q
وحتى إن جرت المفاوضات لوضع حدٍ للحرب ونزيف الدماء، فان جانب الطاولة من فلسطين سيكون الشعب المقاوم ومن يمثله، وستكون صور آلاف الشهداء والجرحى، وجريمة قصف مستشفى المعمداني، والدمار الشامل حاضرة على طاولة المفاوضات، حيث يكون الكيان الصهيوني مجبراً هذه المرة على التعامل مع هذا الشعب بغير ما كان يتصور منذ وجوده...

أعرب عن أسفي وعجبي في آنٍ لمن يتسائل مستنكراً عن اسباب ودوافع عملية "7اكتوبر" الهجومية المباغتة للمقاومة الفلسطينية ضد المعسكرات والمستوطنات الاسرائيلية، وما أعقبه من عمليات انتقامية وحشية من الكيان الصهيوني، وهو ممن سمع أو شارك تجارب مقاومة مماثلة في بلاد مختلفة من هذا الوطن الاسلامي الكبير في أزمان مضت؛ سالت فيها الدماء وتكبدنا من الخسائر ما لا يُعد.

السؤال ينبع من مشاعر الحزن العميق على مشاهد مؤلمة لاطفال ونساء ينتشلونهم من تحت ركام القصف الجوي، وشهداء بأعداد متزايدة مع استمرار القصف الاسرائيلي، وتداعيات أخرى خطيرة، مثل؛ قطع الماء والكهرباء والدواء، وحصار قاتل، بيد أن السؤال يقف امام حقائق على الارض تستدعي الكثير من التأنّي قبل إصدار الاحكام المشوبة بالعواطف، لأن ما يجري في غزّة تحديداً ليس مقتصراً بالقضية الفلسطينية، بقدر ما هو يمثل قضية الامة الاسلامية، وقضية كل مسلم في جميع أرجاء العالم، فالمسألة لا تُبحث عسكرياً او أمنياً او سياسياً، وإنما هي ذات أبعاد تاريخية وحضارية.

"فما عدا مما بدا"

سؤال محوري علينا تحديد الموقف منه؛ هل نحن في حالة مواجهة أم مهادنة؟

إن كنّا في مهادنة مع الحكام والسياسة الدولية، والمصالح الاقتصادية، فهذا يعني التخلّي عن مبادئ اساسية في الخطاب والمنهج، مثل؛ التغيير، و التبليغ للافكار والعقائد، أما اذا أكدنا موقف المواجهة والتصدي للأفكار والمناهج السياسية والاقتصادية الخاطئة، والسياسات الحكومية الفاسدة، لاستبدالها بالأفضل، فهذا يعني القبول باستحقاقتها، فالمواجهة يتخللها خسائر من الطرفين، وربما يكون صاحب صاحب القضية العادلة الأكثر خسارة (تضحية) من الطرف المقابل صاحب الامكانات الهائلة، وهذا ما عشناه خلال المواجهة مع نظام حزب البعث في العراق منذ سبعينات القرن الماضي، فحتى هذه الايام اسمع همسات بين العراقيين عن سبب تصعيد المعارضة لنظام حزب البعث، وشخص صدام، مما دفعه لارتكاب كل هذه الجرائم والكوارث، وما تحمله الشعب العراقي من آلام وتضحيات جسام، مثلاً؛ كان يمكن البدء مع النظام بتطبيق الاحكام والشريعة الاسلامية، وعدم التحرّش بالحكم والسلطة، وأن لا تنطلق الدعوة لنظام حكم إسلامي تكون شرعيته من القرآن الكريم وسيرة المعصومين، وليس من افكار وقوانين بشرية، حتى لا تتعرض الشباب والشابات من طلبة الجامعة للاعتقال والتعذيب والاغتصاب والقتل، ولا يتشرد الآلاف، وتكثل الأمهات، وتترمل النساء، ويُصاب المجتمع العراقي بحالة من التمزق وفقدان القيم التي نرى آثارها ماثلة الى اليوم، وهكذا الأمر في سائر البلاد الاسلامية التي شهدت انتفاضات ومطالبات جماهيرية بالتغيير او الإصلاح في نظام الحكم، فكانت النتيجة صدامات دموية بين الحاكم وجماهير الشعب راح ضحيتها الآلاف من الناس، فعندما يظهر التفوق من جانب النظام الحاكم، وتفتح السجون على مصراعيها، يبدأ البعض بالحديث عن "لو لم تفعلوا ما فعلتم لكان خيراً لكم، لماذا تتورطون في أعمال أكبر من حجمكم، وتورطون الناس معكم"؟

