هناك سبب آخر لدراسة الاقتصاد، وهو أنه سيساعدك على اتخاذ القرارات في حياتك الشخصية والمهنية. يشكل الاقتصاد علاوة على جماله الذاتي وتطبيقاته العملية في حياتك الشخصية موضوعًا حيويًّا، لأننا نعيش في مجتمع يعاني التدخل الحكومي. وعلى عكس تخصصات علمية أخرى، فإن تدريس مبادئ علم الاقتصاد الأساسية...

عندما نقول إن الاقتصاد علم، فنحن لا نعني أننا سنجري تجارب لاختبار قوانين الاقتصاد، مثلما يبحث عالم فيزياء نووية نتائج تحطيم أنوية الذرات باستخدام مسرِّع جسيمات. فهناك فروق مهمة بين العلوم الاجتماعية كالاقتصاد، والعلوم الطبيعية كالفيزياء. فالمبادئ الأساسية لعلم الاقتصاد يمكن اكتشافها من خلال الاستدلال العقلي. فليس من المنطقي أن تحاول «اختبار» صحة قوانين الاقتصاد، تمامًا مثلما لا يمكن استخدام مسطرة من أجل «اختبار» صحة البراهين المختلفة التي تتعلمها في درس من دروس الهندسة. 

عمليًّا، يفكر الاقتصاديون المحترفون في جميع أنواع التخمينات، ثم يتبين خطأ الكثير منها لاحقًا. لكن جوهر النظرية الاقتصادية (القوانين والمفاهيم) ليس قابلًا للاختبار، بل هو مجرد وسيلة لرؤية العالم.

وبالرغم من إمكانية الخلط بين علم الاقتصاد وبين العلوم الطبيعية، فإننا نستخدم مصطلح «علم»، لأنه من المهم أن نؤكد على أن هناك بالفعل قواعد موضوعية تحكم علم الاقتصاد. وعندما يتجاهل السياسيون مبادئ علم الاقتصاد، تتحول برامجهم إلى كوارث؛ تخيَّل الفوضى التي يمكن أن تحدث -على سبيل المثال- إن تجاهلت وكالة الفضاء الأمريكية «ناسا» قوانين الفيزياء!

نطاق علم الاقتصاد وحدوده

من المفاهيم المغلوطة الشائعة اعتقاد الناس أن «علم الاقتصاد هو دراسة المال». بالطبع لدى علم الاقتصاد الكثير مما يقال عن المال، والواقع أن أحد الأغراض الأساسية لعلم الاقتصاد هو تفسير اختلاف أسعار كافة السلع والخدمات التي تباع في السوق، والتي تقدَّر بوحدات من المال.

لكن على عكس هذا المفهوم المغلوط الشائع، فإن الاقتصاد أشمل من مجرد دراسة المال فحسب. يمكن تعريف الاقتصاد في أوسع نطاقاته بأنه دراسة عمليات التبادل التجارية. وهذا يشمل كل عمليات التبادل التي تحدث في محيط السوق العادي، حيث يقدم البائع سلعة مادية أو يعرض خدمة لقاء مبلغ مناسب يدفعه المشتري. لكن الاقتصاد يدرس أيضًا حالات «المقايضة»، حيث يتبادل التجار فيما بينهم السلع أو الخدمات مباشرة من دون استخدام المال على الإطلاق.

لا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن الاقتصاد يتناول وبمزيد من التفصيل حالة شخص واحد منعزل يتخذ إجراءات معينة تهدف إلى تحسين وضعه. عادةً ما يُطلق على ذلك «اقتصاد كروزو» نسبة للشخصية الروائية روبنسون كروزو الذي تحطمت سفينته على ضفاف جزيرة بدت مهجورة. عندها سيتبين لنا أنه حتى الشخص المنعزل يتصرف على نحو «اقتصادي» لأنه يأخذ ما تهبه الطبيعة إياه و«يستبدل» بالوضع الراهن بيئةً يأمل أن تكون أكثر مواءمة له.

