q
اعطنِ دولارًا أعطيك فيلسوفا، وقد لا ينطبق قوله هذا على جميع الفلاسفة ولا على جميع المثقفين، ولكن على ما يبدو أن هذا قول يصح في الغالب، فكم من مثقف أكاديمي ومفكر وشاعر وسارد اشتراهم تاجر أو سياسي أو قائد بمال أو بتأثير عاطفي وجداني، ليكونوا بخدمته يتحكم بهم...

ذات مرة ذكر أستاذي الكبير (مدني صالح) «اعطنِ دولارًا أعطيك فيلسوفا»، وقد لا ينطبق قوله هذا على جميع الفلاسفة ولا على جميع المثقفين، ولكن على ما يبدو أن هذا قول يصح في الغالب، فكم من مثقف أكاديمي ومفكر وشاعر وسارد اشتراهم تاجر أو سياسي أو قائد بمال أو بتأثير عاطفي وجداني، ليكونوا بخدمته يتحكم بهم؟! بل وكثير منهم رضي وتقبل أن يكون أداة بيد ذاك التاجر أو هذا السياسي أو رجل دين قائد.

إنهم (وعاظ السلاطين) كما وصفهم علماء الاجتماع، الذي شمل بمفهومه هذا كل مثقف أو مفكر أو روزخون جعل فكره في خدمة (التاجر والمحتكر والشايلوكي والمستعمر، قارون عصره) بعبارات مستعارة من أستاذنا (مدني صالح). الأدهى والأمر المزعج الذي يغث أنك تجد كثيرًا من المفكرين والفلاسفة والمثقفين أسيري الموروث الاجتماعي، بل وحتى الطائفي والأثني وإن كان يتعارض هذا الموروث مع المصلحة العامة وبناء دولة المواطنة.

ليس غريبًا في مجتمعاتنا المعاصرة حتى في الغرب أن تجد مفكرين ومثقفين يؤيدون قائدًا سياسيًا معتوهًا كما أيد الكثير منهم ترامب وسياسته، والأمر حاصل ويحصل في مجتمعنا العربي والعراقي، حينما تجد كثير من المفكرين يُنظرّون لمستبد طاغية يتحدثون عن رؤيته العبقرية في بناء الدولة، وبملاحظة بسيطة لأحوال هذه الدولة التي يقودها (صاحب الرؤية العبقرية) هي الأكثر فسادًا بين الأمم والأكثر تراجعًا، وبالتأكيد هناك شعراء سباقون في صناعة المستبد.

الحال ذاته عندنا في العراق تجد مثقفين ومفكرين وشعراء يدافعون عن رؤية قائد حزب ما ويُنظّرون لنزعته في بناء دولة القانون أو في الإصلاح، وحينما تُدقق في قيادات هذا الحزب المتصدرين للمشهد تجد فيهم الاكثر شهرة في  الفساد.

يذكر عبد الرحمن بدوي في مذكراته أنه زار إيطاليا أيام الفاشية، فعرف مفكرين وأساتذة كانوا يُدافعون عن النظام الفاشي، وبعد زيارته لها بعد سقوط الفاشية ونظام موسيليني وجد الكثير منهم يكتبون ضد نظام الفاشي ونزعته القمعية الشوفيني.

في كتابه (شوبنهور) يذكر عبدالرحمن بدوي قولًا لنيتشه: «إن الفيلسوف الذي يرضى لنفسه أن يكون فيلسوف الدولة، يجب أن يرضى لنفسه يُنظر إليه باعتبار أنه أنكر على نفسه حق الحث في الحقيقة وبكل ما تحتوي عليه من أسرار». (ص12، كتاب شوبنهور لبدوي). لكنك ستجد هيدغر يتماهى مع نزعة هتلر النازية بقوله:»لا تدع الافتراضات (الأفكار) تُشكل قانون وجودك، الفوهرر (هتلر) نفسه ولوحده، هو حاضر ومستقبل الواقع الألماني وقانونه» (ص222، كتاب جنون الفلاسفة).

كل فلسفة ترتبط بسلطة الدولة أو بمؤسسة يفقد فيها الفيلسوف بعضًا أو جل حريته لأنه سيكون أسيرًا لها بحسب وجهة نظر شوبنهور، لذلك تجد فلسفة العصور الوسطى رهينة التوفيق بين الحكمة والشريعة، لأن الشريعة هي المهيمنة على صياغة العقل القروسطي. ميزة شوبنهور كما يذكر عبدالرحمن بدوي أنه ميّز بين فيلسوفين: الأول يحيا لأجل الفلسفة والبحث عن الحقيقة، والثاني اتخذها وسيلة للرزق، وما اكثرهم في عالمنا قديمًا وحديثًا.

في الفلسفة صنفان من الفلاسفة: صنفٌ يحيا «من أجل الفلسفة»، وصنفٌ يحيا «من» الفلسفة. الأول قد اتخذ الفلسفة غاية وكرَّس نفسه من أجل تحقيق هذه الغاية، والآخر عدَها وسيلة من وسائل الرزق، لا تفترق في شيء عن أية وسيلة أخرى من وسائل العيش، ولا شيء أضر على الفلسفة من هذا النوع الأخير،... والشر الأعظم لمثل هذا النوع الأخير يكمن في أنه يُحيل الغايات إلى وسائل، والغايات تُطلب لذاتها، أما الوسائل فتُطلب لما تؤدي إليه.. يُنظر: عبدالرحمن بدوي: شوبنهور، وكالة المطبوعات الكويتية، دارا القلم ببيروت، ص14. عندنا في العراق أساتذة فلسفة ومثقفون جعلوا من ثقافتهم وسيلة لا غاية لتحقيق غايات شخصية، فبعضهم قرأ بكدّ وتعب، ليجعل من فكره أو شعره أو ثقافته لتكون في خدمة السيد القائد للعراق أو هذا الحزب أو ذاك، وهو لا يشعر بالحرج، بل والأدهى الأمر أن الآخرين من الذين يدْعّون أنهم ضد هذا النظام يتعاطفون معه ويأخذونه بالأحضان، ويتحملون تحولاته!!.

وبعض المتلقين لا يجدون غضاضة في الإنصات لشاعر يمتلك موهبة شعرية كان يمدح سلطة استبدادية معتوهة!! عندنا في الفلسفة نجد كثيرا من طلبتنا البُسطاء من ذوي العقول الهزيلة الذين لم يفقهوا معنى الفلسفة يتعاطفون مع مدعي التفلسف من الذين يُوظفون الفلسفة لغاياتهم الشخصية!، الأمر ليس بمُستغرب فنحن شعوبٌ نهيم في الشكل ولا عناية لنا بجوهره!، أو بتعبير زكي نجيب محمود نهتم بالقشور لا في اللُب بتعبير مستعار من عنوان كتاب زكي نجيب محمود «قشور ولُباب».

.........................................................................................

* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق