q

كنت عازماً على تسليط بعض الضوء على حياة الامام الحسن المجتبى، عليه السلام، في ذكرى مولده السعيد، وكنت على وشك الانطلاق نحو نميره العذب لنستفيد من عبرة واحدة من جملة عِبر؛ بأن نتعلم كيف نكون "أصدقاء حقيقيين" ولكل الفصول، لا نبدّل ولا نغيّر، كما فعل بعض المقربين من الإمام في محنة "الهدنة"، بيد إن ما بلغني من واقع طلبة الاعدادية ومحنتهم مع امتحان "البكلوريا"، دفعني لتأجيل الحديث عن الامام المجتبى، مع حبي الشديد لهذا الامام المظلوم، وكلي يقين بأن تسليط الضوء على ظواهر سلبية معينة، تمثل امتداداً لرسالة الإصلاح والتغيير التي حملها الامام الحسن لنا وللاجيال.

لقد بلغ الاستضعاف بطلبتنا حدّاً أن يتوسّلون بالرموز المقدسة للنجاح في امتحانات البكلوريا، سواء السادس الابتدائي او السادس اعدادي، والسبب الاساس، حسب معطيات عديدة وشواهد دامغة، يعود الى منهج التصحيح و اسلوب الاساتذة الموكلين بهذه المهمة.

ولا يخفى على أحد ممن يضم في كنف أسرته واحد او اكثر من طلبة البكلوريا، ما يبذلوه من جهود مضنية استعداداً ليوم الامتحان للحصول على الدرجة المطلوبة، وبات من المعروف تعبئة الآباء قدراتهم المالية لمساندة ابنائهم وبناتهم من خلال توفير افضل الاساتذة في دروس خاصة خارج المدرسة؛ وبعد مشوار طويل من الضغوط النفسية والجهد الذهني وإنفاق الملايين على الاستاذ وملزمته ووسيلة النقل على قاعته الخاصة، تنحصر كل هذه الجهود والاتعاب عن مضيق واحد وعسير أسميه "التصليح المركزي" في العاصمة بغداد، فيأتي الدفتر أمام الشخص المكلف بهذه المهمة، ليتحول الى همّ ثقيل أشبه بالحجارة من جبل كبير من الاحجار التي عليه ان يتلاقفها الواحد بعد الآخر، فلا يجد الوقت في التدقيق او ملاحظة الاجوبة وكيفيتها، فيكون التصحيح بالتقدير احياناً، ومن النظرة السريعة احياناً اخرى. فتضيع جهود وتموت آمال وأحلام في هذه الدفاتر البائسة.

هذه السنة حملت مفاجأة جديدة لـ "الاساتذة" المكلفين بالتصحيح في وزارة التربية، تمثل محاولة "صدمة" علّها تترك أثرها، فقد جاء في بعض الدفاتر عبارات يقسمون عليهم بأن يساعدوهم بالنجاح: "محملة فقط تاريخ الحسين عليك نجحني"! "استاذ عليك العباس نجحني من الدور الأول علمود أفرح قلب بابا وماما"! وآخر يستميح الاستاذ المصحح عذراً لأن "خطي موزين"! ولعلّها تكون موازية في تأثيرها لبرنامج "الصدمة" على الشاشة الصغيرة، وإسقاطاتها الاجتماعية والنفسية على المشاهد العربي.

بصرف النظر عما قد يفسر هذا التوجه من بعض الطلاب على أنه نوع من التعويض على القصور في استيعاب المادة وعدم التحضير الجيد للامتحان، بدليل عبارة "المساعدة"، بيد أن القصور الآخر الموجود في بعض لجان التصحيح – ونقول البعض حتى لا نبخس الناس أشيائهم- هو الذي يدفع الطلاب لأن يقسموا عليهم بالمقدسات بأن ينتبهوا قليلاً على الأجوبة ويأخذوا بنظر الاعتبار الجهود المبذولة قبل موعد الامتحان (البكلوريا)، فمستويات الاستيعاب والذكاء متفاوتة بين الطلاب، بين جيد جداً وجيد ومقبول، وهكذا... فليس من العدل والانصاف تضييع جهود الطلبة بجرة قلم سريعة، او تطبيق المثل العراقي؛ "حرق الاخضر بسعر اليابس".

والشاهد على ذلك؛ نتائج امتحانات العام الماضي التي بلغت فيها مستويات الرسوب حدّها الفظيع في مدينة كربلاء المقدسة على سبيل المثال لا الحصر، ففي بعض المدارس بلغت نسبة النجاح اقل من خمسين بالمئة للمرحلة الاعدادية وكذلك الحال بالنسبة للسادس الابتدائي، والسبب من جملة اسباب؛ في التصحيح غير الدقيق، وربما في الجانب الاداري الذي يجب ان تتكفل به الوزارة، فقد حصلت كوارث مريعة أودت بآمال كبيرة للطلاب وغيرت مصائرهم ومسار حياتهم، فمن التخطيط للوصول الى الاختصاص الذي يناسب الفتاة في المجالات الطبية، اضطررن البعض لأن تقبل بالهندسة، او ان تقبل بما دون ذلك في كليات اخرى، مثل الادارة والاقتصاد وذرف الدموع على كل تلك الجهود والامكانات المبذولة والضغوطات العائلية والنفسية والمعيشية.

إحدى الطالبات من مرحلة الاعدادية، انتابها الشك في التصحيح، فاستدعت والدتها وهي مدرسة، فتابعت الموضوع وأوضحت للمسؤولين في المحافظة بأن النتيجة لا تتوافق مع مستوى ابنتها ومستوى الدرجات في الامتحانات الشهرية، فكان الجواب المعتاد؛ النتائج متطابقة ولا مشكلة، وإن كانت، فهي في بغداد.

ذهبت الأم الى بغداد وتجشمت عناء الوصول الى قلب الحدث وصنّاعه، وأصرّت على البحث عن الدفتر الامتحاني لابنتها حتى وجدته، وكشفت فيه خطأ التصحيح، ووضعت الجميع أمام الامر الواقع، فما كان منهم إلا ان يلوذوا بالصمت دون أي تغيير في النتائج لانها – حسب قولهم- تم تثبيتها في السجلات...

في هذه الايام تحديداً من شهر رمضان المبارك، ينهمك الاساتذة ضمن لجان وفرق متعددة لتصحيح نتائج امتحانات البكلوريا في العاصمة بغداد، وعلينا تقديم الشكر والتقدير لهم جميعاً – دون استثناء- على جهودهم المضنية والتعامل مع عشرات الآلاف من الدفاتر الامتحانية القادمة من جميع انحاء العراق، وربما تكون المهمة أصعب في أجواء الصوم، مع هذا وغيره، فان الدعوة لمزيد من الحرص والانتباه موجهة الى جميع الاساتذة الافاضل في لجان التصحيح، مع علمنا بأن الجانب الاداري له دور مهم ومؤثر للغاية في تحقيق النتائج المرجوة، فقد بين احد الاساتذة واحد من اسباب وقوع المصحيين في الخطأ، كونهم من غير الكادر التدريسي للصف السادس الاعدادي، وإنما من الرابع او الخامس الاعدادي الذي يصعب عليه فهم الاجوبة الخاصة ببضع المواد العلمية ذات الحلول المتعددة، فيكون المطب عند هذا المنعطف تحديداً، بمعنى أن تتكفل الدولة بتوسيع نطاق لجان التصحيح واختيار الأكفاء لهذه المسؤولية الكبيرة ذات المدخلية في مصير الجيل الجديد والواعد.

اضف تعليق