الفكرة الرئيسية المشتركة بين كل نماذج عمليات التبادل هي فكرة «الندرة». يمكن شرح الندرة باختصار من خلال الإشارة إلى وجود موارد محدودة ورغبات لا حدَّ لها. بيل جيتس نفسه عرضة لأن يواجه «مفاضلات»، فهو لا يستطيع أن يفعل كل ما يحلو له. على سبيل المثال، لو أنه اصطحب زوجته إلى مطعم راقٍ، فهو بذلك يقلل الخيارات المتاحة أمامه (على نحو طفيف للغاية) ويقلل من قدرته على شراء أشياء أخرى في المستقبل. ويمكننا أن نصف هذه الحالة بأن نقول: «بيل جيتس بحاجة إلى أن يقتصد في استهلاك موارده، لأنها محدودة.»

الندرة هي السبب وراء ظهور ما يسميه الأفراد «مشكلة اقتصادية»؛ كيف لنا كمجتمع أن نقرر أي السلع والخدمات ينبغي إنتاجها باستخدام الموارد المحدودة المتاحة لدينا؟ وسنرى كيف أن نظام الملكية الخاصة يطرح حلًّا لهذه المشكلة، مع بقاء «الندرة» السبب الرئيسي وراءها.

إياك أيضًا أن تظن أن علم الاقتصاد يتعامل مع «اقتصادي» افتراضي لا يعنيه إلا اقتناء الممتلكات المادية أو كسب المال. ذاك أحد المفاهيم المغلوطة الشائعة عن جوهر علم الاقتصاد. لكن للأسف، ثمة شيء من الحقيقة في هذه الفكرة الشائعة، لأن العديد من الاقتصاديين يضعون بالفعل نماذج اقتصادية حافلة بشخصيات خيالية تتسم بالأنانية المفرطة ولا تميل إلى الإيثار إلا إذا اضطرت إلى ذلك. 

علم الاقتصاد لا ينصح العمال بقبول أي وظيفة ما دامت تدر أكبر دخل ممكن، ولا ينصح أصحاب الشركات بالتفكير في الجوانب المالية فقط عند إدارة استثماراتهم. لكن ينبغي أن نؤكد في المقام الأول على أنك لن تجد «خبيرًا اقتصاديًّا»؛ فنحن دائمًا نناقش المبادئ التي تفسر اختيارات أشخاص حقيقيين في مواجهة ندرة الموارد. وهذه المبادئ تنطوي على حقيقة مفادها أن لدى الأفراد رغبات تقابلها موارد محدودة، لكن المبادئ الاقتصادية رحبة بما يكفي لأن تغطي أي رغبات لدى الأفراد.

اقتصاد الأشخاص الواقعيين

يتناول علم الاقتصاد التصرفات الواقعية لأشخاص واقعيين. فقوانينه لا تنطبق على أفراد مثاليين أو يتسمون بالكمال، ولا على وهْم اقتصادي أسطوري (إنسان اقتصادي)، ولا على الفكرة الإحصائية للفرد العادي … فالإنسان بكل نقاط ضعفه والقيود المفروضة عليه؛ الإنسان كيفما يعيش ويتصرف هو موضوع علم الاقتصاد.

يدرس علم الاقتصاد كيفية ممارسة الأفراد لعمليات التبادل، ويحاول تفسيرها. فالبحَّار الذي تحطمت سفينته يرغب في أن «يستبدل» ببعض أعواد الحطب وزوج من الأحجار نارًا متوهجة، بينما يرغب عضو في إرسالية تبشير أن «يستبدل» بوقت فراغه رحلةً شاقة إلى غابة نائية لم يسمع سكانها بالكتاب المقدس من قبل. لذا لا بد أن تكون هناك نظرية شاملة تغطي هذه الأنواع المختلفة من عمليات التبادل؛ ليس فقط المثال الشهير لسمسار يستبدل بمائة سهم من أسهم البورصة ألفي دولار أمريكي.

لماذا ندرس الاقتصاد؟

أحد أسباب دراسة الاقتصاد هو أنه ببساطة علم شيِّق. فعندما تتوقف وتفكر فيما يحدث يوميًّا في أي اقتصاد معاصر، حتمًا ستتملكك الدهشة. فكِّر مثلًا في مدينة مانهاتن الصاخبة؛ ملايين الأفراد يعملون على أرض هذه الجزيرة بالغة الصغر التي تقل مساحتها عن ٦٠ كيلومترًا مربعًا. من الواضح أنه لا يُنتَج ما يكفي من الطعام على هذه الجزيرة لإطعام تلك الحشود. للوهلة الأولى، قد لا يصدق بعض القراء أن مانهاتن تضم بعض أرقى المطاعم في العالم! لكن هذه المطاعم الفخمة تعتمد في عملها على موَرِّدين يزودونها بالمواد الغذائية الخام اللازمة لإعداد أطباقها باهظة التكلفة. فلو افترضنا مثلًا أن غزاةً من المريخ أحاطوا مانهاتن بفقاعة بلاستيكية غير قابلة للاختراق (ومزودة بثقوب صغيرة للسماح بالتهوية)، فسيموت مئات الآلاف من سكان نيويورك جوعًا في غضون شهرين على الأكثر.

لكن في عالم الواقع - حيث لا توجد فقاعة بلاستيكية مريخية تحول دون سريان الحركة التجارية - تُشحَن المنتجات الزراعية، والبنزين، وسلع أخرى يوميًّا إلى مانهاتن، بحيث لا تتيح هذه السلع لسكانها أن يسدوا رمقهم فحسب، بل تمنحهم أيضًا عيشًا رغدًا. والعمال على أرض هذه الجزيرة الصغيرة يحوِّلون المواد المتاحة لهم إلى أعلى السلع والخدمات قيمة على الكوكب، مثل المجوهرات باهظة الثمن، والملابس، والخدمات المالية، وخدمات المحاماة، وعروض مسارح برودواي التي تُنتَج جميعًا في مانهاتن. وعندما تتأمل مدى التعقيد الرهيب الذي تتسم به جميع هذه العمليات، ستتعجب من أنها تجري على ما يرام وبمنتهى السلاسة، إلى حد أننا بتنا نعتبره أمرًا عاديًّا.

وهناك سبب آخر لدراسة الاقتصاد، وهو أنه سيساعدك على اتخاذ القرارات في حياتك الشخصية والمهنية. 

يشكل الاقتصاد - علاوة على جماله الذاتي وتطبيقاته العملية في حياتك الشخصية - موضوعًا حيويًّا، لأننا نعيش في مجتمع يعاني التدخل الحكومي. وعلى عكس تخصصات علمية أخرى، فإن تدريس مبادئ علم الاقتصاد الأساسية لعدد كاف من الأفراد ضروري من أجل حماية المجتمع نفسه. لا يهم مثلًا إن كان رجل الشارع يظن أن ميكانيكا الكم ليست سوى خدعة، لأن بإمكان علماء الفيزياء أن يواصلوا أبحاثهم دون الحاجة إلى موافقته على ذلك. لكن إذا ساد بين أغلب الأفراد اعتقاد أن قوانين الحد الأدنى للأجور هي الحل لرفع المعاناة عن كاهل الفقراء، أو أن أسعار الفائدة المنخفضة علاج للركود الاقتصادي، فسوف يعجز الاقتصاديون المحنكون عن تفادي الأضرار التي ستنجم عن هذه المعتقدات. لهذا السبب وجب على الشباب الراشدين تعلم مبادئ علم الاقتصاد.

* مقتطف بتصرف من كتاب: دروس مبسطة في الاقتصاد، لمؤلفه روبرت ميرفي، نشر مؤسسة هنداوي

.....................................

معاني مصطلحات واردة

المقايضة: موقف يتبادل فيه الأفراد السلع والخدمات على نحو مباشر، بدلًا من استخدام النقود في معاملة وسيطة.

الندرة: تجاوز الرغبات المواردَ المتاحة لإشباعها. والندرة واقع عالمي يحتِّم على الأفراد اللجوء إلى عمليات التبادل.

المفاضلات: الحقيقة المؤسفة (الناجمة عن الندرة) التي تقضي بأن قبول خيار ما سيجعل الخيارات الأخرى غير متاحة.

اضف تعليق