إن ما هو مسموح في الاختلاف الديني لا يجري على الاختلاف السياسي لسبب سنأتي على توضيحه، فإذا قلنا أن التنوع والاختلاف الديني يمنح المسلمين حرية أوسع، وتعدد أرقى في التعاطي مع سبل حديثة مختلفة مغايرة لتطوير أطر العيش بعقائد وأفكار محدثة، فإن هذا لا ينطبق على الاختلاف السياسي...

تنوّع الأفكار لا يعني تشتتّ العقول، أو إصابتها بوباء التشرذم، كما يدّعي بعض دعاة الانغلاق، على العكس فتنوّع التفكير يعني سعة في موارد الأفكار، وأصالة لها في حومة الابتكار، وديمومة في التأثير والارتقاء، وهذا يسترعي الانتباه في الفكر الإسلامي، مدارس، واتجاهات، ومذاهب، وفرق، يرى فيها المنغلقون عيوباً وهزالاً، فيما هي تنوّعاً مورده حرية الاختيار، فلكلٍ له ميوله في الحرية بالنوم على الجنب الذي يريحه، ولكلٍ ما يراه من معين الفكر، وأصالة النبع، ثم فيما بعد لهذا التنوّع الفسيفائي أن يلتقي في بوتقة الإسلام الحاضنة للجميع.

ليس ضعفاً قط أن تعلنَ تحررك الفكري الذي يختلف مع غيرك من المسلمين، وليس عيبا أن تنتمي إلى هذه الطائفة أو تلك، فأنتم أحرار شريطة عدم التناحر، والآن يبلغ عدد المسلمين في العالم 1.6 مليار نسمة بحسب الإحصائيات الدقيقة، وتصل نسبة المسلمين بين سكان الأرض الى 23%، الدعاة المسلمون طالبوا بتوحيد هذا العدد الكبير للمسلمين، وهو عدد آخذ بالتصاعد نعرف هذا عندما نرقب الخط البياني السنوي، وهناك كتابات كثيرة ومؤلفات ناصعة تعود لسماحة الإمام السيد محمد الشيرازي، يدعو فيها الذين ينتسبون للإسلام أن يتوحدوا معاً أخيه فيما أسماه (قُدس سره) بـ الوحدة الإسلامية، وهو كتاب تم تخصيصه لمعالجة هذا الهدف الذي يرى فيه المؤلِّف شرطا من شروط قوة وتقدم المسلمين.

على أن تكون وحدة قائمة على المنطق وعلى أسس مدروسة مسبقاً، فما هو نوع هذه الوحدة وما طبيعتها وأي الاشتراطات تحكمها، هل هي وحدة عددية تقوم على أساس الكمّ دون النوع، أم هي وحدة مصير وحضور مشعّ ومتميز؟، وهل هي وحدة قائمة على إلغاء الخصوصية الفرعية، أو الهويات التي تتفرع من الفكر أو الدين الأم، أم هي وحدة داعمة للتنوع الفكري والعقائدي، وحامية للابتكار والتطور وللهويات الصغيرة كالأقليات أو الطوائف العقائدية التي تمضي في نهجها الخاص لكنها منضوية تحت خيمة الإسلام المبدئية والفكرية؟.

المرجع الديني السيد صادق الحسيني الشيرازي يقول بالحرف الواحد: (التوحيد الديني لا معنى له أبداً). ثم يردف سماحته رأيهُ هذا بآخر يرى فيه: (أن لكل واحد له اعتقاداته التي يدعو لها). ثم يدعو سماحته فيما يُشبه الحثّ والتشجيع: (فليدعوا كل واحد الى ما يعتقد به، فللكلّ الحرية). هل هناك اشد وضوحا من هذا الرأي الذي ينطلق من أساسيات الفكر الإسلامي القائم على حرية التنوع والاختلاف، فما هو الضير أو ما هي المشكلة في تنوّع الفكر والعقائد، ولماذا لا نسمح للناس بهذا الاختلاف كلٌ وفق حريته المكفولة، ثم أليس في تنوع العقائد والآراء نوع من الثراء الداعم للفكر، وهو في الآخر يفتح نوافذ عديدة لمسالك عتيدة تمنح المسلم طرائق عيش أفضل، فلماذا يسمح البعض لنفسه أن يغلق أبواب التنوّع والثراء، هل من الصحيح أن نعتقل جميع الآراء والعقائد الدينية ونلقي بها في زنزانة واحدة ونصهرها كي تذوب كلها في رأي واحد وفكر أوحد، أين هي حرية الفكر التي يدعو لها الإسلام ثم ألا يعدّ هذا نوعا من التطرف والإلغاء لحقوق الأقليات؟

في مثل هذا القسر والإجبار أو الإكراه خسارة على مستوى تعدد طرائق التفكير وتنوع الحلول وثراء الحياة، والأفضل والأجدى والأنصع أن يُسمَح بحرية العقيدة، فلا أرقى ولا أجمل من تعدد ألوان الفكر وتنوّعها، لذا حتى على مستوى التناسل البشري يُنصَح الرجال والنساء بالتزاوج من أنسال مختلفة، لدرجة قيل أن الاقتران بقريبة أو قريب يضعف قدرات الجسد ويصيب الروح بالوهن والخفوت، أما التزاوج بين غرباء أو من سلالات مختلفة فسوف يمنح النسل خصالاً وصفاتٍ روحيةٍ جسمانيةٍ غاية في الاكتمالِ والجمال والصحة، لتنتهي في الآخر لرسم كيان بشري فائق الحضور والفعل، له قوة الجسد الفائقة، وإشعاع الروح البارقة.

وهناك أنواع أخرى من التنوع والاختلاف، فهي لا تنحصر في الدين أو المبدأ والعقيدة، هنالك التناقض في الفكر السياسي، ما صحَّ من اختلاف في الدين هل يصح في السياسة بين المسلمين، السؤال بصيغة أخرى، إذا صح الاختلاف والتنوع العقائدي والفكري والديني، هل ثمة فسحة للتعارض السياسي الذي ينتهي بالنتيجة إلى فتن وتضاربات وما أشبه؟ الجواب إن ما هو مسموح في الاختلاف الديني لا يجري على الاختلاف السياسي لسبب سنأتي على توضيحه، فإذا قلنا أن التنوع والاختلاف الديني يمنح المسلمين حرية أوسع، وتعدد أرقى في التعاطي مع سبل حديثة مختلفة مغايرة لتطوير أطر العيش بعقائد وأفكار محدثة، فإن هذا لا ينطبق على الاختلاف السياسي، ذلك أن هذا الاختلاف سوف يكون مدعاة لإثارة الاحتراب وتأجيج الفتن واختلاق المآرب المتصادمة، هكذا تستعرّ حالات الاصطدام فتنتهي إلى تصارع المسلمين فيما بينهم، وهذا خلل خطير في كونه يقود صوب حصول التضاربات السياسية داخل ميادين الساسة المسلمين ما يضعفهم ويجعلهم أقل رصانة حيال أندادهم.

إن المبتغى ليس إضعاف الأمة، ولا دق إسفين الفرقة فيما بينهم، فإذا كان التنوع الفكري يثريهم ويزيدهم متانة، فإن الصراع السياسي يفتّ في عضدهم، فالهدف الأهم هو وضع المضادات المناسبة لتقويض التشتت والتضارب في الرأي السياسي بين المسلمين، لأنه سيودي بهم الى ناصية الحروب والفتن والصراعات وهم في غنى عنها، فما يختلقه أعداء المسلمين من الموت والدمار والضغائن يكفيهم، إنهم يخسرون الكثير من الدماء وتُزهَق الكثير من الأرواح، وتضيع الكثير من الثروات والموارد الإسلامية سدى بسبب الاختلافات السياسية، فيما يحدث النقيض مع التنوع الفكري والعقائدي الذي يعدّ مصدر قوة للمسلمين وليس ضعفا كما هو التعارض السياسي.

لذلك نستطيع أن نجزم بأن الوحدة التي قصدها وأرادها ودعا لها الإمام الشيرازي هي الوحدة السياسية التي تقوّي من عضد المسلمين، وليس شمولية الفكر واختصاره في رأي واحد كما يحصل على الدكتاتوريات الأحادية التي تختصر الأمم والشعوب في شخص الحاكم وعقله وما يراه هو الصحيح أما ما يراه الآخرون من آراء وأفكار مختلفة فهي مرفوضة لأنها تهدد عرش الدكتاتور، هذا هو المقصود من جماليات التنوع والاختلاف، وهذه هي الدعامات المتينة التي تدعم المسلمين وتعيدهم إلى المجد الذي فقدوه حين اختلفوا سياسيا من جهة، وفُرضت عليهم الأفكار الشمولية من جهة ثانية.

اضف تعليق


التعليقات

صباح قاسم
العراق
في كل مناحي الحياة التعددية هي الأكثر فائدة في تسيير الأمور، السياسة بالتعدد ناجحة، والاقتصاد بالتنوع يحدث وفرة في الموارد، والزراعة كذلك حتى التعليم، أما الفكر والرأي فإن تنوعه يثري العقل وسيرة الانسان.. بارك الله مداد أقلامكم2018-11-24