله الي صدرها قائله حسبي الله ونعم الوكيل. لعنة الله عليك يا صدام ثم اكملا طريقهما بعد وقوف دام اكثر من ساعة مشيا كثيرا وامتلأت (عليجه) المرأة بالخبز. خرجت من بين صفوف العشب بالكاد تلتقط أنفاسها. ارض صفراء، لا يبدو بانها قد زرعت يوماً!

تناثر عليها الرصاص والدمار اندفعت بين الصفوف المقاتلين غير ملتفتة يميناً ولا يساراً ولا حتى خلفها توسعت حدقت عيناها. نظرت حولها فتحت (عليجتها) واخذت توزع على المقاتلين وتسمعهم اهازيج ريفيه، تبث فيهم روح الحماس، والنصر فكرت بأن تطلب منهم طلب، سألت عن القائد الذي يسجل أسماء المتطوعين في صفوفهم.

قالوا لها ذلك الشيخ الذي يرتدي عمامة بيضاء لم تستطع التفكير بشيء اخر واستمرت بالنظر الى القائد الشيخ ارض جرداء وهواء يندفع بين الحين والاخر وكأنه قد عجب لحالتها، وشمس بلون اصفر ضارب للحمرة تبدو كمن يحدق بها منتظراً... لم تتأخر كثيرا ذهبت إلى القائد وتحدثت معه التفتت الى الخلف, لازالت الأرض مغتصبه خلفها، تحركها رياح الاعداء لتصدر حفيفاً مريباً يبعث الخوف والقلق. تلفتت الى الشيخ وتقول لن اتراجع عن موقفي،" قالت بأنفاس متقطعة مرتجفة.

والله ان لم توافق أدعو عليك عند الحسين. هز الشيخ رأسه علامة منه بالقبول. ادفع لها عدة قتالية جاهزة من الملابس العسكرية والسلاح، والخوذة مشت ببطء وقد جالت في خاطرها افكار حدثت نفسها ونسمات الرياح تحدثها وكأنها تريد أن تهمس لها سراً.

بدأت الشمس بالأفول تماماً وعندها شعرت الأم بالدوار الشديد. تمسكت بيده الصغيرة و (عليجتها) تحملها على رأسها خطواتهم ثقيلة، والوقت يحاربهم عليهم الوصول قبل الغروب لأن الطريق خطر مملؤة بالألغام وصلوا إلى دارهم رمى "عليجه" أمه أرضا فقد قضى يوما متعبا الأم تحضر الطعام، صحن صغير فيه أربع حبات من الطماطم وقطع خيار وقطعة خبز من الصباح باقية، بعد الجهد المبذول يأكلان الطعام وكأنه دجاج او حمام.

ترمقه الام بنظراتها السادية وترمي أحلامها على ذلك الجسد الصغير، وبينما يقطع الطعام بأسنانه البيضاء كحبات لؤلؤ في فمه المستدير عينها في جمال صغيرها تسرح بالهذيان أكمل طعامه حمد الله على هذه النعمة توضأ وقف يصلي، وخلفته أمه، الله أكبر.

يدعوا لولدته، والدته تدعو له، تسابيح السجود وتراتيل القنوت، أي صلاة تلك!

مسكه يد والدته يسبح تسبيح الزهراء! فهرعت مفزوعة من جلوسها بعد أن فرغ صبرها في ذلك اليوم التي باتت تنتظره منذ زمن وبعد مرور عدة سنوات، وفي ليلة كان فيها القمر بدرا، فتحت (عليجتها) اخرجت تلك الملابس العسكرية والسلاح، اخذت تخيط الملابس وتقصر منها، حتى أصبحت صغيرة جدا، بخرت الملابس، وطيبتها بالعود والعنبر، صرخت ابنها يا بني تقبل الله أعمالك يا قرة عيني.

أجلس أريد أن أتحدث معك في يوم عاشوراء جاء القاسم وطلب من عمه الحسين القتال ولكنه رفض فعندما لبس ملابس أبيه وأصر على القتال وقال أمي هي التي طلبت مني القتال ياعم، وافق الإمام الحسين وقتل القاسم العريس ونال الشهادة بين يدي الإمام ولدي امنيتنا انا ووالدك رحمه الله أن تعيد دور القاسم وتقاتل وتنال الشهادة بين يدي الحسين دفعا عن الأرض والعرض، والفتوى، هذه الملابس قصرتها لك، طيبتها، فالشهادة لقاء مع الحسين واستحي أن تكون ملابسك غير طيبة.

