يمتلك الفقه الإسلامي مخزوناً هائلاً من الأدلّة الشرعية القادرة على تدعيم القانون بالكثير من الأحكام والتشريعات المستجدّة، وهذا المخزون التراثي والتاريخي والروائي يمثل استثناءً فريداً وامتيازاً خاصاً لا تمتلكه الشرائع والدساتير الأخرى.

ومن هنا فإنه يمكن استخراج أي قانون يحتاجه الإنسان في كل أموره الحيوية الصغيرة والكبيرة الشخصية والاجتماعية. ولكن وكما يعتقد البعض فإن هذا الغنى الفقهي الكبير لم يستطع أن يواجه مشاكل العصر ويتوافق معها، والسبب في ذلك حسب كلام هذا البعض هو عدم وجود تدوين قانوني واضح للفقه الإسلامي يمكن من خلاله الوصول إلى القانون المراد بشكل سريع ومفهوم ويسير. وهنا يُطرح هذا التساؤل هل فعلاً يحتاج الفقه الإسلامي إلى تدوين قانوني وما هي الآثار الإيجابية والسلبية لذلك؟

أما المؤيدون لتدوين الفقه الإسلامي فإنهم يعتقدون أن الصياغة القانونية للفقه الإسلامي لا تتناسب مع العصر الحالي وأنّ «تقنين أحكام الشريعة الإسلامية هو الوسيلة الحديثة الآن لتطبيقها، وتقنينها يعني جعلها قانوناً وهذا يتطلّب صياغتها في صورة قواعد عامة مجردة تنظم سلوك الأشخاص في المجتمع وإلزام الناس بالعمل ككل قانون»(1).

ويعدّد أصحاب هذا الاتجاه مزايا لهذا التقنين منها:

أ/ إن التقنين هو خلاصة ما يمكن العمل به من الأدلة والأحكام بشكل مناسب.

ب/ التقنين تحديد لأبعاد الحكم الشرعي وبيان لمسايرة الشريعة الإسلامية لمصالح العباد وصلاحيتها لكل زمان ومكان ويستطيع الفقهاء المحدثون تحديد أحكامه بالنسبة للصور المستحدثة وهكذا نجد التقنين استكمالاً للبناء الفقهي الإسلامي.

ج/ هذا التقنين يتيسّر على الفقهاء شرحه ومقارنة أحكامه بغيرها من المذاهب المختلفة فضلاً عن اشتغال آلاف القضاة والمحامين والطلبة بدراسته وفي هذا تيسير لدراسة وتدريس الشريعة الإسلامية.

د/ هذا التقنين يسهّل على المحاكم تطبيق الشريعة الإسلامية ويقطع دابر احتمال التضارب في الأحكام. ويعاون القاضي والفقيه وكل مشتغل بالقانون على الاهتداء إلى القاعدة القانونية في يسر وسهولة.

هـ/ هذا التقنين يسهّل على الأفراد التعرّف على أحكام الشريعة الإسلامية فلا يتيهون بين الآراء الكثيرة الموجودة في كتب الفقه الإسلامي والتي لا يعرف راجحها من مرجوحها إلا المتخصّص فيها.

و/ عدم تقنين أحكام الشريعة سيدفع حكام المسلمين إلى اقتباس القوانين الأجنبية لتنظيم شؤون الدولة.

ز/ يؤدي التقنين إلى حسن سير الجماعة نتيجة إلمام الأفراد بقواعد القانون وتطبيقها على علاقاتهم الاجتماعية المختلفة(2).

وقد تكون هناك إيجابيات تستحق الدراسة لعملية تقنين الفقه الإسلامي ولكن تظهر هناك بعض السلبيات التي تضع شكوكاً في طريق التدوين، أول هذه الشكوك أن التدوين يغلق باب الاجتهاد عندما يحصر القانون بقاعدة واحدة مدوّنة لا يمكن مناقشتها، وقد قام الفقه الإسلامي وتكوّن وتجدّد على ضرورة الاجتهاد. وكذلك فإن في الفقه الإسلامي قواعد متغيرة تتطابق مع وقائع تختلف حسب الظروف الزمانية والمكانية والاجتماعية والنفسية وقد لا يمكن للقاعدة القانونية أن تتأقلم مع تغير الظروف أحياناً، وهذا يعني جمودها وعدم مرونتها في قبول المستجدّات، وقد يعني كذلك حرفية النص المدوّن والالتزام بما هو مدوّن فقط بينما المهم هو روح القانون لا نصه.

أما ما هو رأي الإمام السيد محمد الشيرازي في عملية تقنين الشريعة وهل يرى صحة ذلك وماذا نستكشف من خلال قراءتنا لـ(الفقه القانون)..؟

يرى سماحته أن تقنين الشريعة على الأحكام الكلية والنصوص الثابتة لا فائدة منه وذلك لعدم وجود الحاجة وأنّ طبيعة القانون الإسلامي وآليته تجعله في غنى عن التقنين والتدوين، وحينئذ «لا قانون أساسي في الإسلام غير نصوص القرآن الكريم والسنّة المطهرة التي لا تقبل التغيير والتبديل مثل: (وإنّ هذه أُمتكم أمّة واحدة) و(إنّما المؤمنون أخوة) و(أُحلّ الله البيعُ) و(لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل) و(الناس مسلطون على أموالهم) و(الناس كأسنان المشط سواء).

وهذه النصوص مستغنية عن التدوين لعدم الحاجة لتدوينها وجعلها قانوناً أساسياً لأنها موجودة في الكتاب والسنة فجعلها قانوناً أساسياً عبارة عن وضعها في مكان واحد. وأنها أيضاً بين عام ومطلق وما أشبه ولها تخصيصات وتقييدات واستثناءات بالأحكام الثانوية كالاضطرار ولا ضرر وقاعدة الأهم والمهم وما أشبه مما يجعلنا في غنى من التدوين والتقنين».

ويكشف سماحته عن السلبيات التي ترافق عملية التقنين قائلاً: إذا لم يكن نص وكان من الاستنباط فأي حق للدولة في فرض استنباط فقيه أو فقهاء على طول الخط، فإذا مات أولئك الفقهاء جاء فقهاء آخرون فما هو الدليل العقلي أو الشرعي في لزوم اتباع الدولة أو الناس المقلّدين لفقهاء آخرين. نعم من يريد أن يشايع الغرب يبتلي بالخطأ العقلي من جهة وضع القانون كما يبتلي بالخطأ الشرعي من جهة عدم الحاجة إذا كانت نصاً أو الجمود إذا كانت استنباطاً(3).

إذن الإمام الشيرازي لا يرى صلاحية تقنين القانون الإسلامي لأن ذلك يعني تقييدها عن المرونة والاجتهاد والتطوّر لذلك «فليس من الحق وضع القانون الأساسي الذي معناه تجميد الاســـتنباط وحـــصره على جــــماعــــة خاصة من الـــفقهاء إلا إذا كان من نصوص الشريعة غير القابلة لمختلف الاستنباطات المستقبلية»(4).

ولكن الإمام الشيرازي لا يرفض عملية التقنين رفضاً مطلقاً وإنما يرفضها على مستوى التقنين التشريعي الذي يندرج ضمن إطار القانون الأساسي. أما التقنين الذي يكون في إطار عملية الاجتهاد وتطبيق الكليات على الجزئيات فإنه يراه مناسباً ومفيداً ولكن بشروط، منها:

أن يكون التقنين من قبل شورى الفقهاء المنتخب من الأمة أو المجالس الاستشارية والحكومية المنتخبة انتخاباً حراً.

وأن لا يكون لــلتقنيـــن صفة الـــدوام والثبــات بل يحق لمجلس الفقهاء الحالي الاجتهاد فيه وتغييره، وأن يحق لأي مجلس لشورى الفقهاء الذي ينتخب في المستقبل بعد هذا المجلس تغيير هذه التقنينات حسب اجتهاداتهم. لذلك يقول سماحته: لا قوانين تشريعية من صنع البشر عند المسلمين وإنما يصح عندهم القوانين التطبيقية، أي تطبيق كليات الشريعة الإسلامية على الموضوعات كتطبيق كلي لا ضرر على الشيء الفلاني أو تطبيق (أوفوا بالعقود) على عقد التأمين.

ويطلق سماحته على القوانين التطبيقية لفظة القوانين التأطيرية في قبال القوانين الوضعية التشريعية، حتى تنتفي شبهة جواز الوضع التشريعي لأن الوضع في القانون الإسلامي لا يجوز إلا في القوانين التأطيرية التي تؤطّر الجزئيات والفروع في إطار الأحكام الكلية الثابتة وغير القابلة للتغيير أو التشريع، وذلك «لأنّ القانون على قسمين: القوانين الكلية التي جعلها الشارع وهي لا تتغير ولا تتبدّل إلا بتغير الموضوع أو التغير من القوانين الأولية إلى الثانوية أو بالعكس، والثاني القوانين التأطيرية التي يحدّدها شورى المرجعية بسبب اختلاف الأزمنة والأمكنة مما يستفاد من الكليات الشرعية أو مجلس الوزراء أو مجلس الأمة أو مجلس الأعيان أو أية جهة أخرى لها الصلاحية حسب التطبيقات الزمنية»(5).

لذلك يضيف سماحته قائلاً: «إذا وضع شورى الفقهاء قانوناً يمنع الاستيراد للبضاعة الفلانية من خارج بلاد الإسلام وذلك تطبيقاً لقانون لا ضرر ثم شك في حدود البضاعة التي منع استيرادها وقد تبدل فقهاء الشورى فإن الأمر يرجع إلى فقهاء الشورى الجدد وإلى انهم هل يرون تطبيق لا ضرر في كل أقسام تلك البضاعة أو بعض أقسامها»(6).

ولكن الإمام الشيرازي لا يكتفي بهذه الشروط في عملية التقنين التأطيري للموضوعات والجزئيات التي اجتهد فيها فقهاء الشورى، وإنما يضع شروطاً أخرى تندرج في إطار الآية القرآنية: (يريدُ اللهُ بِكُم اليُسرَ ولا يُريدُ بِكم العُسرَ) حيث يقول سماحته:

الأول: أن تكون القوانين قليلة مهما أمكن فإن طبيعة البشر لا تتحمّل القوانين الكثيرة فيكون تكثير القوانين مدعاة لنقضها وعدم الاعتناء بها.

الثاني: أن تكون القوانين خالية عن القيود والشروط والاستثناءات مهما أمكن.

الثالث: أن لا تكون معقّدة بحيث يكون فهمها في متناول عامة الناس لأن المراد فهمهم وعملهم، ولذا قال سبحانه (بِلسانٍ عربيّ مبين)، وقال (ص): «إنّا معاشر الأنبياء أُمرنا أن نكلم الناس على قدرِ عقولهم».

الرابع: أن يكون موجز الأسلوب ويسمى في الشريعة بفصل الخطاب.

الخامس: أن يكون وضع القانون حسب الواقع المعاش لا حسب الفرض الممكن.

السادس: أن يضع القانون لمطلق الناس لا لنسبة خاصة من الناس بهذا الشكل المتعارف في الدول.

السابع: أن يكون القانون واضح المعالم والحدود من حيث الأول والآخر والسّعة والضيق.

الثامن: أن يتجنب في القانون ذكر العلل لأنه يوجب التشويش والشك في أنه هل المعيار العلّة أو القانون.

التاسع: تبديل ما يمكن من القوانين العسيرة إلى القوانين اليسيرة فإذا كان بالإمكان وضع القانون على كل من الصورتين لزم وضعه على الصورة اليسيرة.

العاشر: عدم الإقدام في وضع القانون إلا بعد النضج الكامل في ذهن المقنن وذلك بتقليب وجوه الآراء واستعراض التجارب والاستشارة التامة(7).

وأخيراً: فإن قراءة كتاب (الفقه القانون) لا يمكن أن تتم بإسهاب وتفصيل لكثرة القضايا المستجدة والدقيقة المذكورة فيه لهذا لم تكن قراءتنا إلا قراءة موجزة لبعض الكتاب وليس كله. فهناك الكثير من القضايا المهمة التي تطرّق إليها الإمام الشيرازي كقانون العقوبات في الإسلام والقانون الدولي والقضاء وقانون لا ضرر والحقوق والمنازعات، إضافة إلى قضايا أخرى أغنت الفكر الإسلامي والقانوني برؤى واجتهادات عديدة تعبر عن تلك الروح التجديدية التي اصطبغت ملامحها في معظم كتب الإمام الشيرازي. ولا شك فإن هذا الكتاب يعتبر ثروة كبيرة في المكتبة الإسلامية تغني الكثير من الباحثين الإسلاميين وتعينهم على معرفة التطبيقات الحديثة للفقه الإسلامي. ويستفيد منه الأكاديميون للاطلاع على قدرة الشريعة الإسلامية في بناء القانون عبر تلك الصياغة الحضارية والمتطوّرة التي صاغها سماحته في كتابه.

* مقتطف من مقال نشر في مجلـــة النبــــأ-العددين (23-24)-1419

.................................................

1- مدخل لدراسة القانون: عبد الناصر العطار، ص45.

2- مدخل لدراسة القانون: عبد الناصر العطار: ص47.

3- الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي، ص175.

4- الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي: ص12.

5- الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي: ص337.

6- الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي: ص298.

7- الفقه القانون: الإمام السيد محمد الشيرازي: ص299.

اضف تعليق