كل مجتمع تتغول فيه الأيديولوجيا يضعف فيه الخطاب الفلسفي ويُهمش، على الرغم من أن المجتمعات المعاصرة بدأت تطرح رؤى مظرية حول مفهوم «نهاية الأيديولوجيا»، بعد أن أتاحت نزعات ما بعد الحداثة للتعددية الثقافية وفتح الأفق أمام العلم وتطورات النظرية العلمية في التقنية والثورة المعلوماتية وتطور وسائل التواصل الاجتماعي وتحولات العالم ما بعد الذكاء الاصطناعي...

يبدو لي أن تغول الأيديولوجيا والعقيدة في مجتمعاتنا أمرٌ طبيعي، فقد نجد مفكرًا يدعي مدنية، تتمكن منه أيديولوجيا ما لتكون بمثابة سفينة نجاة يعتقد بها، وكل من خالفه إنما هو مصيره محتوم، فهو متآمر في أقل الأحوال.. قد تتغلب العقيدة الدينيَّة على متبنياتنا الأيديولوجيَّة، فيكون هناك ماركسي علماني، ولكنه طائفي سني أو طائفي شيعي، أو إسلامي متعلمن، أو علماني متأسلم.

والحال ذاته في من ينتمي لأصول عقائدية مسيحية، فتجده حين يحتدم الصراع بين دعاة الأسلمة ودعاة التبشير المسيحي، يقترب في بعض أو كثير من متبنياته للدفاع عن تأصيل تكوينه الديني العقائدي، وكثيرًا ما يتغلب الجذر العقائدي الديني حتى على متبنايات المفكر الأيديولوجي، والأمثلة كثيرة.. شاعر ينتمي للفكر اليساري على سبيل المثال، ينزع نزوعًا طائفيًّا، ومثقف يؤمن بفصل الدين عن الدولة تجده ينتمي لحزبٍ أو تيار متمذهب.

فنان ممثل أو تشكيلي أو نحات أو موسيقي تجده يوظّف نتاجه الفني لخدمة رؤيته الأيديولوجيَّة، وإن تبين له أن هناك تعارضًا بين متبناه الأيديولوجي وانتمائه الموروث عقائديًا يتخلى في الغالب عن متبنايته الأيديولوجية لصالح موروثاته العقائدية.

يحدث كثيرًا التداخل والمزج بين الرؤية الأيديولوجية والعقيدة الموروثة، وقد تطغي أحدهما على الأخرى، وفي الأغلب الأعم تتغول العقيدة الموروثة وتوظف الأيديولوجيا لصالحها.

أستاذ فلسفة ينسى أهمية القول الفلسفي النقدي يتخلى عن الرؤية، التي طرحها ديكارت في كتابه (مقال في المنهج) وقوله بأن لا أسلم بشيء على أنه حق ما لم يتبيّن لي أنه كذلك، ويتغافل عما كتبه الفيلسوف الألماني (كانت) في مقاله (ما التنوير)؟ في صرخته بألّا تجعل عقلك رهينا بروية آخر يُفكر بالنيابة عنك، لا هم لأمثال هؤلاء سوى تكريس قولنا بقبولهم بتغوّل الأيديولوجيا والعقيدة وطغيانها وسلبها لكل تفكير نقدي.

تغوّل الأيديولوجيا يجعل العقل رهينًا لها وأسيرًا، تكون وظيفته الدفاع عن مصالح الجماعة التي تتبناها، وغالبًا ما يشتغل العقل في الأيديولوجيا على استحضار ما يشحذ همم الجماعة التي تعتقد بهذه الأيديولوجيا، ويعمل على تغييب كل ما يشتت شمل الجماعة ويشككهم في متبنايتهم الأيديولوجيا، لذلك تكون مهمة العقل في الأيديولوجيا مهمة تبريريَّة وليست مهمة نقدية.

لذلك يؤكد ناصيف نصار في كتابه (الأيديولوجيا على المحك) بأن «العقل الأيديولوجي عقل منحاز، وبالتالي هو عقل انتقائي، محكوم بمواقف الدفاع أو الهجوم التي تقفها الجماعة الأيديولوجية التي تستخدمه،... لأن العلم من أجل العلم مقولة لا تستسيغها الأيديولوجيا».

وظيفة العقل في الفلسفة وظيفة نقدية يغلب عليها الشك لا من أجل الشك، بل من أجل الوصول للحقيقة، وقد لا يصل الفيلسوف للحقيقة، وهذا الذي حصل ويحصل في الغالب، ولكن ما يميز الفلسفة انها لا تدافع عن جماعة دينيَّة أو مذهبية ما، وقد ترفضها وتلفظها الجماعة العقائدية وإن قال بها من كان جذره في التأصيل العقائدي منها.

لا مكان للانحياز العقائدي والأيديولوجي في الفلسفة، ولكن هذا لا يمنع من القول أن كل فلسفة تُبنى على أساس الاعتقاد برؤية ما، ولكنها رؤية لا تُلزم من لا يعتقد بها، ولا تصنفه بأنه (مُغرض) ينبغي القصاص منه واتهامه بالزندقة أو «المروق».

الفلسفة رؤية معرفيَّة وليست سلطة دينيَّة أو أيديولوجيَّة أو سياسيَّة، ومن يرفض الفلسفة جملة وتفصيلًا لا يُحاربه الفلاسفة، وإن حاربه بعضهم فلا يطوله شيء في وجوده الفكري والمادي، بل يعدونه صاحب رأي مختلفا، ولك في تاريخ الفلسفة أمثلة في قبول الاختلاف في الفكر.

لك الحق في أنت تُكذّب الفلاسفة منذ طاليس حتى يومنا هذا ولا تخشى حسابًا من فيلسوف أو من مذهب فلسفي، ولكن من الصعب عليك أن تعترض على فكر عقائدي دوغمائي أو أيديولوجية راديكالية، ستجد أصحابها ينبرون عليك في التكفير أو التشكيك بانتمائك الوطني.

لا تنفصل الفلسفة عن نشأتها البيئية، ولكن خطابها لا يختص بجماعة ما لتحقيق مصالح هذه الجماعة، بقدر ما يكون في الظاهر والمسكوت عنه خطاب أنسني غايته الارتقاء بالعقل الفردي ليتخلص من نزعته (الأنوية) بقصد الكشف عن النزعة الإنسانية الكامنة فينا نحن البشر لنتحاور ونختلف لا لنتطابق ونتفق.

كل مجتمع تتغول فيه الأيديولوجيا يضعف فيه الخطاب الفلسفي ويُهمش، على الرغم من أن المجتمعات المعاصرة بدأت تطرح رؤى مظرية حول مفهوم «نهاية الأيديولوجيا»، بعد أن أتاحت نزعات ما بعد الحداثة للتعددية الثقافية وفتح الأفق أمام العلم وتطورات النظرية العلمية في التقنية والثورة المعلوماتية وتطور وسائل التواصل الاجتماعي وتحولات العالم ما بعد الذكاء الاصطناعي، لذلك ضعف في هذه المجتمعات تأثير الأيديولوجيا وتحجيمها مقابل التوجه نحو «الفلسفة المفتوحة» بتعبير مستعار من باشلار، وكذلك كارل بوبر.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق