q
الاقتصاد هو الركن الثاني لمصادر القوة الاجتماعية، فالعمران البشري كما يقول أبن خلدون يحتاج للتعاون الذي بدونه لا يمكن تحصيل القوت والغذاء اللازم للحياة، ولكي يحصل التعاون البشري فلابد من قوة تنظّم وتوجّه حاجة الأنسان لإستخراج وتحويل وتوزيع واستهلاك ما تجود به الطبيعة أو يخترعه عقله...

يقصد بالسلطة القدرة على جعل الآخرين يفعلون أشياء ما كانوا ليفعلونها بدون وجودها. والسلطة هنا لا تقتصر على السلطة القانونية بل تتعداها الى كل أشكال القوة القهرية أو التعاونية، والرسمية وغير الرسمية، والخاصة أو العامة. يختلف علماء الاجتماع في تحديد مصادر القوة الاجتماعية لكني أتبنى أنموذج مايكل مان Michael Mann الرباعي -الآيدلوجيا، الاقتصاد، الجيش والسياسة- بعد تعريقه ليناسب الظرف الأجتماعي للعراق حالياً.

الاقتصاد هو الركن الثاني لمصادر القوة الاجتماعية، فالعمران البشري كما يقول أبن خلدون يحتاج للتعاون الذي بدونه لا يمكن تحصيل القوت والغذاء اللازم للحياة، ولكي يحصل التعاون البشري فلابد من قوة تنظّم وتوجّه حاجة الأنسان لإستخراج وتحويل وتوزيع واستهلاك ما تجود به الطبيعة أو يخترعه عقله، وهذا بالضبط هو ما يعنيه الاقتصاد. 

ولكي تحصل دورة الانتاج هذه فلا بد من تفاعل العمل مع رأس المال، هذا التفاعل يمكن أن يحصل من خلال قوة سلطوية قسرية (كسلطة الادارة أو سلطة الملكية) أو قوة أختيارية تعاونية تمليها الحاجة الانسانية للتعاون لتعظيم المنافع أو درء المخاطر.

وغالباً ما يتم اللجوء لمزيج من نوعي القوة (القسرية والتعاونية) لانتاج وتوزيع السلع والخدمات الاقتصادية، ان القوة الاقتصادية هي أكثر أنواع علاقات القوة التي يستخدمها البشر يومياً سواء في عملهم أو تبضعهم أو علاقات تبادل المنافع الأخرى، لقد عرف العالم عبر تاريخه أشكال مختلفة من القوة الاقتصادية لم يتبق منها الا نوعين رئيسين هما الاقتصاد الرأسمالي والاقتصاد الأشتراكي الذي تراجعت مكانته وأهميته كثيراً بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. لذا فقد بات الاقتصاد الرأسمالي (بأشكاله المختلفة) هو المهيمن على علاقات القوة في معظم أنحاء العالم. 

يمتاز الأقتصاد الرأسمالي بثلاث خصائص رئيسة هي: 1) أمتلاك القلة للموارد الاقتصادي 2) أنفصال العمل عن الملكية وبالتالي فأن معظم العاملين يستطيعون (نظرياً على الأقل) بيع مهاراتهم وقدراتهم في سوق مفتوح، 3) التعامل مع جميع قوى الانتاج بما فيها العمل ورأس المال كسلع يمكن تداولها في الاسواق، هذه المرونة الكبيرة في الانتاج والعمل أضافة أهمية أكبر لعلاقات الانتاج المحكومة بمزيج مرن جداً من علاقات القوة الأجتماعية.

لذا تطورت وتغيرت أشكال الرأسمالية المؤسسية كثيراً عبر القرون الماضية. فمن رأسمالية تجارية (ميركانتالية) حيث السيطرة للتجارة، الى رأسمالية صناعية حيث السيطرة للآلة، ثم رأسمالية مالية حيث أسواق المال والبنوك هي المسيطرة على النشاط الاقتصادي.

هذا التغيير الاقتصادي يستجلب بالضرورة تغييراً أجتماعياً مماثلاً. ولعل أهم تلك التغييرات يكمن في الحراك الطبقي ضمن المجتمع. هنا لا بد من الأشارة الى أن مفهوم الطبقة الذي تم تبنيه هنا لا يقتصر على المفهوم الماركسي (البورجوازية والبروليتاريا) بل يتعداه الى المفهوم الفيبري (نسبة لماكس فيبر) والذي تبناه حنا بطاطو في موسوعته الرائعة (العراق) والتي أخذت بنظر الأعتبار التمايز الطبقي على أساس الثراء، والملكية، والدين، والطائفة، والعرق وحتى مكان السكن. 

فأينما يكون هناك تمايز وتراتبية وعدم مساواة أجتماعية بين مجموعات بشرية تبرز الطبقية. ونظراً لمحدودية المجال المتاح هنا للتفصيل في مناقشة مفهوم الطبقية فسأكتفي بالمرور السريع على التحولات الاقتصادية الرئيسة في العراق والتي قادت لتغيير في مصادر القوة الاجتماعية فيه.

لقد أدت التطورات الاقتصادية الكبرى التي مر بها العراق منذ تأسيس دولته الحديثة الى تغيرات عمودية في تحديد من هي الطبقات الادنى والأعلى في المجتمع العراقي عبر المائة سنة الماضية، كما شهدت تغيرات أفقية داخل كل طبقة ورافق ذلك كله حركة دخول وخروج واسعة بين الطبقات وضمنها. 

فبعد أن كانت طبقات الملّاك والشيوخ والاغوات هي المسيطرة على القوة الاقتصادية في العراق أبان العهد الملكي الاول، تحولت مصادر القوة والنفوذ بأتجاه كبار الموظفين والصناعيين والصيارفة وكبار الضباط وشيوخ القبائل في العهد الملكي الثاني.

ومع هجرة التجار اليهود مثلاً برزت طبقة التجار الشيعة كما يقول بطاطو. ثم مع أكتشاف النفط وتطور الوضع الأقتصادي برزت طبقة الصناعيين الذين تم القضاء عليهم وعلى ملّاك الأراضي بعد قوانين الملكية الزراعية والتأميم خلال العهد الجمهوري الأول. ثم جاء النظام الأشتراكي البعثي بعد 1968 ليغير من جديد علاقات القوة الأقتصادية ويحصرها بيد الدولة وكبار موظفيها،والحزب وكبار قادته، و(القائد) ومقربيه وحاشيته. 

وشهدت حقبة التسعينات التي تميزت بحصار اقتصادي شامل فُرض على العراق بروز طبقة جديدة من المضاربين والمهرّبين والتجار الذين راكموا ثرواتهم بشكل سريع، لكنه غير مؤثر في القوة الاجتماعية نتيجة هيمنة الدولة المطلقة على الحياة الاقتصادية. ثم جاء الاحتلال في 2003 لا ليغير (فقط) الآيدلوجيا الحاكمة، كما أسلفت فيما سبق، بل ليأتي على كل أسس الدولة ومنها الأساس الاقتصادي.

اضف تعليق