q
الحقيقة أنَّ ما جرى في العراق كان تحديثاً للتخلف الاجتماعي أكثر ما كان تحديثاً بنيوياً وجوهرياً للذهنيَّة والثقافة والأخلاق العمليَّة، فقد انهارت دولٌ عديدة ووصلت الى القاع وتعرضت الى انكسارات وهزائم ثم ما لبثت أنْ استعادت ألقها بهمَّة وطنيَّة تشارك فيها احاد الناس...

في القسم الأول من هذه المقالة، ابتدأت الحديث بسؤالين، الأول كيف ينظر العراقي الى نفسه؟ والثاني ما هي صورة العراقي في عيون الآخرين؟ يتعلق السؤال الأول بطبيعة إدراك الفرد العراقي لذاته؟ فهل هو راضٍ عنها؟، ما مدى استعداده لإصلاح ما فسد منها؟ أو تغيير ما تصلَّبَ وتجمَّدَ من خصالها وطبائعها وسلوكياتها مما لم يعد مواكباً لمشكلات زمانه وتطورات عصره؟ بعبارة أخرى ما هي قدراته على التكيف والتحول والاستجابة لدواعي التغيير؟

حين يُسأل العراقي الآن عن أحواله، مقارنة بماضيه القريب أو الأبعد، يجيبك بأنَّ كل شيء قد تغير، لقد كانت خصالنا الأخلاقيَّة أفضل من الآن، يتحدث العراقي عن التضامن والتكافل والحشمة والأدب والنخوة والمروءة، التي لم تعد كما كانت، بل صارت باهتة، وقد يبالغ فيقول اختفت ولم تعد موجودة في قاموس الفعل اليومي للجيل الجديد؟ عندما تسأله لماذا؟

يجيبك بأنَّ الدنيا تغيرت والزمان الحاضر ليس كزماننا الدابر، إنَّه يتحدث عن شروطٍ اقتصاديَّة وسياسيَّة وثقافيَّة مختلفة، وماذا عن الاعتداد بالنفس المقرون بشعورٍ مفعمٍ بالتفوق الحضاري؟ سيجيبك بصيغة الجمع، نحن، (احنا) العراقيين سليلي حضارة طويلة ممتدة، علَّمت الإنسان الحرف والكتابة وابتكرت له العجلة وكتبت له الشعر والملاحم والقصص والمدونات الكبرى، وشيدت له الدول وأنجبت له القوانين، نحن أبناء العراق الذي كان زهرة الدنيا ولؤلؤة العالم، وموئل العلم والعلماء والدرس والمدارس، والفكر والكلام، والتصوف والعرفان، نحن أبناء البصرة والكوفة ثم بغداد، حواضر الدنيا وعواصمها الثقافيَّة، وقبل ذلك أبناء أور وبابل وكيش ولكش ونينوى، مواطن الحضارة والتحضر، يجتزئ العراقي من التاريخ صوره الجميلة المترعة بالزهو والفخر،على طريقة الجواهري (ت 1997)؛ نحن الذين أعرنا الكون بهجته لكنما الدهر إقبال وإدبار، أو كما قال عبدالرزاق عبدالواحد (ت 2015)؛ شاخ الزمان والعراق صبي.

لكنْ ماذا عن القسوة والقمع والظلم والصفحات السوداء من تاريخنا؟

من صنعها؟

ماذا تركت في ضمائرنا الفرديَّة وضميرنا الجمعي؟

كيف انعكست الهزائم والانكسارات وما تركته من بؤسٍ وتخلفٍ وتراجعٍ حضاري؟

ما هي مسؤوليَّة المجتمع في تكريس أنماطٍ من السلوك غير المتحضر، سواء بصمتِهِ أو قبوله أو مسايرته؟

اللوم يقعُ دائماً هنا على عاتق الخارج، فلو لم يكن العراق غنياً ومهماً ومؤثراً للغاية لما تآمر عليه الآخرون وغزوه وتلاعبوا بمقدراته ومنعوا من تطوره، ولو لم يكن العراق قابلاً للعودة قوياً مقتدراً، يجبن الآخرون عند زئيره، لما تكالبوا عليه ومزقوه طائفياً وقومياً وإثنياً وأفشلوه وجعلوه عاجزاً؟، هكذا هو الجواب الذي تستريح عنده غالبيَّة عراقيَّة تربت على النفخ القومي والديني والمذهبي، فصار العراقي يعيشُ عقدة التفوق ويقترن اسم العراق بنرجسيَّة جماعيَّة أو نرجسيَّة وطنيَّة، صنعت عنده حاجباً لا يرى وراءه الكثير من التواكل والعجز وانعدام الثقة والانقسام والغضب السريع واللجوء الى العنف وخشونة الخطاب والشك المبالغ به وعزوا كل خسارة أو خطباً أو صدمة أو نكبة الى الخارج اللعين!؟

المأزق الاجتماعي والنفسي يتمظهرُ جلياً في العجز عن اللحاق بمن سبقهم العراق تمدناً وتحديثاً، حتى إذا فات العراقي السباق صار يلتفتُ وراءه يبحثُ في التاريخ عمَّا يعيدُ له التوازن النفسي، فنحن أول من أسَّسَ البث التلفازي في المنطقة وثاني بلدٍ يؤسس الإذاعة وأول من سيرَ رحلات طيران مدني حديث، وأطباؤنا الأشهر قياساً بأقرانهم، ودول المنطقة ترسل أبناءها للتعلم في جامعاتنا وهكذا.

وكل ذلك صحيحٌ وحقيقي، غير أنَّ البطولة والعبقريَّة في استدامة المنافسة والبناء وإعادة البناء، لا في اجترار المأساة وهدر الوقت في الصراعات.

الحقيقة أنَّ ما جرى في العراق كان تحديثاً للتخلف الاجتماعي أكثر ما كان تحديثاً بنيوياً وجوهرياً للذهنيَّة والثقافة والأخلاق العمليَّة، فقد انهارت دولٌ عديدة ووصلت الى القاع وتعرضت الى انكسارات وهزائم ثم ما لبثت أنْ استعادت ألقها بهمَّة وطنيَّة تشارك فيها احاد الناس، في المقابل صارت صورة العراقي الخارجيَّة منقولة في الفضائيات وهو يخوضُ صراعاته السياسيَّة ومعاركه الحزبيَّة والعشائريَّة بالأسلحة المتوسطة، وتتناقل الدنيا أخبار الصفقات والفساد والمفسدين ومناظر البؤس والتراجع والعشوائيات، بينما أدمنَ السياسيون والإعلاميون أحاديث الخصومات والمناكفات والشتائم السياسيَّة والأخلاقيَّة، بلا حرصٍ على (النرجسيَّة الوطنيَّة) من أنْ تخدشها رثاثة الخطاب وأخلاق التردي التي تشتم العالم الخارجي وتشك بالآخرين وتحرض على فتح معارك إعلاميَّة وسياسيَّة، بل وعسكريَّة مع كل من تسيء الظن به ليظل العراقي وقوداً لحروبٍ لا تنتهي!.

كتب الباحث الاجتماعي علي كريم السيد عن (سوسيولوجيا المجتمع العراقي ما بعد 2003) فتوصل الى أنَّ أهم سمات المجتمع العراقي حالياً، هي ثلاث سمات أساسيَّة تميزه وتطغى على المشهد اليومي:

الكرم ومساعدة الغرباء.

الحرمان العاطفي والجنسي ومظهرها زيادة حالات التحرش اللفظي والجنسي.

تريف المدن، ومظهرها انتصار قيم العشيرة والبداوة وسطوتها على الفضاء الحضري والمدني (2020).

ما توصل إليه السيد لم يقتصر على السمات الثلاث فحسب، فهو تحدث عن عجزٍ مكتسبٍ وعن تصاعدٍ للعدوانيَّة والعنف والانفعال والقلق، وكلها أعراضٌ وآثارٌ لما بعد الصدمات التي تعرض لها العراقي، وهي نتائج تحتاج الى مشروعٍ وطني للعلاج، هو في صلب وظائف الدولة رمزياً وثقافياً وتنموياً، بعد أنْ يعرض العلماء والخبراء والمختصون ما توصلت إليه جهودهم البحثيَّة والمعرفيَّة.

اضف تعليق