q
في أواخر عام 2023 أصدرت مؤسسة غالوب المعروفة في تخصصها باستطلاع الرأي حول العالم، نتيجة لاستطلاع أجرته حول أداء رئيس الوزراء خلال فترة حكمه، وجاءت النسبة عالية بلغت 69بالمئة يثقون بالسوداني وبأدائه السياسي، بيد أن الدهشة والانبهار بهذه النتيجة في بعض وسائل الاعلام كانت مصحوبة بالتشكيك من محللين ومتابعين بصحة هذه النتيجة...

الاجواء السياسية الملبدة في العراق تحجب رؤية الايجابيات رغم شحتها وتعمّق المشاعر السلبية في النفوس من كل ما يتعلق بالحكم بسبب تراكم الفشل والفساد طيلة حوالي عشرين سنة، وهذا ما أدركه رئيس الوزراء العراقي الحالي؛ السيد محمد شياع السوداني منذ توليه منصبه في 27تشرين الا ول 2022، حيث وجد الفقر والحرمان بين أفراد المجتمع، مقابل التضخم في السياسة لدى أحزاب السلطة، مما جعله يسلك طريقاً جديداً في الإدارة يبتعد قدر الإمكان عن التجاذبات السياسية، ويقترب أكثر من الواقع الاجتماعي والمعيشي للناس.

وفي أواخر عام 2023 أصدرت مؤسسة غالوب المعروفة في تخصصها باستطلاع الرأي حول العالم، نتيجة لاستطلاع أجرته حول أداء رئيس الوزراء خلال فترة حكمه، وجاءت النسبة عالية بلغت 69بالمئة يثقون بالسوداني وبأدائه السياسي، بيد أن الدهشة والانبهار بهذه النتيجة في بعض وسائل الاعلام كانت مصحوبة بالتشكيك من محللين ومتابعين بصحة هذه النتيجة، مع قدح بعملية الاستطلاع بشكل عام، وأنه "غير علمي"، ولا يعبر عن حقيقة الرأي العام في العراق لاستمرار وجود أزمات عديدة في السياسة والاقتصاد والأمن، مع استمرار الفساد والمحاصصة وغيرها من التراكمات السلبية طيلة السنوات الماضية.

وبعيداً عن تفاصيل الاستطلاع، وايضاً الخلفية السياسية لرئيس الوزراء، إنما تهمنا المعطيات على الارض وما هو ملموس من المشاريع المنجزة ذات الصلة بحياة الناس، والتي شابها التلكؤ والفساد طيلة السنوات الماضية، مثل الطرق، والحماية الاجتماعية لتغطية الشريحة الفقيرة، وتفعيل أهم بند في الاتفاقية الصينية –العراقية، وهو البدء بتشييد المدارس، فمنذ البداية أظهر السوداني اهتمامه الأكبر على الخدمات وشطراً من التنمية بما لا يتقاطع مع التجاذبات السياسية، وهي عملية غاية في التعقيد لارتباطها بمصالح اطراف اقليمية ودولية معنية بالعراق، فكان اقترابه الى الشارع وهمومه ذو أولوية على هذه التجاذبات التي أثبتت الأيام –ربما لديه- إنها مسؤولة عن قدر كبير من المعاناة التي يعيشها العراقيون.

فقد تصور البعض من ساسة العراق –أو يوحون هم بذلك- أنهم بخوضهم العلاقات الدبلوماسية مع الاطراف الاقليمية والدولية يحققون مصلحة الشعب العراقي، او على الأقل يغيرون واقعه المعيشي، وقد حصل هذا، ولكن ليس نحو الانتاج والتنمية، وإنما نحو الاستهلاك واستنزاف الاموال والقدرات الذاتية،  فكاد الشارع العراقي يتحول الى أدوات تتحرك وفق المصالح الاقتصادية والسياسية للدول ذات العلاقة بالعراق، فقد حلّق كل شيء في العراق، من الدولار، ومروراً بالأبراج العالية، والمشاريع الاستثمارية العملاقة، و بقي الفقر والتخلف، وتعمّقت الطبقية الاجتماعية، مع توفير غطاء آمن للفساد في مؤسسات الدولة العراقية.