لا تخف يا ولدي الموت لنا وعلينا ولكن الجهاد أشرف. هذه وصيتي يا ولدي.

- وأن شاء ربي اعمل بها، قبل يد ولدته، واحتضنها.

قبل بزوغِ الشّمس، أنتظرُها حتَّى تبدأَ بمدِّ خيوطها على المعمورة، اغتسل غسل الشهادة وسرح شعرة الأسود الجميل احتضنته أمه بقوة، قبلته في عينه، ويده وصدره مسافة بعيدة كبعد السماء عن الأرض لكن اليوم الخطوات سريعة جدا، تكاد أن تطير الأرض من تحتهم، وصلت عند ذلك القاطع العسكري. كانوا ينتظرون الخبز!

سألوها الجنود لما تأخرت اليوم أجابت نفذ الدقيق والغاز ولا لست املك أي شيء في داري غير هذا الصبي ورأت هول المفاجأة فصدحت أصواتهم، أنه صغير، يا خالة ارجعي معه لا نريد منكم شيئًا نحن من نقدم لكم صرخت لا ليس صغيرا ولدي عريس وسيزف إلى الشهادة معكم.

احتضنوه رفاقه، زغرودة عالية، مهنئة نفسها، تقول الحمد لله الذي حقق لأبني الأمنية الوحيدة، وأسأل الله أن يتقبل دمه رجعت خالية بعدما ودعت فلذه كبدها، قلوب مثقوبة، الوجع ليس بالبكاء بل بتلك النظرة والتنهيدة التي تكاد ان تنتزع الروح من بين الأضلاع بعد أيام وقفت سيارة أمام منزلها عند الصباح الباكر، فتحت لهم الباب القصب لترى الشيخ القائد مغبر يعلو ملامحة الحزن والبكاء مرتخي عمامة، ما أن رأت الشيخ حتى قال لها اليوم مات جاسم في معركة طاحنة بالقرب من الرمادي، وهذه جنازته.

هلا برفعت الراس عفيه أبني البطل عريس وربعه يزفونه.

نزف الشهيد للنجف. ضربت على راسها قائلة الان ازور الحسين وانا رافعة راسي قدمت اثنين وان شاء الله التحق بهم عن قريب صينية الشمع والياس والحنة رفعت على جنازته وزف كما يزف العرسان. (هاي الرادهة وهاي التمناها).

اضف تعليق


التعليقات

سيف الامير
العراق النجف الاشرف
نص باذخ بالعطاء والوطنية وحب الخير والتقرب من الله فشكرا لك ولما تنشريه2016-06-09
عماد الخفاجي
العراق
بوركت جهودك ووطنيتك ست مروة افتقدنا قلمك هذا الاسبوع عسى الغياب خير ورمضان كريم2016-06-09
يوسف عرباش
العراق
وانا اقرأ قصتك تلك وجدت الكثير من الغيرة والطيبة العراقية وبالرغم من حزن القصة الاانها تفيض بالدروس المتأججة من خلال تلك المراة التي جاهدت وصنعت المستحيل من اجل الوطن قدمت زوجها وطفلها ومازالت صابرة شامخة لايمنعها الفقر ولا الخوف اقولها وبكل فخر نعم هذه المراة العراقية.2016-06-09
ام فاطمه
العراق
ماذا اقول لقلم لطالما اغدق قلبي بجمال بلاغته ومساس كلماته فؤادي غير بارك الله بكم ولا حرمنا من ابداعكم ..احسنتم2016-06-09
ابوحيدرالغريجي
العراق
انها الحقيفة هذا ما تربى عليه عشاق الحسين لقد ترجمت مشاعر المحبين
اشكر كانب هذه السطور من كل قلبي واشكر هذا الابداع الادبي في صياغة الكلمات لكم مني كل الحب والتقدير
ابو حيدر الفريجي2016-06-10