q
تفرض اليوم جائحة كورونا على البشر تهديدا وجوديا قويا في هيئة ملل جماعي، خاصة في مطالبة الناس بالبقاء في بيوتهم والامتثال لقواعد التباعد الاجتماعي، والتقليل من الرحلات الجماعية والسفر في ظل دعوة أطباء النفس بضرورة تغيير البيئة باعتباره علاج فعال ضد الملل والضجر...

تفرض اليوم جائحة كورونا على البشر تهديدا وجوديا قويا في هيئة ملل جماعي، خاصة في مطالبة الناس بالبقاء في بيوتهم والامتثال لقواعد التباعد الاجتماعي، والتقليل من الرحلات الجماعية والسفر في ظل دعوة أطباء النفس بضرورة تغيير البيئة باعتباره علاج فعال ضد الملل والضجر.

حيث يتفاقم الإنهاك النفسي، ويتعمق الحس الاغترابي عند الأفراد، هناك جدل بين العلماء، وبالذات بين الفلاسفة، حول المدى الزمني الذي يعود فيه الملل في التاريخ. يزعم العديد من الفلاسفة أن الملل ابتلي به البشر في كل العصور، بينما يرى آخرون أنه مرض خاص بالعالم الحديث. ومع ذلك، فإن أولئك الذين يتبنون وجهة النظر الأخيرة يعترفون بشكل عام بوجود بوادر الملل ما قبل الحداثة.

لكن يبدو أن أسباب الملل في سفر التاريخ هي في المقام الأول أن لا شيء يرضي، وأن الأشياء القديمة نفسها تتكرر باستمرار في حياة الفرد وعلى مدى أجيال لا حصر لها. وهنا نتسـاءل: لمـا نشـعر بالملـل؟ حيـث لا وجود لحيـاة لا تشـوبها فتـرات مـن الملـل، ولا توجـد روايـة لا تتخللهـا فقـرات تبعـث علـى الشـعور بالملـل وتتطلـب الصبر علـى القراءة، ولا حديـث لا تشـوبه لحظـة من الملـل. وكل هذه الحالات تَتَطَلَّب الصبـر والإصغاء.

نعيـد التذكيـر بالقاعـدة الرواقيـة: لا تسـوء الأشياء، لكـن تسـوء أفكارنـا حول الأشياء. تصـدق هـذه القاعـدة علـى حالـة الملـل أيضـاً. ليـس الملـل شـيئاً سـيئاً فـي حـدّ ذاتـه، فالملل قـد يكـون دافعـاً للحيويـة بالنسـبة للإنسان. أسـوأ مواجهـة للملـل حيـن نظـن أنَّ بإمكاننـا الهـروب مـن الملل عـن طريق التسـلية، فنحاول قتـل الملـل بأمور تلهينا عن الإبداع والحياة الحقيقية.

الملّل الوجودي والطبيعي

بالمنطق الفلسفي للدراسات، هناك نقاش حول مسألة ما إذا كان هناك بالفعل شيء مثل الملل "الوجودي" الذي يختلف عن الملل الظرفي اليومي، الذي لا يشكك أحد في واقعه. فهناك من يقول بأن الملل الوجودي هو بالفعل حقيقي ومهم. وهناك من ينفيه ويعتبره حالة من الاكتئاب. ومنهم من يعتبره حالة ذهنية مزعجة أو غير مرغوب فيها من التعب والقلق وعدم الاهتمام بشيء يتعرض له المرء.

إن هناك خطأً شـائعاً يعترضنا، مفـاده أَنَّ التفكيـر إن لـم يُؤَدِّ إلـى الشـقاء فإنـه لا يقـود إلـى السـعادة. والنتيجـة أَنَّ هـذا الصنـف مـن النـاس ينشـد السـعادة عبـر تعطيـل قدرتـه علـى التفكيـر. هنـا لا يكون الوصـول إلـى هـذه النتيجـة سـوى تعبيـر عـن الفشـل فـي مواجهـة مصاعـب الحيـاة، وتعبيـر عـن الانعزال، بـل هـو مجـرّد جُبـن وكـسل. أَنَّ أصل المشـكل هو طريقة تفكيرنا، وليس الشـقاء إلا شـيئاً يعـده الإنسان بنفسـه.