لذا لوحظ تجاوز الدوامة السياسية والتوجه نحو المشاريع الخدمية وما يتصل بمشاكل الناس واحتياجاتهم، فكانت بداية رئيس الوزراء بإعلان الحرب على الفاسدين كانت البداية بالكشف عما وصف بـ "سرقة القرن"، ومحاولته استرجاع بعض ما سرقه المدعو "نور زهير" بمليارات الدولارات، الى خزينة الدولة، وبعيداً عن تفاصيل العملية، والاجراءات القضائية المتخذة ضد المتهم، بيد أن أصل الموضوع هو المهم، لأن لا يخفى على المتابع صعوبة التعامل مع أي ملف كونه يضرب بجذوره في دهاليز المخابرات والارتباطات والتحالفات داخل وخارج العراق، لذا ليس من المعقول مطالبة السيد السوداني بالتعامل مع قضية كبيرة مثل "سرقة القرن" كما يتعامل مع لصّ عادي يتم توقيفه في مركز الشرطة ثم يُحال الى التحقيق ثم يحكم عليه القاضي بالسجن، مع استراداد الاموال المسروقة، والامر ينسحب على سائر الملفات الاخرى المتعلقة بالخدمات والتنمية والمشاريع الكبيرة، فهي مرتبطة بمصالح متشابكة منذ سنوات طويلة، إنما المهم في الإنطلاق نحو فتح هذه الملفات وإجراء التغيير الممكن فيها.

ولا أعلم بماذا كان يفكر ساسة العراق طيلة السنوات الماضية بتفضيل الخوض في الصراعات الاقليمية والدولية على خوض غمار البناء والإعمار داخل العراق؟ هل كان الانتصار لهذا الطرف ضد ذاك يوفر فرص العمل للعاطلين مثلاً؟! أم يوفر فرص التعليم للشباب، ثم فرصة العمل والابداع والانتاج لهم؟! أم يعيد للقانون والنظام هيبته في الشارع وفي مؤسسات الدولة؟!

من يعيب على محافظ هذه المحافظة او تلك أنه مشغول بتعبيد الشوارع فقط، عليه مراجعة تاريخ الولايات المتحدة، وكيف تطورت أميركا منذ القرن السابع عشر، فان أول ما فعلته على سطح القارة الشاسعة والمترامية الاطراف؛ شق الطرق، ولاسيما سكك الحديد، طبعاً؛ مع الفارق في الظروف والمناهج والقدرات بين اميركا والعراق، وهذا المطلب الغائب والمنسي كان يفترض ان يتحقق منذ الايام من نشوء الدولة العراقية الديمقراطية بعد تاريخ 2003، كأول خطوة على طريق التنمية وطيّ صفحة الحرمان والتخلف في ظل الديكتاتورية البائدة، بيد أن الواضح، الإصرار على تسييس كل شيء في هذا البلد، وجعل الناس؛ من الطفل الصغير، وحتى المرأة والعجائز، فضلاً عن الشباب وسائر فئات المجتمع، يدورون في دوامة السياسة ومناكفاتها دون طائل، بل ويدفعون ثمن أي خسارة بين هذا الطرف او ذاك، بدمائهم واستقرارهم النفسي وثروات بلدهم.

بينما الذكاء السياسي يقتضي توظيف العلاقات مع الخارج، والمصالح الاقليمية والدولية المتشابكة على هذا البلد المُبتلى لصالح العلاقات بين مؤسسات والمجتمع في الداخل، وبناء جسور الثقة بين المواطن والمسؤول، ثم حثّ المواطن على تحمل مسؤوليته وفق مبدأ الحقوق والواجبات، وبمقدار النجاح في الداخل، يكون النجاح في الخارج، فقد دلتنا التجارب على أن الأمم الناهضة والمتفوقة في العالم إنما انطلقت في خطوتها الأولى من البيوت المتواضعة ذات الحياة البسيطة، ومن ورش العمل الصغيرة المدعومة حكومياً، ومن صفوف المدارس وقاعات الجامعات، فصارت هذه الدولة او تلك تفرض ارادتها على دول كبرى ربما تعد نفسها صاحبة الفضل في نهضتها الاقتصادية.

اضف تعليق