واعتقد أن ثمة معادلة تكاد تأخذ مكانها في الثقافة العامة في معظم بلادنا الاسلامية والعربية؛ "إن أردت الأمان على نفسك وأموالك وأهلك عليك بالصمت والقبول بالأمر الواقع"، وقبل أن نورد الروايات عن المعصومين، عليهم السلام، الداعية للنهوض والتصدّي لإصلاح الاوضاع السياسية والاجتماعية، وإن كلف ذلك التضحية بالمال والنفس، يجدر بنا الاشارة الى أن فكرة الانصياع لا تعهكس بالضرورة قوة الحاكم الحقيقية على الأرض، بقدر ما هي صور ذهنية يتم زرقها في أذهان الصغار والكبار في المجتمع ضمن تكتيك في حرب نفسية تقتل القوى الذاتية والحقيقية لدى جماهير الشعب، ليكون الحاكم هو الأقوى من خلال التظاهر بأجهزة "الأمن" والمخابرات، وإشاعة الرعب في النفوس بعواقب الاعتقال والتعذيب والحرمان من الوظيفة وتهديدات مختلفة.

هذه الصورة الذهنية تلاشت فوراً لدى حضور عامل التغيير الحاسم للنظام السياسي في العراق لتظهر للعالم عدم شرعيته في الحكم لأنه "يقتل شعبه"، كهذا عرف العالم نظام صدام بما لم يعرفه طيلة ثلاثين عاماً بفضل تضحيات الشباب والشابات والرجال الصالحين من المجتمع العراقي ممن ماتوا تحت التعذيب، وسقطوا في ساحات الاعدام، فالقوات الاميركية كانت تمتلك كل أدوات الإطاحة بنظام صدام، لكنها لم تكن قادرة بالمرة على إعداد ملف وهمي عن تضحيات الشعب العراقي طيلة السنوات الماضية.

من غير المنطقي الحديث عن الجيش الاميركي الذي اجتاح الاراضي العراقية وإعلانه الاحتلال رسمياً امام العالم، اذا كنا نبحث في حاضر ومستقبل العراق على خلفية تاريخه الجهادي، فالقرار العسكري والسياسي في البيت الابيض بواشنطن، شيء، و الواقع الاجتماعي والنفسي والثقافي داخل العراق شيءٌ آخر، وكذا الحال بالنسبة لما يجري في غزّة، فان القدرات العسكرية الاسرائيلية والدعم الدولي الشامل للكيان الصهيوني شيء، وثقافة المقاومة والمواجهة التي ينشأ عليها أطفال خلال اكثر من جيلين، شيءٌ آخر، فسواء وقعت عملية الاقتحام في غزة في السابع من تشرين الاول الماضي، او وقعت بعد شهر، او سنة، بنفس القوة او أقل، النتيجة واحدة، فالكيان الصهيوني لم يفاجئنا بإجرامه و وحشيته المستمدة من ثقافته العنصرية الموغلة بالقدم، وإنما فاجئنا بقوته العسكرية والمخابراتية الوهمية خلال عملية اقتحام أبطال حماس في ذلك اليوم المشهود.

إن مشاهد الأطفال المريعة، من يتم استخراج جثته من تحت الأنقاذ، او من يتم انقاذه وقد فقد ذويه، أو اصيب بجروح بليغة، مع آلاف الضحايا من شهداء وجرحى باعداد لا تتوقف مع كتابة هذه المقال، كلها تؤكد حقيقة واحدة –من جملة حقائق- للتاريخ والبشرية جمعاء أن الاحتلال الصهيوني، وسياسات القمع وتذويب الهوية، وعدّ غير اليهودي بشراً بالإساس، لن يمر دون ردّ صاعق يكشف أمام العالم عدم شرعية وجوده، وليس فقط عملياته العسكرية الانتقامية.

وحتى إن جرت المفاوضات لوضع حدٍ للحرب ونزيف الدماء، فان جانب الطاولة من فلسطين سيكون الشعب المقاوم ومن يمثله، وستكون صور آلاف الشهداء والجرحى، وجريمة قصف مستشفى المعمداني، والدمار الشامل حاضرة على طاولة المفاوضات، حيث يكون الكيان الصهيوني مجبراً هذه المرة على التعامل مع هذا الشعب بغير ما كان يتصور منذ وجوده على الخريطة السياسية في الشرق الأوسط.

اضف تعليق