يمكننا أن نسـتثمرَ مرحلـة الشـيخوخة لأجـل أن نعيـش حيـاة أكثر هدوء وجـودة أيضـاً، خاصـة أننـا نكـون قـد اكتسـبنا مـن التجـارب والمعـارف مـا يعيننا على نظـرة أكثر حكمة وهـدوءاً، ونكـون قـد تَخَفَّفْنَا مـن أعبـاء متطلبـات تربيـة الأطفال وتعليمهـم، حصلنـا علـى نـوع مـن الاستقرار مهمـا كان بسـيطاً.

وبالتالـي فإنـه حيـن تَتَحَرَّر طاقة العقل والجسـد مـن الجشـع والطمـع فـي تكديـس المغانـم، وَيَتَحَرَّر الإنسان مـن أفـكار كثيـرة كان يظـن أنهـا أسـاس العيـش السـعيد، ويكتشـف الأوهام التـي تحيط بها. كل ذلـك يُحَرِّر العقـل كمـا يُحَرِّر الجسـد ويمنحـه آفاقـاً أخـرى قـد تكـون أكثـر إنتاجيـة علـى مسـتوى المعرفـة والخبـرة والحـب والصداقـة.

هكذا يرى سعيد ناشيد الملل في الحياة في كتابه (التداوي بالفلسفة). وفي كتابه الجميل (قهر السعادة) عام 1930 وفي فصل بعنوان (الملل والإثارة)، عالج برتراند راسل (1872-1970) موضوع الملل والتعاسة اليومية العادية التي يتعرض له إنسان المدينة في عصر الإلهاء والإنتاجية، بفعل الشياطين العميقة الجذور للطبيعة البشرية التي تبقينا في حالة قلق دائم، وتعاسة مستمرة. فالملل موجود معنا حتى في أعظم الأعمال الأدبية للبشرية.

حيث تحتوي جميع الكتب العظيمة على أجزاء مملة، مثلما احتوت كل الحياة العظيمة على امتدادات رتيبة. المشكلة تتلخص بأن الإنسان مهما حاول الهروب من الملل، فأنه يقع فريسة لنوع آخر أسوأ بكثير. وهذه الحالة لا تزول إلا من خلال زيادة الوعي بأمراضنا المحفوفة بالمخاطر. الرغبة في الهروب من الملل أمر طبيعي. لقد أظهرت كل أجناس البشرية على أنها فرصة حدثت ... كانت الحروب والمذابح والاضطهاد جزءًا من الهروب من الملل. لذلك فإن الملل هو مشكلة حقيقية، حيث الحياة حارة متربة وعطشى كأنها حج في الصحراء، لأن ما لا يقل عن نصف خطايا البشرية سببها الخوف من الملل.

ومع ذلك، لا يجب اعتبار الملل شَرًّا تمامًا. لأن هناك نوعان، أحدهما مثمر، والآخر يفسد. ذلك لأن الملل في حياة البشر يرتبط ارتباطا وثيقا بفصلهم عن حياة الأرض. إن تنمية هذه القدرة الأساسية في وقت مبكر من الحياة تقوي جهاز المناعة النفسي للبالغين. ويتحمل الآباء المعاصرون اللوم إلى حد كبير في هذا الصدد؛ إنهم يزودون أطفالهم بالكثير من التسلية السلبية كالآباد مثلا، ولا يدركون أهمية أن يقضي الطفل يومًا مثل يوم آخر، بمتوالية الملل.

الملل قضية فلسفية

هناك عدة جوانب لمشكلة الملل تمنع معالجتها الشاملة بطريقة بيولوجية أو نفسية أو اجتماعية. هناك مشكلة في تحديد ما هو الملل أساسًا -جزء منه هو مشكلة تحديد ما إذا كان شيئًا واحدًا أو شيئًا يأتي في مجموعة متنوعة من الأشكال أو الأنماط المختلفة المهمة. وعلى الرغم من أنه ليس موضوعًا رَئِيسِيًّا للفلاسفة الغربيين، فقد تحدث عنه بعض الفلاسفة الغربيين المهمين، واعتبروه موضوعًا فَلْسَفِيًّا رَئِيسِيًّا للحياة البشرية. يتحدث لوسيوس آنيوس سينيكا (4 قبل الميلاد -65 م)، الفيلسوف الروماني الرواقي، عن الملل في مقالته "عن الهدوء"، بأن المصاب بالملل يعاني من التقلب والملل والتغير المستمر في الهدف، وأولئك، من ناحية أخرى، الذين يتمايلون ويتثاءبون. بينما يرى فيلسوف القرن السابع عشر الفرنسي بليز باسكال (1623-1662). بأن الملل هو الحالة الطبيعية للإنسان.

لكن رسالته ليست سلبية بالكامل. أما الفيلسوف إيمانويل كانط (1724-1804) فإنه يرى أن الملل يصيب الشخص غير النشط وليس لديه ما يفعله. وعلاجه هو النشاط سواء العمل أو المشاركة في أنشطة التسلية والترويح عن النفس. لكن الفيلسوف الألماني الكبير آرثر شوبنهاور (1788-1870) يجعل من الملل محور فلسفته.

فالملل لديه هو الإحساس بعدم جدوى الوجود، وهو أحد أقطاب الحياة البشرية. بينما القطب الآخر هو الحاجة أو العوز أو النقص أو الرغبة. وهكذا يمكن النظر إلى الحياة على أنها بندول يمر ذهابًا وإيابًا بين حالة سيئة وأخرى. والملل هو البؤس، وآفة حقيقية على الجنس البشري. يمكن أن يؤدي إلى وفاة الشخص؛ يمكن أن تجعله يشنق نفسه أو نفسها. أو للتغلب عليها، قد يجد نفسه المحرض على الحروب والمذابح والقتل. وربما هذا هو سر قادة بعض الدول لإشعال الحروب!

الضباب الصامت

هناك من يعتقد من الفلاسفة بأن الأشخاص الأقل ذكاءً، والأقل نشاطًا عَقْلِيًّا، والأكثر "نائمين" هم الذين يعاــــنون أكثر من غيرهم من الملل، مثل الفـيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو (1817-1865). بينما يرى الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد (1813-1855) بأن الملل هو أصل كل الشرور. وهو نوع من العدم. ومع ذلك يعمل كقوة دفع فعالة لغاية للعمل. بينما يرى الفيلسوف وعالم النفس البراغماتي الأمريكي ويليام جيمس (1842-1910) في كتابه المثير للجدل مبادئ علم النفس (1890) بأن الإحساس بالملل هو احتجاج على الحاضر بأكمله. يحدث في كل مرة، من الفراغ النسبي لمحتوى جزء من الزمن، فالشعور بالملل يعني اهتمامك عن كثب بمجرد الشعور بالوقت في حد ذاته.

ويناقش الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر (1889-1976) الذي كتب عن الملل أكثر من أي فيلسوف رئيسي آخر، ويرى فيه أهمية أكبر مما رآه أي مفكر كبير آخر، حيث فلسفة (الوجود هناك). وتتلخص فكرته للملل من خلال رؤيته الفلسفية التي ترى عادة ما يكون الوقت شفافاً، لكن في حالة الملل العميق نشعر بالوقت كوقت؛ ومن جهة أخرى فإن الملل هو مزاج يشبه في كثير من النواحي غياب المزاج؛ إنه بالفعل مزاج، تناغم أساسي، ولكنه أيضًا، للمفارقة، نوع من عدم المزاج. أنه مثل (الضباب الصامت) كما يقول.

