لا يمكن تصور أن يعيش الإنسان في كهف منعزل عن العالم، ولا يمكن تحقيق وجود انساني سليم دون أن ندرك الوجود الاجتماعي بكل صوره، فالإنسان خلق تكوينا ليعكس صورة الآخرين في أفكاره وسلوكياته وتنشئته، وكذلك وجد لكي يؤثر في الآخرين من خلال تجسد نفسه وروحه مع الآخر فكراً وأخلاقاً؛ فلا يمكن تصور البعد الإنساني إلا من خلال تماثله الاجتماعي وانعكاس الآخر فيه، وقد قال الإمام أمير المؤمنين(ع): الناس صنفان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق.

إن القول بأن الإنسان حيوان اجتماعي لايعني وصف طبيعته بأنها عارضة طارئة بل هي جوهرية تميز كنه ما هو بشري، فنحن لا نستطيع أن نكتفي بالحياة مجرد الحياة، ولا نستطيع أن نواصل وجودنا كبشر دون روح المعاشرة الاجتماعية، وفي هذا يقول مورييس جودليير: إن البشر نقيض الحيوانات الاجتماعية الأخرى حياتهم ليست مجرد حياة في مجتمع وانما هم ينتجون المجتمع ليعيشوا فيه(1).

ولهذا لا يمكن للفرد أن يرى تحقق نفسه وفكره الا من خلال مرآة الآخرين؛ إذ إن الكثير من الأفكار هي قواسم مشتركة تبرز عبر الإدراك الجمعي التفاعلي، فالفرد يستطيع أن يكتشف علاقاته في الحياة من تواصله المشترك مع الآخرين، ونحن لا نستطيع أن نعرف أنفسنا إلا إذا عرفنا أنفسنا في علاقاتنا بالآخرين(2).

وروي عن الامام محمد بن علي الباقر (ع): (صلاح شأن الناس التعايش والتعاشر).

فكيف يمكن للفرد أن يحقق وجوده الاجتماعي ما لم يكن منفتحا على الآخرين ومتواصلا معهم من مجتمعه الصغير إلى المجتمع العالمي الكبير خصوصا عندما تترابط المصالح والافكار بشكل معقد؟.

ويحصل الاحتياج إلى الآخر في الإنسان بشكل واضح من خلال نمو الإنسان المعرفي وحاجاته الفكرية والعلمية، فالفرد منذ بدايات تكوينه الجنيني تتحرك فيه دوافعه لتلقي المعرفة من الآخرين وينشأ تدريجياً على ذلك، فالآخر هو اندماج حتمي مع الذات وتوكيد لوجوده الخارجي والإنساني، وفي ذلك تؤكد كاترين لوجوثيتي بأن الطفل حديث الولادة يمكنه أن يحاكي تعبيرات الأشخاص، وأن يتبادل معهم المشاعر، إذ إن الذكاء الثقافي البشري مؤسس على مستوى ترابط العقول أو الذاتية المشتركة على نحو لا نجده لدى الأنواع الأخرى، ويكشف ذلك عن قوى وحاجات عامة وشاملة للعاطفة والتواصل والتي تعد ضرورة لازمة للتنشئة الاجتماعية السوية وللنمو المعرفي السوي(3).

ويفيد نمو مخ الطفل من الانفعالات المتولدة عن مثل هذا التواصل، إن الطفل لديه في عقله تنظيم ثنائي من (الذات+ الآخر) وإن هذا التنظيم مهيأ للتواصل مع المشاعر التي يعبر عنها طرف آخر حقيقي(4). لذلك فان معارف الانسان والمجتمعات والحضارات لا تنمو ولا تتطور إلا من خلال انفتاحها على الآخرين، وتواصلها مع الثقافات الأخرى، لأن الانفتاح يعطي قدرة متشكّلة من جانبين لقراءة أفكار الآخرين؛ والاستفادة منها، وقراءة أفكار الذات من خلال ما يفرزه الاحتكاك الإيجابي من انعكاس متبادل على الفكر.

فالعلم لا ينمو بالانقطاع والانغلاق بل العلم يحيى ويتكامل من خلال اتصاله وانفتاحه؛ إذ بالتفاعل يتحقق الإبداع، ويتحرك التنافس الإيجابي، وتنفتح آفاق جديدة للفرد مجتمعا وحضارة، وهناك روايات كثيرة تؤكد هذا المعنى العميق لمفهوم العلم والمعرفة، فعن الإمام علي بن أبي طالب(ع): (كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فانه يتسع به). وعن رسول الله (ص) قال: (كلمة الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها). وقال الإمام الحسن بن علي (ع): (علّم الناس وتعلّم علم غيرك فتكون قد اتقنت علمك وعلمت ما لم تعلم).

ويعتمد مقدار تقدم المجتمعات على مستوى تواصلها الواعي مع الحضارات الأخرى، فكلما كان تواصلها مستمراً على الاستفادة من إيجابيات الآخرين، كلما كانت اكثر قدرة على تحقيق النمو الحضاري المطرد، ولهذا فإن الرصيد الإنساني الحضاري ما هو إلا محصلة عطاء روافد الحضارات المتعددة بل المفروض أن حضارة أي مجتمع إنما تثري نفسها بالاحتكاك والتفاعل مع الخصوصيات الحضارية للمجتمعات الأخرى(5). يقول تعالى في كتابه الحكيم: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات)(المائدة48).

فالحياة تكوين قائم على الانفتاح الإنساني لتحقيق التواصل الاجتماعي والتعايش البشري المراد لبناء مجتمع إنساني يحقق الغايات الإنسانية في الاهتداء والتكامل؛ ذلك أن التكامل هو عملية تفاعل متبادل تتحقق بعد ذلك التقارب والتفاهم، للتوصل إلى غايات مشتركة تقود نحو التعايش السلمي، وضمان الحقوق والمصالح المشتركة، بعيداً عن الصدام والنزاع والحرب. يقول الرسول (ص): (رأس العقل بعد الإيمان بالله التحبب إلى الناس).

فالانفتاح هو ضرورة حيوية يفرضها الواقع الحتمي لاجتماعية الإنسان من أجل تحقيق الاتفاق المشترك من أعلى مستوياته وصولاً إلى الاتفاق العالمي المشترك، لان الانغلاق سوف يبدد القواسم المشتركة ويجعل الحياة على الكرة الأرضية مجرد جزر منعزلة عن بعضها، تعيش في أكثر أحيانها الحرب والقتال، كما إن هذا الأمر ينطبق على الإنسان نفسه عندما يتعامل بانغلاقية مع الآخرين، وقطيعة تؤدي إلى فقدان الاتفاق المرجو لتحقيق الوجود الاجتماعي السليم.

* مقتطف من مقال نشر في مجلة النبأ العدد 56-محرم 1422/نيسان 2001-تحت عنوان: الانفتاح والتواصل ومنحنيات الإصلاح والتجديد

.....................................
(1) مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟، سلسلة عالم المعرفة 229، ص 19.
(2) مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟، سلسلة عالم المعرفة 229، ص20.
(3) مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟، سلسلة عالم المعرفة 229، ص90.
(4) مايكل كاريذرس، لماذا ينفرد الانسان بالثقافة؟، سلسلة عالم المعرفة 229، ص92.
(5) حسين معلوم، مجلة الفكر العربي ص183 العدد 93.

اضف تعليق