لم يعد خافيا ولا صعبا ادراك ان العراق يواجه اخطر ازمة في علاقاته مع امريكا منذ 2003 تجلّت في جانبين رئيسيين هما الامن والاقتصاد. وبما اني من انصار المدرسة (وليس الفلسفة) البراغماتية في السياسة فساحاول هنا تقديم رؤية لما اعتقده ممكنا في كيفية ادارة الازمة مع امريكا في هذين الجانبين استنادا الى مبادىء السلوك السياسي...

لم يعد خافيا ولا صعبا ادراك ان العراق يواجه اخطر ازمة في علاقاته مع امريكا منذ 2003 تجلّت في جانبين رئيسيين هما الامن والاقتصاد. وبما اني من انصار المدرسة (وليس الفلسفة) البراغماتية في السياسة فساحاول هنا تقديم رؤية لما اعتقده ممكنا في كيفية ادارة الازمة مع امريكا في هذين الجانبين استنادا الى مبادىء السلوك السياسي.

لا يختلف السلوك السياسي عن السلوك الانساني في اعتماده على مبداين يحكمان عمله. على الرغم من وجود كثير من مبادىء واليات السلوك الانساني، وبالتالي السياسي الا ان (الثقة والمصلحة) يتربعان في رايي على قمة كل المبادىء الاخرى. فالاول (الثقة) يمثل «الشاصي» او الجسم الساند لاي علاقة سلوكية،والثاني(المصلحة) يمثل «محرّك» العلاقة ودماغها التشغيلي.

فبدون توفر الثقة في الطرف الاخر سيكون الشك هو سيد العلاقة وسيتم النظر لاي سلوك من قِبلَه بانه سلوك غير موثوق، وربما مؤذي للطرف المقابل. مع ذلك فاذا شعرنا ان هناك مصلحة في ادامة علاقة جيدة فسوف نسعى بكل الطرق لادامة تلك العلاقة رغم انها «غير موثوقة»، لان الخسائر المترتبة على فقدان العلاقة هي اكبر بكثير من المكتسبات المادية والمعنوية الناجمة عن قطع العلاقة نهائيا. انت احيانا قد تفقد الثقة بشريكك او تهتز الثقة به، لكنك تشعر ان خسائرك ستتضاعف اذا قطعت العلاقة معه تماما.

نظام سابق

لقد مرت العلاقة الاميركية-العراقية بعدة مراحل منذ 2003 تباينت خلالها مقادير (الثقة والمصلحة) المقدَّرة من قبل كل طرف بالاخر. فمن الجانب العراقي شعر معظم ساسة العراق الجدد بالثقة باميركا كونها اطاحت بالنظام السابق، كما شعروا بالمصلحة في ادامة علاقة ممتازة معها ما دامت القوة العظمى التي لم يستطع احدا الوقوف بوجهها حينما ارادت اسقاط نظام صدام.

قابل ذلك شعور امريكي مماثل بالثقة في شخوص النظام الذين اختارتهم لادارة العراق الجديد، كما كانت تعلم ان لديها مصلحة استراتيجية في ادامة علاقة مميزة بالنظام العراقي. لكن ونتيجة ظروف كثيرة (عراقيا وامريكيا واقليميا وحتى دوليا) يعرفها كل من عاصر مراحل الاحتلال الامريكي بدات الثقة، وهي الاساس كما قلت لاي علاقة، بالاهتزاز بين الطرفين حتى وصلوا لاتفاق الانسحاب الاميركي من العراق.

مع ذلك فقد ظل قسم كبير (وليس كل) من ساسة العراق يدركون ان لديهم مصلحة مهمة في ادامة علاقة جيدة مع امريكا. على الجانب الاخر فعلى الرغم من تباين تقييمات الادارات الامريكية المختلفة للثقة بالنظام العراقي وحكوماته المتباينة، الا ان كل الاستراتيجيين الاميركان، ومعهم معظم ساسة امريكا كانوا يدركون،ولاسباب كثيرة، ليس محل تفصيلها هنا،اهمية العراق لهم والخسارة الاستراتيجية الكبرى لفقدان نفوذهم عليه. ان كل ما يحصل من توترات وتداعيات امنية واقتصادية بين الطرفين الان هو حصاد لاهتزاز (الثقة) وبقاء (المصلحة) لاستمرار العلاقة.

فعلى صعيد الاقتصاد العراقي والعقوبات التي فرضتها امريكا على البنوك والمؤسسات العراقية. تعالت الصيحات ان الاميركان لا يقدمون ادلّة (عدا في حالات محدودة) على تورط البنوك المعاقبة بعمليات غير قانونية تستوجب معاقبتها. ويستغرب البعض لماذا لم تتم معاقبة البنوك الوسيطة (او المراسلة) والتي تنتمي لجنسيات غير عراقية وتمر من خلالها كل عمليات التبادل الدولاري العراقي مثلما عوقبت البنوك العراقية. الاجابة ببساطة لانه لا تتوفر الثقة الاميركية بالعراقيين، مع انه توجد مصلحة اميركية مدركة في اهمية ادامة العلاقة معهم. لذا لا يريد الاميركان ان تتم معاقبة الاقتصاد العراقي بمثلما عوقبت اقتصادات اخرى في العالم والمنطقة (ايران وروسيا مثلا) ويضعون سقفا محدودا للعقوبات.

عقوبات اقتصادية

هذا يعني انه يمكن للاميركان سواءً الادارة الحالية او القادمة ان يقرروا ان العراق بات حالة مياوس منها وبالتالي يستحق عقوبات اقتصادية اشد، وهنا قد تقع الكارثة الحقيقية. والسبب في تسميتها بالكارثة هو هشاشة الاقتصاد العراقي الريعي. فبخلاف ايران وروسيا مثلا، فان اكثر من 90 بالمئة من عائداتنا تعتمد على النفط والذي يسعر بالدولار. كما ان العراق يكاد ينتج صفر من كل شيء وهو مضطر لاستيراد معظم احتياجاته وبالدولار الامريكي.

اما على الصعيد الامني فيبدو المشهد مماثل للاقتصادي، ان لم يكن اكثر سوءً. فعلى الرغم من الاميركان لهم ثقة اكبر بالجيش العراقي باعتبارهم هم من نظّموه وسلّحوه ودرّبوه لكنهم فاقدي الثقة بكل ماعداه من وحدات عسكرية او شبه عسكرية. ومع ادراك الجيش الامريكي لمصلحته الاستراتيجية في ادامة العلاقة مع العراق سيبقى ينظر للعراق كمنطقة رمادية Gray Zone حيث انها مهمة له لكنها غير موثوق بها. هذا يفسر الضربات المحدودة وغير الشاملة للاميركان وتقبلهم احيانا لخسائر محدودة نتيجة مهاجمة المجاميع العراقية المسلحة لها.

لكن اذا قرر الاميركان ان العراق بات منطقة مياوس منها (حمراء) مما يعني عدم وجود مصلحة لهم في البقاء فيها، فسيضيفون ذلك الى عامل عدم ثقتهم بالعراق مما قد يؤدي الى قرارات استراتيجية عسكرية ترفع كثيرا من سقف ووتيرة الهجمات الاميركية، فضلا عن ايقاف الدعم الاستخباري واللوجستي والتدريبي للجيش العراقي بخاصة في مواجهته اللا نهائية مع داعش.

ان الحل الامثل للتعامل مع اميركا هو اولا القرار هل نريدها حليف ام عدو، اذ لا يوجد في هذه المرحلة على الاقل اي امكانية لاختيار منطقة وسطى بين الحليف او العدو. فاذا قررنا ان اميركا عدوّة ويجب طردها من العراق فعلينا ادراك التداعيات الاقتصادية والسياسية والعسكرية والدبلوماسية المترتبة على ذلك والاستعداد لتحملها كما فعلت ايران وروسيا وكوريا الشمالية.

اما اذا قررنا ان الوقت لا زال لم يحن لمثل هذا القرار فعلينا ادراك انه على الرغم من صعوبة استعادة الثقة بالنظام السياسي فانه يمكن على الاقل ادامة المصلحة بين اميركا والعراق. هنا على الحكومة العراقية ان تدرك المجالات التي في مصلحة العراق ادامتها بل تعزيزها مع اميركا وكذلك المجالات التي لا يمكن لاميركا ان تتنازل عن مصلحتها مع العراق فيها.

فاذا عرف كل طرف ما يريده الطرف الاخر ياتي دور المختصين في كل مجال، بما فيه المصرفي، ليجلسوا على طاولة التفاهم والتفاوض بخصوصه. هذا يعني ان على الحكومة العراقية ان تدرك انها مهما حسنت من شفافية تعاملاتها المالية، اي عززت منسوب الثقة فانها لن تستطيع حل مشكلتها الاقتصادية مع اميركا بدون مراعاة مصالحها الاستراتيجية. كما انها مهما ناقشت وحاورت الاميركان دبلوماسيا او تفاوضت معهم عسكريا فلا يمكنها ان تنهي الازمة دون الموازنة بين مصالح العراقيين والاميركان استراتيجيا.

...........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق