q
الفارق كبير بين أن نكتشف خطأ في نطاق فرد واحد، وأن نكتشفه على صعيد مجموعة كبيرة من افراد المجتمع، ففي هذه الحالة نحن ليس فقط نعالج الخطأ لدى أكبر عدد من الناس، بل نمنع تحول هذا الخطأ الى ظاهرة تطبع سلوك وثقافة المجتمع برمته، وكلما كانت المشكلة او الخطأ كبيراً، و ذو ابعاد واسعة...

الفارق كبير بين أن نكتشف خطأ في نطاق فرد واحد، وأن نكتشفه على صعيد مجموعة كبيرة من افراد المجتمع، ففي هذه الحالة نحن ليس فقط نعالج الخطأ لدى أكبر عدد من الناس، بل نمنع تحول هذا الخطأ الى ظاهرة تطبع سلوك وثقافة المجتمع برمته، وكلما كانت المشكلة او الخطأ كبيراً، و ذو ابعاد واسعة، فان المهمة تكون اكثر إلحاحاً.

التجربة الدينية لبني اسرائيل (اليهود) في أزمان تاريخية بعيدة، تُعد مثالاً حيّاً لنا نستلهم منه طريقة معالجة ما نشكوه من أزمات ومشاكل على صعيد المجتمع والأمة، نظراً لاستمرارية هذه التجربة حتى يومنا الحاضر متجسدة في كيان اجتماعي وسياسي على الأرض باسم "اسرائيل"، تحولت الى دولة معترف بها عالمياً، رغم معرفة أهل العالم، وتحديداً العواصم المعنية الكبرى؛ لندن، وواشنطن، وباريس، الراعية لهذه الدولة، بأن ما يحمله المجتمع والدولة تحت هذا الاسم (اسرائيل)، يستصحبون كل الحالات النفسية السلبية، وطرائق التفكير غير السوية العائدة للعهود الماضية.

الإيمان والكفر مجتمعياً

بنو اسرائيل كانوا يمثلون التجربة البشرية الأولى للإيمان بشكل جماعي بالله الواحد الأحد دون الاصنام والأوثان، ولاسباب عديدة، تعرضوا في فترات تاريخية عدّة الى اضطهاد مرير و دموي على يد الفراعنة في مصر القديمة التي هاجروا اليها من بعد قصة النبي يوسف، عليه السلام، فكانوا قبائل ينحدرون من نسل نبي الله يعقوب، عليه السلام، الذي ذكره القرآن الكريم بإسم آخر هو؛ "اسرائيل"، فكان إيمانهم بالله قوياً بدايةً، ربما بدافع التعجيل بالتحول من الذل والعبودية الى العزّ والكرامة، وهو ما حصل بعد انتصارهم على فرعون ونظام حكمه بفضل المعجزة الإلهية المتمثلة على يد نبيهم موسى، عليه السلام، الذي ضرب بعصاه البحر بأمر من الله، فانفلق نصفين لينجو بنو اسرائيل من الملاحقة وينطبق على فرعون وجنوده ويكونوا من المغرقين.

ولأنهم أول مجتمع بشري مؤمن بالله، فقد حظوا بوسام سماوي عظيم بقوله تعالى: ((يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ))، بيد أن هذا الوسام لم يحظ بالاحترام والتقدير منهم، فبدلاً من أن يجعلوا القيم والأحكام التي جاء بها نبيهم، ثم الانبياء والأوصياء على مر التاريخ، بوصلة لحركتهم الحضارية، حكّموا حالاتهم النفسية لتكون هي القائد والمسيّر لهم، فهم يعلمون جيداً أن التوحيد، والأخلاق والقيم السماوية هي التي انقذتهم مما كانوا عليه في عهود الفراعنة، كما رأوا المعاجز الباهرة بأمّ أعينهم، وكانت فيها نجاتهم، لكنهم عجزوا عن التخلّص من عقدهم النفسية القديمة، وأبرزها الضعف والضِعة التي كانت تثير فيهم نزعات مثل؛ نقض العهد، والغدر، والخيانة، والكذب، والتشكيك، فكانت العاقبة زوال كل النعم العظيمة التي حظوا بها بعد انتقالهم مصر الفرعونية الى "الأرض المقدسة"، وهي فلسطين، والقرآن الكريم يتحدث بالتفصيل عن طعامهم اللذيذ ومساكنهم الجميلة، واستملاكهم ثروات وامكانات الدولة الفرعونية برمتها، عندما سمحوا لانفسهم بالانزلاق على حين غرّة من الإيمان برب السموات والأرض، والقادر المتعال، الى عبادة عجل (صغير البقر) صنعوه بأيديهم من الحُلي و المجوهرات، لمجرد أن رأوا قوماً يعبدون العجل، فشقّ عليهم أن يكونوا أقلّ منهم –بظنهم- ولا يمتلكون عجلاً مثل أولئك!

قصة هذا المجتمع المؤمن (بنواسرائيل) بدأت مع نبي الله موسى، عليه السلام، واستمرت حياتهم في فترات تاريخية مختلفة تخللتها ظهور انبياء عظام لهم دورهم الاجتماعي والرسالي، مثل؛ نبي الله داوود، وسليمان، وحتى نبي الله عيسى، عليهم السلام، فكانوا يحملون مشاكلهم النفسية وأخطائهم على ظهورهم على مر الاجيال، يتأرجحون بين المدّ والجزر في مشوار العلاقة مع السماء، وكانوا أول قوم يصدق عليهم القول: ((أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ))، وقد توزعوا بين مؤمن، و مشكك، و مزوّر للأحكام الشرعية.

فكما إن الامتياز كبير في كون الإيمان على صعيد المجتمع، فان المحنة في كون النكوص والانحراف على صعيد المجتمع ايضاً، و اذا كانت آثار الانحراف عند فرد واحد محدودة بشخصه، او ربما بمحيطه الأسري والاجتماعي، فان هذه الآثار أخذت مديات واسعة عندما تكون في مجتمع وأمة بأسرها، فهي لن تكون انحرافاً في نطاق الزمان والمكان وحسب، وإنما تحولت الى منهج ومدرسة للأجيال القادمة، مع صعوبات بالغة –إن لم نقل بالاستحالة- في معالجتها وإعادة الأمور الى نصابها.

ما هي الأخطاء؟

ارتكب بنو اسرائيل أخطاءً فاحشة خلال تجربتهم الايمانية في عهد نبي الله موسى، في وقت كانت كل الأجواء مهيئة لأن يرثوا الحضارة الانسانية ومكتسابتها الكبيرة آنذاك، مع تمتعهم بالرحمة الإلهية، فكانت الخسارة كبيرة، كما كان الجزاء قاسياً، ((وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ)).

نستلهم من القرآن الكريم بعض هذه الأخطاء للعِظة والاعتبار:

الخطأ الأول: عبادة الذات

هي نزعة نفسية يعدها البعض تصور ذهني مشروع بأن ينظر الانسان الى نفسه بالشكل الذي يُحب دون حدود لهذا التصور حتى وإن كان على حساب الآخرين، بدعوى الثقة والاعتداد بالنفس، وتوفير عوامل النجاح والتفوق.

والى جانب الآثار النفسية –الشخصية- والاجتماعية، فان هذه النزعة تصطدم بالضرورة بالعقيدة والإيمان بالله، فمن أبرز شروط الإيمان؛ التسليم، والتواضع، فمن الصعب تصور انساناً مؤمناً وقد تجلبب الكِبر، أو يحاول دائماً الالتفاف على الأحكام والقيم ليطوعها وفق ارادته ورغباته، وهذا ما كان لا يتورع عنه بنو اسرائيل، فقد بلغوا مرتبة من التجديف بأن نسبوا الى الله سمات بعيدة عنه كل البعد –تعالى- مثل ((وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ))، يقصدون بها؛ أنهم مصونون من الحساب الإلهي، وقد تركهم الله وشأنهم لأنهم يختلفون عن سائر البشر بسابقيتهم للإيمان بالله كمجتمع.

هذا الخطأ بدوره يفرز خللاً آخر، وهو؛ قسوة القلب، فالذي يجد في نفسه المحور والمصدر، من السهل إصدار فتوى قتل المصلحين والمعارضين، وإن كانوا انبياء متصلين بالسماء، كما حصل مع نبي الله زكريا و انبياء آخرين خلال مسيرتهم التاريخية.

الخطأ الثاني: العلم دون تقوى

مشكلتهم لم تكن في العلم بالدين، فقد كانوا على مدى قرون يتناقلون التوراة، و فيهم الاحبار والعلماء ومن حفظ من كلام وسير الانبياء، بل كان منهم من بلغ مرتبة أن يتحسس وجود جبرائيل في الأرض، وهذا ما لم يحظ به أحد في عهد الإسلام إلا النبي الأكرم، وأمير المؤمنين فقط، ومنهم من حاز على الإسم الأعظم الذي يمكّن صاحبه الحصول على استجابة الدعاء بشكل فوري، ومن أبرز الاسماء؛ بلعم بن باعوراء الذي كان يُعد عالم دين وفقيه من الدرجة الاولى في بني اسرائيل، بيد أنه وظف منزلته العلمية والاجتماعية للإساءة الى شخص النبي موسى بالافتراء عليه بارتكب الزنا مع احدى النساء! ((وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ))، وكذا الحال بالنسبة للسامري وقصته المعروفة في تغرير الناس بعبادة العجل، وكيف نثر حفنة من تراب وطأها جبرائيل على ذلك التمثال الذهبي ليصدر منه صوت الخوار.

الخطأ الثالث: التوقف عند المظاهر الدينية

في وقت يفترض لمجتمع وأمة محظوظة مثل بني اسرائيل لديهم كتاب وشريعة لنظام حياة سعيدة، أن يتعمقوا أكثر في هذه الشريعة ويبحثوا عن التفريعات لمختلف جوانب حياتهم، بيد أنهم فضلوا اللف والدوران حول الخطوط العريضة وظواهر الدين، وكيف يجب ان تكون، كما حصل في قصة ذبح البقرة، ولعل من اسباب تخصيص سورة كاملة من أطول السور القرآنية باسم هذا الحيوان، للتأشير على هذا الخلل المعرفي، فهم بدلاً من تنفيذ الأمر الإلهي النازل لإماطة اللثام عن قاتل انسان موجود بينهم، والتعرّف على حكمة اختيار هذه الطريقة على سواها، راحوا يلفون و يدورون حول أوصاف البقرة ولونها في القصة المعروفة بالقرآن الكريم.

هذه الرؤية هي التي اقعدتهم عن الاستجابة لدعوات نبيهم موسى، عليه السلام، في أن يواصلوا الكفاح لتحقيق الأفضل في حياتهم، فكان جوابهم: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ))، فهم يريدون الدين مظاهراً وطقوساً فقط، أما التفاصيل فهي تكلفهم التزامات وتضحيات لا يرغبون بها مطلقاً.

بالامكان رؤية مآل بني اسرائيل (اليهود) في القرون الاخيرة من التاريخ الحديث عندما تحولوا من أمة لها كتاب سماوي ومنهج وشريعة سمحاء، الى قوم ذووا توجه ايديولوجي عنصري، يحملون الدين شعاراً دون محتوى من الاحكام والقيم، فصاروا يعرفون بين أهل العالم بأنهم مصداق "الغاية تبرر الوسيلة"، فباتوا لا يتورعون عن فعل شيء يوصلهم الى المكاسب المادية والهيمنة وتحقيق الذات والوجود في هذه الدولة او تلك.

ليس بالضرورة ان تبتلى الأمة الاسلامية بمآل متطابق لما عليه اليهود اليوم، وبنو اسرائيل في التاريخ، إنما تكفينا العبرة في جزئيات معينة من شأنها أن تلحق بنا أضراراً بالغة في البناء الاجتماعي والنفسي والثقافي، كما نلاحظ آثار بعض الانحرافات في كيان الأمة في الوقت الحاضر في جوانب عدّة، ليس أقلها؛ العجز عن فهم الإسلام كما أراده لنا النبي الأكرم، والتمسك طويلاً بالظواهر والطقوس دون الالتفات الى المحتوى، الى جانب حالات نفسية تستفحل و تحتل مكانة القيادة وزمام الحركة لافراد الأمة، فبدلاً من أن يكونوا في حركة نحو الرقي والتطور والتكامل بروح أخوية –أخلاقية، نلاحظ التعالي والاستئثار والتنكّر لكل الفضائل من؛ صدق، وأمانة، وتعاون، وتسامح.

اضف تعليق