فالحالة المزاجية لها أهمية معرفية بالإضافة إلى أهمية ذاتية. إنها تكشف لنا العالم بقدر أو أكثر مما تفعله حواسنا. فالملل هو تناغم أساسي للمزاج. جنبا إلى جنب مع القلق. أنه يوجد بداخلنا ولكنه نائم. ولابد من إيقاظه بدلاً من تركه ينام في أشكال مختلفة من التسلية اليومية. فالملل يزيل وهم المعنى من الأشياء ويسمح لها بالظهور كما هي: الفراغ والعدم. ويعود رغبة الإنسان في الملل ورؤيته بسبب الملل الرصين الذي يصاحب نوع غريب من الفرح الهادئ. لأن (الفلسفة ولدت في لا شيء من الملل).

الملل يخلق الأدب والفن

لم يفلت الملل من نطاق تأملات الأدباء والفنانين، حينما كتبوا عن الألم والملل باعتبارهما المكونان الرئيسان للوجود، بل إن الكثير منهم وجدوا في الملل دافعا للإبداع، فالملل عند دوستويفسكي في رواية (رسائل من العالم السفلي) أو (الرجل الصرصار) هي أشبه (بدبابيس ذهبية مفيدة لجسم الإنسان) بينما قالت الروائية الشهيرة أغاثا كريستي (لا يوجد شيء يضاهي الملل لأنه يدفعنا للكتابة)، ويرى الروائي البريطاني نيل غيمان بأن (الملل يصنع قصة). أما الفنان بيكاسو فقد قال (الملل صنع لي أعظم لوحة)، وأشار النحات الشهير انيش كابور بأن الملل (دفعني إلى المحاولة).

أَنَّ الفلسـفة والأدب والفن ليـس دورهـم التخلي عن المعذّبين وتتركهـم للكهّـان والدجاليـن، وأن يهجروا النـاس حيـن يشـتد بهـم الحـال ويسـوء المـآل، بـل دورهم رعايتهم فـي كُلّ أحوالهـم وأهوالهـم، وأن تمنحهـم شـجاعة العيـش فـي كل الظـروف. وإن كانـوا لا يملكون أوهامـاً يبيعوها للمعذبيـن-هنـا تكمـن نقطـة ضعفهـم-لكن عليهم أن يقترحوا أسلوب عيش يجعل الحياة محتملة في كل الظروف، ودون حاجـة إلـى أوهـام بالضرورة.

هنـا بالـذات يكمـن البعـد الخالص للفلسفة والأدب والفن. فالحياة العظيمة تتطلب من يعيشها أن يتحمل الكثير من الهدوء والملل؛ فلا خيار لنا إلا البحث عن السعادة وسط ضباب الملل، فقد انتهى عصر المصافحة بالأيدي، وبدأ عصر المصافحة بالكوع لقتل الملل والضجر!

في بطون الكتب ومسيرة التاريخ الكثير من الأحداث وقصص الملل، لكنني تعلمت درسا مهما من صديقي المغرم بالشكوى من الحياة والملل، فقد كان مهووسا بالملل من الوقت والمعيشة عندما كان يعيش في بغداد. كان يقول إنها حياة لا تليق بالبشر. وعندما توفرت له فرصة العمل في الخليج انبهر بالحياة والمال في السنة الأولى وبدأ هواية جمع المال مقابل التذمر والشكوى، وبدأ يعيد النغمة الأولى، ولكن بطريقة أخرى: حياة مملة مع الصحراء والأبراج الميتة، وعندما ذهب للإقامة في أمريكا قال عنها إنها جنة الله في الأرض. ولم يتم سنته الأولى إلا وبدأنا نسمع نغمة أخرى: حياة كاذبة بلا معنى. وقبل أيام رن التلفون وسمعت خبرا مؤلما: مات صديقك بالجلطة الدماغية بسبب التفكير والملل والضجر، واليوم سندفنه في مقبرة الولاية.

مات الصديق وبقي الملل، والبقاء للأصلح. انتهت القصة!

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق