q
قبل أيام زرت الخالص، فوجدتها لا ترقى الى مستوى قرية، ولا ينطبق عليها وصف مدينة اطلاقا، فالتمدن اشتق من كلمة المدينة، ولا تمدن للبشر بدون مدينة، بمعنى انها تفرض على الانسان ثقافة معينة من حيث لغة التخاطب والملبس والسلوك وغيرها، مثلما تشترط القرية سلوكا معينا بحكم عاداتها وتقاليدها وأعرافها...

ما زلت أتذكر يومين مميزين لي في مدينة الخالص التي لم أرها بعد الاحتلال الأمريكي لبلادنا حتى الخميس الماضي، أولها حدث في فتوتي يوم أديت امتحان البكلوريا في الصف الثالث المتوسط، وكانت الامتحانات الوزارية تجري في مركز القضاء لجميع طلبة النواحي والقرى، يومها كنت خائفا من التأخر عن الوقت المحدد للامتحان، اذ يتعين علّي قطع مسافة ثلاث كيلومترات ونصف الكيلو مشيا على الأقدام، وبعدها استقل مركبتين، مرعوبا أمشي وكل جسمي يرتجف، وكأني في شهر شباط ، فامتحانات زمان غير امتحانات هذه الأيام .

الخالص حينها بالنسبة لي عالم جديد لم أعتده من قبل، بيوت مشيدة من الطابوق لا تقارن ببيوتنا الطينية المتهالكة التي كثيرا ما تخترق الأمطار سطوحها بالرغم من تحوطاتنا صيف كل عام، لكنها لا تجدي نفعا في الغالب، ووسط أجواء ممطرة نتسلق جدرانها لمعالجة الثقوب التي يتسلل منها المطر، هكذا هي هشاشة حجراتنا المسقفة بجذوع النخيل وحصائر القصب وكميات من الحلفة التي اتخذت منها الأفاعي ملاذا آمنا .

شوارع المدينة معبدة، بينما الطريق الموصل لقريتنا ترابي، ولا تسلكه الا سيارتان تذهبان الى (الولاية) صباحا وتعودان عصرا، وعليك أن ترتب وقتك على مواعيدهما، أعمدة الكهرباء منتشرة على طول الشوارع وأسلاكها ممتدة الى المحال والبيوت، كم كنا نتمنى أن تنار قريتنا التي ما أن تغيب الشمس حتى تغط في ظلام دامس، مازالت رائحة النفط ودخان اللمبات والفوانيس يملأ انوفنا، وبقع سوداء على وجوهنا، ما أن نبصرها في المرآة صباحا حتى يضحك بعضنا من بعض، الخالص بالنسبة لنا كانت حقا مدينة .

وثاني الأيام في شبابي، فما ان وصلت الى مدخلها حتى لفتني تمثال العلامة مصطفى جواد وقد رفعته أسلاك سيارة البلدية من عنقه، واذا به يتطوح في الهواء، فكتبت مقالا بعنوان (اعدام دون مفت) وحدث أن نشر في جريدة الجمهورية مطلع تسعينيات القرن الماضي، ووصف نشره في وقتها بالمغامرة، وقد وضع أحد الأصدقاء يده على قلبه من أن أكون ضيفا عزيزا على احدى دوائر الأمن بحسب قوله، لكن الحادثة مرت دون عواقب فنمت رغدا .

قبل أيام زرت الخالص، فوجدتها لا ترقى الى مستوى قرية، ولا ينطبق عليها وصف مدينة اطلاقا، فالتمدن اشتق من كلمة المدينة، ولا تمدن للبشر بدون مدينة، بمعنى انها تفرض على الانسان ثقافة معينة من حيث لغة التخاطب والملبس والسلوك وغيرها، مثلما تشترط القرية سلوكا معينا بحكم عاداتها وتقاليدها وأعرافها، ولكي تكتسب المدينة معناها الدقيق لابد أن تتمتع بشوارع واسعة وعمران بارز ومؤسسات أنيقة وأحياء فارهة ومحال منظمة .

صدمتني زيارتي الاضطرارية لها، انها الأكثر سوءا بين جميع مدننا، وكأن يدا لم تلمسها، ولا زارها مسؤول يوما، شعرت وكأني في مقبرة، اغلقت جميع شوارعها، ولا مدخل لسوقها الا من الباب الأصفر الذي لا تعرف له طريقا، عليك ان تسأل مرارا لتتبين طريقه، وما أن تراه حتى تصدم ثانية، فالباب الأصفر الذي ذهب بخيالي بعيدا، لا يصلح أن يكون بابا لـ …….، ولا يليق شكله ووجوده بكرم أهاليها الذين ضحوا بالمئات من شبابهم دفاعا عن الوطن، ولا بمدينة اتخذت من نفسها ساترا لحماية بغداد من هجمات الظلاميين .

مدينة لا تُطاق، لكن الاضطرار أجبرني، فلابد ان أصل الى عيادة الطبيب المنزوية في زقاق ضيق محاطة بعشرات البسطيات العشوائية المزدحمة بالمتبضعين، يُراد لك تركيز عال لمراوغة صفوفها، لم أكن قادرا على حمل مريضي المصاب بكسر في ساقه، فهب الشباب بغيرة العراقيين المعهودة لمساعدتي .

ملأني واقعها المر حزنا واحباطا ويأسا، لا تستحق الخالص أن تكون هكذا، لزمت الصمت برغم انفعالي الذي بلغ درجة خفت فيها من ارتكاب خطأ، وأوصف بالشخص غير المتمدن .

........................................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق