q

يتصور البعض أن الاهتمام الكبير بأمر ما، لابد أن يتجسد في مظاهر عدّة منها؛ التشكيك بنوايا واعمال الآخرين وتعظيم الامور صغارها وكبارها، بهدف حل الازمات في الاصعدة كافة، فنرى الجميع يدّعي المشاركة في "حراك" باتجاه التغيير نحو الاحسن او محاربة الفساد، من خلال إحصاء العثرات من هذا المسؤول وذاك السياسي، ثم توجيه الاتهامات الجاهزة، لكن لا يلبث ان يتحول هذا الاهتمام الى نظرة سوداوية يتمخص عن تقييمات سلبية لمجمل الامور بل للحياة بأسرها، عندما يتذكر الانسان فجأة قدراته المحدودة وأنه خالي اليدين، فتكون الازمات أكثر تعقيداً وإيلاماً.

هنالك أسباب وراء نشوء هذه النظرة السوداوية والانطباع السلبي في العراق، ربما تكون الاسقاطات السياسية احد الاسباب، لكن ليست كلها، نظراً لحقيقة المسؤولية التي تقع على عاتق المواطن في صعود من يعده اليوم فاشلاً.

النجاح على طبق من ذهب!

اولى الخطوات التي اتبعتها الشعوب التي نهضت اقتصادياً وسياسياً؛ النظر الى الماضي للاعتبار منه للحاضر، ثم التطلع نحو المستقبل بمزيد من التجارب. هذه القاعدة تتمثل في مسيرة طويلة تتطلب سنين وربما عقود من الزمن حتى يتحقق التغيير الحقيقي لهذا الشعب او ذاك، ويستعيد نشاطه الاقتصادي وتماسكه الاجتماعي ويكون دولة ذات شأن على الخارطة.

وإذن؛ فالقضية بحاجة الى صبر وطول أناة من لدن جماهير الشعب لاستيعاب المشكلة كاملة، حتى وإن كانوا هم المسؤولين عنها، ومثال ذلك؛ اليابان والمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، او كوريا الجنوبية التي كانت ضحية الحرب وليست السبب فيها، او الهند التي كانت ضحية الاستعمار والاستعباد طيلة حوالي خمسة قرون. هذه الشعوب وضعت نصب أعينها أولاً؛ ركام الحروب والازمات التي تريد ازالتها وتشييد البناء الجديد بدلاً عنه. فلا حرج ولا وجل من الاقرار بالمشكلة لابناء المجتمع وللاجيال، حتى يعرفوا ما عليهم فعله الآن وغداً.

كانت كوريا الجنوبية مصرّة لسنوات طوال على الحديث لطلاب المدارس في مادة التاريخ عن الاستغلال الجنسي الذي تعرضت له أمهاتهم وجداتهم على يد ضباط الجيش الياباني، ويعدونه من الحوافز على النهوض والتقدم، حتى تمكن اليابانيون من اقناعهم بحذف هذه الفقرات مقابل تعويضات بملايين الدولارات لحوالي 200ألف إمرأة كانت ضحية استعباد جنسي بشع خلال الحرب العالمية الثانية.

طبعاً؛ هذا مثال شديد الوطأة على النفس الانسانية، بيد أن هنالك أمثلة عن طريقة تعامل الشعوب مع تراكم انقاض اقتصادية واجتماعية ونفسية، وللعراق من هذا الكثير، فقد خلف العهد البائد أنقاضاً في البنية الاقتصادية والبناء الاجتماعي، كانت من الضخامة أن توهم البعض امكانية استمرائها والتطبع عليها لتكون من المفردات الثقافية مثل العنف ومنطق القوة والطبقية. وعندما يكون التعارض بين هذا الواقع الفاسد وبين الوجه الجديد لعالم اليوم الداعي الى التسامح والسلم والتكافل واحترام الآخر وغيرها من القيم الايجابية، فمن الطبيعي حصول العجز في تحقيق شيء سوى التنافر والتباعد واستحالة النجاح في أي مشروع على مختلف الاصعدة.

من هنا؛ فان طريقة التعامل مع أزمات الماضي هي اختبار الذكاء والنجاح لكل شعب ناهض ينشد التطور والتقدم، وربما يكون بامكانه تدوير هذه الازمات والانقاض – إن صح التعبير- وتحويلها الى منطلقات للنجاح في الاقتصاد والاجتماع والسياسة لتحقيق الامن والرفاهية، بدلاً من التفكير في الحلول الجاهزة وترك مخلفات الماضي على حالها تتفاعل لتنشر افرازاتها السلبية على الواقع الجديد.

الايمان بوجود مسؤولية مشتركة

مادمنا في سفينة واحدة وسط الامواج المتلاطمة – كما يُقال- فان الاولوية للتفكير الجماعي، والقضية لا تتعلق بمرحلة البناء والاعمار، إنما هي لمرحلة التنمية والتطور والظهور بوجه جديد امام العالم، فمن المؤكد حصول هفوات او أخطاء من هذا وذاك، فما هو الموقف المطلوب؟.

البعض يجيب على هذا السؤال من خلال رؤية فكرية غير صائبة تقول بأن "كل انسان مسؤول عن خطأه ولا دخل للآخرين به"، بينما الرؤية الحضارية التي أثبتت جدارتها في البناء والتقدم، ما هتف به الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله في حديثه المشهور: "كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته". وهذه الرؤية بحد ذاتها قادرة على التقليل من الهفوات والاخطاء لأن الجميع مسؤول عن الجميع، ولا أحد يتحرك لوحده. بينما نلاحظ الواقع المزري في عراق اليوم، فان يخطأ يحكم عليه بالاعدام اجتماعياً وثقافياً، وهل أن الخطأ بالضرورة يصدر دائماً من الوزير والمدير والرئيس...؟ وهل أن الآخرون من المراقبين على الخط او المتفرجين او المساهمين و... معصومون من الزلل في أفعالهم و احكامهم؟.

وقد كتب باحثون في التنمية البشرية كثيراً عن سبل النجاح وايضاً سبل معالجة الفشل، وسلطوا الضوء على الحالة الايجابية وكيفية تكوينها وتنميتها في النفس الانسانية، كما سلطوا الضوء على الحالة السلبية وآثارها وأكدوا أن "السلبيين وحدهم هم من يتهربون من مسؤولية أعمالهم، ولا يتحملون نتائجها، ويتهربون من الاعتراف بتقصيرهم أو خطأهم".

إن نظرة من بعيد للعراق، وما يمتلك من مقومات النهوض والتطور، تدفعنا للتوقف ملياً عند النظرة السوداوية والحالة السلبية المتجذرة لدى البعض، ما من شأنه ان تكون عامل آخر لضرب هذه المقومات – ربما دون ارادة من اصحابها- لان هذه النظرة غير الايجابية تترك آثاراً مرضية مباشرة على الجسم العراقي، فهي تزيد من ارتفاع جدار عدم الثقة بين المواطن والمسؤول، كما تعدم الرؤية بوجود بصيص أمل في المستقبل.

والمثير حقاً في هذا المجال، اعتراف الجميع بمسؤولية جماهير الشعب والشريحة المثقفة والواعية في تشكيل النظام السياسي القائم من خلال الوقوف بكل فخر واعتزاز خلف صناديق الاقتراع في الانتخابات المحلية والبرلمانية. وعندما يحصل الخطأ او حتى المخالفة والجريمة، نرى الجميع ينفي علاقته بالموضوع، كما لو أنه لا يعرف من ارتكب جريمة الاختلاس او السرقة او هدر المال العام من قبل، "فما عدا مما بدا".

في جميع بلاد العالم نسمع وقوع أخطاء فادحة في الاقتصاد والسياسية وغيرها، لكن لانجد ردود فعل مشابهة لما عندنا في العراق، والمصادر الخبرية تعجّ باخبار الفساد الاداري والمالي في معظم بلاد العالم، حتى المتقدمة منها، والمؤسسات والمنظمات العالمية، كان آخرها في الاتحاد العالمي لكرة القدم. ونسمع عن توجيه انتقادات للمسؤولين في جميع انحاء العالم، حتى الشتم والكلام العنيف من قبل الناس في الشوارع، وحتى في أروقة الحكم، بينما عندما نسمع عن انتقاد الناس لمسؤول ما في العراق، فانه يعني في نظرنا نهاية هذا المسؤول، بما يعني أن يكون شبه معصوم عن الزلل والخطأ.

وهذا بالطبع؛ لن يكون بأي حال من الاحوال، تبريراً للخطأ والفشل، إنما المطلوب منّا طريقة التعامل مع هذا الفشل وتصويب الخطأ، حتى لانكون قد كررنا الفشل واستنسخناه من الدوائر الحكومية الى دوائرنا الاجتماعية والثقافية.

اضف تعليق