هناك أُناس يريدون حصد الثمار دون المباشرة بغرس البذور، ولكم أن تتخيلوا كيف ستتم هذه العملية، وهل يُعقَل أن من (لا يزرع يحصد)؟؟، بالطبع سجايا الحياة تقول لنا أن من يطمع بقطف الثمار عليه أن يقوم بسلسلة من الأنشطة، أولها تهيئة الأرض وحرثها وتسميدها وتخليصها من الشوائب والحشرات الضارة، كذلك يجب أن يتم ضمان السقي الصحيح وفتح الترع وتأكيد تدفق الماء الى الأرض، مع مواصلة مراعاة النبتة في بداية نموّها كمراعاة الوليد الجديد.

هذه المتطلبات تنطبق على تنمية الفكر أيضا، فلا يمكن أن نقطف ثمار الأفكار قبل أن نهيّئ الظروف الصحيحة للغرس والسقي والنمو والمراعاة وأخيرا (الحصاد)، فأنت لا يمكنك أن تجدد أفكارك، وتزرعها في ذهنك، وتطورها وتفعّلها ما لم تقم أولا بتهيئة (تربة) العقل لهذه الأفكار المحدثة.

وكل فكرة تفيد الإنسان وتطور عقله وتزيد من مخزونه العلمي، فإن العقل يتلقّفها برغبة مقرونة بحبّ الاكتشاف، وسحر الإمتاع، ومن ثم الفرز والتحليل والتطبيق، مع انتظار راق لنتائج هذا المجهود.

الفكر الحسيني مشمول بما قيل في أعلاه، فهو فكر غني بالمضامين الخلاقة، ويستدعي تهيئة سابقة للبذار والغرس في (تربة) العقول، وليس هنالك أي عذر لمن يتخصص بتوصيل الفكر الحسيني وتبليغه، مع ضعف المنهج وخواء الطريقة وخمول الأسلوب، وضعف التحليل، كلا بالطبع، فالمراد هنا تحليل الفكر الحسيني وفق القواعد العلمية المعترَف بها عقليا وأكاديميا، وطالما أننا على ثقة من عظمة وقوة وغنى هذا الفكر، فلابد أن يتم إلزام الفاعلين بالفكر الحسيني تشريح الصفات العلمية له وتحليلها وجعلها فاعلة في إطار النشاط الجمعي.

الإمام الراحل، السيد محمد الشيرازي، يصرّ على هذه الاشتراطات فيقول: (يجب أن تكون مجالس الحسين عليه السلام منبعاً للفكر والوعي والتحليل العلمي والعمل الجماعي).

وعلينا البحث عن الوسائل والترتيبات التي تبرِّز الوعي وتنشِّط التحليل في ما يطرحه الخطباء والمبلغون من فوق (المنبر الحسيني) في المجالس التثقيفية التي تسعى لنشر هذا الفكر بين أكبر قدر من العقول والأذهان، ومن أهم طرائق التحليل العلمي وبث الوعي في هذه المجالس أو المحاضرات المرئية والصوتية المباشرة، أن تشتمل على تشريح النفس والغوص في أعماقها، مع فهم صارم لطبائع المجتمع، وإلمام باهر بالتاريخ، وضبط المعرفة في شؤون العقائد.

كيف يمكن تطبيق ما ذُكِرَ في أعلاه؟، وكيف نشنف أذن المستمع بأقوال الخطباء والمبلغين؟، إن هذه المهمة ليست سهلة، فهي تحتاج الى خطباء مبرزين، عارفين لأهمية وخطورة مهمتهم، ذلك أن من يعتلي منصة المنبر الحسيني، عليه أن يعرف قيمة هذه الفرصة المتاحة له، وعليه أن يقدّر مسؤولية أن يُطلَب منه أو يسمح له بارتقاء المنبر، فالمسؤولية كبيرة ولا يقدّرها إلا الخطاء المتميزين، من هنا لابد من تحريضهم على الإبداع المستمر في الخطب والمحاضرات التي تُلقى من فوق المنبر الحسيني الذي لا يصح أن يستقر في قمته إلا الخطباء المتميزين.

يثبّت هذا الرأي سماحة الإمام الشيرازي مطالباً: بـ (تحريض الخطباء على إلقاء أفضل التحليلات النفسية والاجتماعية والتاريخية والعقائدية.. وهذا من أفضل الطرق لشد الناس إلى الإيمان ولغرس معالم الدين والفضيلة في حياتهم).

وإذا تم الالتزام بالاشتراطات المعلَنة في أعلاه من قبل الخطباء، فإننا نكون قد ضمنّا خطابا دينيا شيعيا إسلاميا عميقا واعيا، يتأسس ويقوم على المعرفة والوعي والرشاد، وهذا ما يستحقه الفكر الحسيني بالفعل، وإذا نظر المختصون الى الفحوى الخالص الذي تقدمه المنابر، ويطرحه الخطاب، ويستقبله المتلقّون برغبة جارفة، فإن النتائج العلمية التحليلية للفكر الحسيني ستكون باهرة ومؤثرة.

وهذا ما يمنح مثل هذه الخطب، وهؤلاء الخطباء أولوية على غيرهم، فالجدوى الفكرية التي تتضمنها محاضراتهم، تستلزم نشرها وتوصيلها الى أبعد إنسان في الأرض، باستخدام ذكي لكل وسائل الإعلام المتاحة، وأولها (شبكات التواصل الاجتماعي) و (القنوات الفضائية) و (المواقع الإلكترونية) ، و (الإذاعات المحلية والخارجية)، والجرائد والمجلات والدورية الورقية أيضا، والكتب بالطبع، لأننا يجب أن لا نسمح بضياع الجهود الفكرية المرموقة التي تنطلق من فوق المنابر بوساطة خطباء أفاضل عارفين أدق تفاصيل الفكر الحسيني وناشرين لها.  

هذا التأكيد يعلنه السيد محمد الشيرازي: يجب (المساهمة في تدوين ونشر المحاضرات التي تلقى في المراكز وتوزيعها بين الناس).

وطالما أننا فهمنا خير الفهم، جلالة الدور العلمي الثقافي المعرفي للمنبر الحسيني، علينا في ذات الوقت التركيز على المفاصل التي تحسّن من حياة الأمة، فهي بحاجة الى قطع عنق الاستبداد بصورة نهائية، فلا نريد استبدادا يقهر الأمة بعد اليوم، ويجب إشهار يافطة (الإصلاح) ليل نهار، بلا كسل أو عجز أو تردد، ولا يمكن التخلي عن الشورى كمنهج في إدارة الحكم، أما الحرية فهي المطلب الذي لا نتنازل عنه كما يوصينا إمامنا الحسين (ع)، وكما يطرحه الفكر الحسيني ويعلنه الخطباء والمبلغين من على المنبر الحسيني، وعلينا استثمار الظرف العقائدي الراهن، لكي نفضح الفساد السياسي المالي المنتشر في أنظمتنا السياسية، ويجب أن نطلق صرخاتنا المدوية الرافضة للفساد بكل أشكاله، اعتمادا على منهج الحسين وفكره الواقعي العلمي الدقيق الذي لم يترك شاردة أو واردة إلا وتصدّى لها.

نستشف ثبات الآراء في أعلاه من إعلان السيد المجدد الشيرازي، حين يطالب: بـ (التركيز على مشاريع التغيير والإصلاح والشورى والحرية ومكافحة الطغيان والاستبداد والفساد السياسي والمالي).

وثمة نقطة بالغة الأهمية سنختتم بها كلمتنا هذه، لها علاقة وثيقة بأحزان عاشوراء، فنحن من حقنا أن نحزن ونبكي ونعلن على الملأ أحزاننا القاهرة، ولكن هذا الحزن الإنساني الشفيف، لا يلغي انشغالنا بالمستقبل قط، فأحزاننا على ما جرى لسبط الرسول المصطفى (ص)، لا يجوز أن تقضي على تطلعاتنا الكبرى القائمة على التفاؤل بالمستقبل، إن حزننا هذا من النوع الذي يجعلنا أكثر جدارة بالحياة، وأكثر تقرّبا وفهما ومعرفة وتطبيقا للفكر الحسيني الأزلي.

الإمام الشيرازي يبرِّز هذا الهدف الحيوي فيدعو: الى (أن يكون الماضي الذي يستحضره الموالون في أحزان عاشوراء باعثاً لمستقبل أفضل ولتجاوز المشاكل المحيطة بهم).

...........................

المصدر:
كتاب (رسالة عاشوراء) لمؤلفه الإمام محمد الحسيني الشيرازي

اضف تعليق