نتامل من المحكمة الاتحادية العليا الموقرة تبديد هذا الاغفال التشريعي في معرض تفسيرها وتصديها لدستورية النصوص ذات العلاقة بالمركز القانوني للمحافظة غير المنتظمة باقليم وتبني تفسيراً يمثل اتجاهاً جديداً يختلف عن التفسير المحايد للمحكمة في توجهها السابق لوضع ملامح واضحة بين اللامركزية السياسية واللامركزية الادارية...

ترتب على تناقض المشرع الدستوري في تحديد المركز القانوني للمحافظات تفاوت في الاجتهاد القضائي إذ صدر عن المحكمة الإتحادية العليا عدة قرارات أكدت فيها على أن المحافظات أحد مكونات النظام الاتحادي وبالتالي فهي تميل الى اعتبارها (وحدة إتحادية) ومن هذه القرارات قرار المحكمة الإتحادية العليا المرقم (89 و91 و92 و93/إتحادية/2017) في 20/11/2017 بصدد دستورية الأمر الإقليمي المرقم (106) في 9/6/2017 والخاص بإجراء الاستفتاء يوم 25/9/2017 في إقليم كردستان والمناطق الاخرى خارج الإقليم للانفصال عن العراق.

حيث أصدرت المحكمة قراراً بعدم دستورية الأمر المذكور وجاء في حيثيات قرارها (… وتجد المحكمة الإتحادية العليا وبالهدف الذي سعى إليه والغرض الذي اجرى من أجله وهو استقلال إقليم كردستان والمناطق المشمولة بالاستفتاء خارج الإقليم عن العراق وإنشاء دولة مستقلة خارج النظام الاتحادي لجمهورية العراق، الذي نصت عليه المادة (116) من الدستور والمتكون من العاصمة والأقاليم والمحافظات اللامركزية والإدارات المحلية..).

هذا وقد كانت المحكمة الإتحادية العليا قد أعطت قراراً تفسيرياً لنص المادة (1) من الدستور بصدد النظام الاتحادي، حيث جاء في قرارها المرقم (122/إتحادية/2017) في 6/11/2017 (… ولم تجد المحكمة الإتحادية العليا من خلال استعراض نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 ودراستها نصاً يجيز انفصال أي من مكونات النظام الاتحادي في جمهورية العراق المتقدم ذكرها وهي العاصمة والأقاليم والمحافظات اللامركزية والإدارات المحلية المنصوص عليها في المادة (116) من دستور العراق في ظل أحكامه النافذة التي تعد ضامنة لوحدة العراق…).

استقراء قرار

ويبدو من استقراء قراري المحكمة الإتحادية العليا سابقة الذكر أنها قد فسرت نص المادة (116) من الدستور تفسيراً محايداً من خلال تفسير النص تفسيراً ليس من شأنه إضافة أو تكميل القصور الذي شابهُ بل بإعادة وتكرار للعبارات الواردة في النص لتأكيد مقاصد المشرع، الا انه بصدور قرار المحكمة الإتحادية العليا المرقم (82/إتحادية/اعلام/2018) في 11/6/2018 الذي قضى بدستورية قانون التعديل الثالث لقانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل والذي تم بموجب هذا التعديل الغاء مجلس الناحية.

عللت المحكمة الإتحادية العليا في قرارها بأن مجلس الناحية لا سند له من الدستور بخلاف وجود (مجلس المحافظة) وان الغاء مجلس الناحية خياراً تشريعياً لمجلس النواب بموجب صلاحياته التشريعية، وفي هذا القرار نجد ان المحكمة الاتحادية العليا قد ذهبت الى التمييز بين المحافظات التي أعدتها أحد المكونات الإتحادية وبين المكونات الإدارية (الاقضية والنواحي والقرى) التي هي إدارات محلية تمثل أسس اللامركزية الإدارية حيث جاء في حيثيات قرارها (… وتجد المحكمة الإتحادية العليا أن التعديل موضوع الطعن لا يمس النظام الاتحادي في جمهورية العراق المنصوص عليه في المادة (116) من الدستور والمتكون من عاصمة وأقاليم ومحافظات لامركزية وإدارات محلية ولا يمس المكونات الإدارية في المحافظات النصوص عليها في المادة (122/أولاً) من الدستور وهي الاقضية والنواحي والقرى التي هي أسس اللامركزية الإدارية وان وجود (مجلس الناحية) في كل ناحية لا أساس له من الدستور…)، ونرى و بالرجوع الى نص المادة (116) من دستور جمهورية العراق لسنة 2005 أن المشرع الدستوري قد اعتبر كل من العاصمة والأقاليم والمحافظات اللامركزية والإدارات المحلية مكونات للنظام الاتحادي ولم يميز أي مكون منهم عن الآخر، إلاّ أن طريقة الإدارة تختلف فالأقاليم تخضع لنظام اللامركزية السياسية في حين ان المحافظة كوحدة إدارية ومكوناتها الإدارية من الاقضية والنواحي والقرى تخضع لنظام اللامركزية الإدارية في إدارتها وهذا ما أشار إليه الدستور في المادة (122/ثانياً) والتي نصت على أن (تمنح المحافظات التي لم تنتظم في إقليم الصلاحيات الإدارية والمالية الواسعة بما يمكنها من إدارة شؤونها على وفق مبدأ اللامركزية الإدارية، وينظم ذلك بقانون)، وايضاً مانصت عليه المادة (2) الفقرات (أولاً) و(رابعاً) من قانون المحافظات غير المنتظمة في إقليم رقم (21) لسنة 2008 المعدل التي أشارت الى إدارة شؤون المحافظات كوحدات إدارية وفق مبدأ اللامركزية الإدارية .

صلاحية المحافظات

وان التناقض الذي وقع فيه المشرع هو توسعة في صلاحيات المحافظات ومنحها صلاحيات تشريعية وتمثيل دبلوماسي وصلاحيات متوازية مع صلاحية الأقاليم من شأنه اخراجها من إطار اللامركزية الإدارية الى نطاق اللامركزية السياسية وهذا يشكل خرق للنظام الفيدرالي ونظام اللامركزية الإدارية في آن واحد، وهذا يقتضي اعادة هندسة النصوص تشريعياً وضبطها وفقاً لأسس اللامركزية الإدارية مع ضرورة اخضاعها لرقابة واشراف السلطة التنفيذية تبعاً لدرجة الاستقلالية التي يقررها المشرع ونفضل أن تكون في البداية محدودة ويمكن توسيعها تبعاً لدرجة النضوج السياسي الذي يؤهل لإدارة محلية شبه مستقلة، الخلاصة وفق وجهة نظرنا ان المركز القانوني للمحافظة ومكوناتها الإدارية من اقضية ونواحي وقرى يتمثل في كونها وحدات إدارية تدار بطريقة اللامركزية الإدارية.

لما تقدم ندعو المشرع الدستوري الى رفع هذا التناقض التشريعي عندما تسنح الفرصة لتعديل الدستور، كما نتامل من المحكمة الاتحادية العليا الموقرة تبديد هذا الاغفال التشريعي في معرض تفسيرها وتصديها لدستورية النصوص ذات العلاقة بالمركز القانوني للمحافظة غير المنتظمة باقليم وتبني تفسيراً يمثل اتجاهاً جديداً يختلف عن التفسير المحايد للمحكمة في توجهها السابق لوضع ملامح واضحة بين اللامركزية السياسية واللامركزية الادارية …والله الموفق .

..........................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق