ان قرار المحكمة الاتحادية العليا يعد من القرارات التفسيرية البناءة (المنشأة) لانها فسرت نص المادة (50) من الدستور بطريقه عالجت فيها الاغفال التشريعي للمشرع الدستوري عن تحديد الجزاء المترتب على حنث اليمين لمن يؤديه من خلال اعادة بناء وتكوين النص الدستوري باضافة القاعدة المغفل عنها ليكون النص الدستور فعالاً ومنسجماً مع غاياته...

اصدرت المحكمة الاتحادية العليا قرارها بالعدد (9/اتحادية/2023) في 14/11/2023 والمتضمن الحكم بانهاء عضوية النائب ( ل.م.ح.د) وعضوية رئيس مجلس النواب ( م.ر.ح) اعتباراً من تاريخ صدور الحكم في 14/11/2023 في قضية تتخلص وقائعها قيام النائب ( ل.م.ح.د) باقامة دعوى ضد رئيس مجلس النواب (اضافة لوظيفته ) حول قيام الاخير باستخدام طلب للاستقالة قدم من قبله بتاريخ 7/5/2022 اثناء الدورة النيابية الرابعه تحت الضغط والاكراه لاسباب سياسية.

ولم يتخذ رئيس مجلس النواب اجراءا بقبولها في حينها لحصول التراضي والتسوية بين الطرفين بعد تدخل بعض النواب، وتم لاحقاً استخدام هذا الطلب لاغراض قبول استقالته في الدورة الخامسة بعد شطب تاريخ الاستقالة القديم وقبولها بتاريخ 15/1/2023 واصدار امر نيابي بالعدد (5) في 15/1/2023 بقبول الاستقالة استناداً للمادة (12/ثانياً) من قانون مجلس النواب وتشكيلاته رقم (13) لسنة 2018 التي حددت حالة انهاء العضوية من مجلس النواب ومنها حالة الاستقالة دون عرض طلب الاستقالة للتصويت عليها من قبل اعضاء مجلس النواب.

كما قضت المحكمة الاتحادية العليا بعد صحة الامر النيابي اعلاه الخاص بقبول استقالة النائب، وملحقه الامر النيابي بالعدد (136) في 14/5/2023 الذي اصدره رئيس مجلس النواب اثناء سيرالمرافعات امام المحكمة الاتحادية العليا لتصويب تاريخ قبول الاستقالة ليكون اعتباراً من 7/5/2022 بدلاً من 15/1/2023 لتغطية الادعاء بعدم قبول الطلب في حينه وشطب تاريخ الطلب من قبل رئيس مجلس النواب، مع رد طلب الشخص الثالث النائب (ب.خ) بخصوص تعاقد رئيس مجلس النواب مع شركه صهيونية لتقديم الاستشارات ومن ضمن مستشاريها رئيس وزراء الكيان الصهيوني السابق (ايهود باراك) كونه – اي الطلب – يصح ان يكون محلاً لدعوى مستقلة، وقد تضمن القرار المذكور الكثير التفاصيل التي جرت اثناء سير المرافعه وسنحاول التركيز في هذا التعليق على المبدأ الاساسي الذي استندت اليه المحكمة بانهاء عضوية رئيس مجلس النواب كونه يمثل تفعيلاً لنص دستوري كاد ان يصيبه الجمود بعدم التطبيق، وهذا ما سنتناوله في المحاور الاتية:

سلطة تشريعية

في البداية لابد ان نشير الى المحكمة الاتحادية العليا قد استهلت حكمها بالاشارة الى رؤيتها للسلطة التشريعية واضفت عليها صفة القداسة لاهمية دورها في نهضة الامم واصلاحها حيث جاء في حيثيات القرار ( …ان الشعوب تنظر الى السلطة التشريعية بالقداسة والاحترام لما لهذه المؤسسة التشريعية من قدره وامكانية وصلاحيات قادرة بها ومن خلالها الى ان تدفع البلاد والعباد اشواطاً الى الامام او تقودها الى الوراء، هذه المؤسسة التي حملت اسماء متعددة من برلمان الى كونجرس او جمعية وطنية او مجلس نواب فمهما تعددت التسميات وتنوعت يظل البرلمان قائداً وموجهاً ومشرعاً ومراقباً وضابطاً لكل فعاليات الدولة ومؤسساتها …) .

الاصل ان الرقابة على دستورية القوانين والمنازعات الدستورية تكون في اطار الدستور لا خارجه، ومع ذلك توسعت المحكمة الاتحادية العليا في الرقابة خارج نطاق الدستور من خلال استلهام المبادىء الواردة في المواثيق الدولية حيث لم تكتفي بالاشارة الى نصوص دستور جمهورية العراق لسنة 2005 المواد (5،6،14،16،17،20،39) منه، وانما اشارة القواعد والمعايير الدولية التي تمثل الركائز الاساسية في بناء الديمقراطية، كنص المادة (21) من الاعلان العالمي لحقوق الانسان لسنة 1948 والخاصة بالحق بالمشاركة في ادارة الشؤون العامة، وحق الانتخاب والترشيح والمساواة في تقلد الوظائف العامة، والمادة (25) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966، وللمحكمة الاتحادية قرارات سابقة مدت نطاق رقابتها خارج نصوص الدستور الى المواثيق والعهود الدولية التي تتضمن الحقوق والحريات العامة الاساسية التي هي محل اتفاق دولي .

امانة ومسؤولية

اكدت المحكمة في قراراها على مبدأ الامانة والمسؤولية وخصوصاً لاعضاء السلطة التشريعية باعتبارها السلطة الاتحادية الاولى في العراق ويجب ان لايصدر من ممثلي الشعب الذين وصلوا لعضوية الهيئة التشريعية اي سلوك يخل بالثقة والمسؤولية التي منحت لهم من قبل الناخبين باعتبارهم ممثلي الارادة العامة، حيث توصلت المحكمة الاتحادية العليا الى وجود تلاعب في تاريخ تقديم الاستقالة بشطبها من رئيس المجلس وتثبيت تاريخ اخر وهو تاريخ قبول الاستقالة، حيث جاء في حيثيات قرارها ( …ان وكيل المدعى عليه وفي جلسة 17/4/2023 اقر ان الطلبين مقدمين بذات التاريخ.

كما اقر ان رئيس مجلس النواب وافق على طلب الاستقالة المقدم بخط اليد من المدعي وان الموافقة كانت بتاريخ 7/5/2022 ولكن بسبب تدخل بعض النواب تاخرت الاستقالة في مكتب رئيس المجلس وقام رئيس المجلس بشطب تاريخ الموافقة 7/5/2022 وترويجها بتاريخ 15/1/2023 وبذلك يكون الوارد للطلبين اعلاه غير صحيح وان شطب تاريخ الموافقة الاولى على الاستقالة 7/5/2022 وجعلها 51/1/2023 ايضاً غير صحيحة، وان ذلك لاينسجم مع متطلبات السلوك الصحيح لاعضاء مجلس النواب باعتبار ان اعضاء مجلس النواب يمثلون الشعب العراقي بمكوناته كافه، وهذا التغيير في الحقيقه يمثل تحريفاً فيما ورد في ورقه الاستقالة وثبت ذلك للمحكمة من خلال ما جاء باقوال المدعي واقرار وكيل المدعى علية اضافة لوظيفته بموجب الكتب الرسمية التي اطلعت عليها المحكمة …..) .

ان المبدأ الاساسي الذي استندت اليه المحكمة في انهاء عضوية المدعي والمدعى عليه هو سلوكهم الذي يشكل حنثاً باليمن الدستوري وموجباته، وتحديداً ماجاء في المادة (50) الذي تضمنت صيغة اليمين الذي يتوجب ان يؤديه عضو مجلس النواب والذي يبدأ بالقسم بالله العلي العظيم بتادية المهام والمسؤوليات بتفان واخلاص الى اخر صيغه اليمين وهي كلها التزامات دستورية يتوجب على عضو مجلس النواب الالتزام بها والا يعد ناقضاً لعهده المؤكد باليمين، الا ان المشرع الدستوري لم يضع جزاءاً يترتب على على هذا الانتهاك، هل هو جزاء سياسي بانهاء عضوية النائب، ام جزاء جنائي يتطلب رفع الحصانه عنه واخضاعه لمحاكمة جزائية ومن هي الجهة المختصة باجراء هذه المحاكمة ؟

على مستوى محاسبة رئيس الجمهورية نجد انه يؤدي ذات اليمين المنصوص عليه في المادة (50) من الدستور، حيث نصت المادة (61/ سادساً) من الدستور على حالات مساءلة رئيس الجمهورية او اعفاءه بالاغلبية المطلقه لعدد اعضاء مجلس النواب بعد ادانته من المحكمة الاتحادية العليا في ثلاث حالات وهي (الحنث باليمين، انتهاك الدستور، الخيانه العظمى)، ولم يبين الدستور مضمون ووصف هذه الحالات التي تستوجب توجيه الاتهام الى مرتكبها وهذا يقتضي الرجوع الى القواعد العامة.

 فالحنث عن اليمين هو نقض العهد المؤكد باليمين.  الماخوذ من رئيس الجمهورية او كل من ادى هذا اليمين سواء من اعضاء السلطة التشريعية ام التنفيذية ولم يتضمن الدستور اي جزاء عن الاخلال به، في حين ان المادة (2) الفقرة (4) من دستور الولايات المتحدة الامريكية على سبيل المثال نصت على عزل الرئيس ونائب الرئيس وجميع موظفي الولايات المتحدة الامريكية الرسميين المدنيين من مناصبهم اذا وجه اليهم اتهام نيابي بالخيانة او الرشوة او ايه جنح وجرائم كبرى وادينوا بسببها اضافة الى الحرمان من تولي وتقلد اي منصب اخر في الحكومة يتطلب الشرف والثقة كعقوبة تكميلية، ولانجد نص شبيه او مماثل في دستور جمهورية العراق يحاسب رئيس واعضاء السلطة التنفيذية او التشريعية على حد سواء.

وهذا ما يدعونا الى القول ان من اسباب لجوء المحكمة الاتحادية العليا الى الجزاء السياسي بانهاء العضوية هو الخيار المتاح لها في ضوء سكوت النص الدستوري عن بيان جزاء الحنث باليمن بالنسبة لاعضاء السلطة التشريعية، وهذا ما يمكن ان نستجليه من حيثيات قررها التي جاء فيه (…اذ ان بقبول الاستقالة بتاريخ 7/5/2022 لم يعد المدعي نائباً ولايجوز مطلقاً قبول استقالته مجدداً بتاريخ 15/1/2023 وان ذلك يشكل استخدام لصلاحيات برلمانية مخالفة تماماً للدستور والقانون.

وان دستور جمهورية العراق صرح وفقا لما جاء في المادة (50) من الدستور بالقيد الوارد على مضمون الحق وهو اداء المهمات والمسؤوليات البرلمانية بأمانه وبغض النظر عما رسمه الدستور في المادة (52) منه،فأن الجزاء الذي يفرض على مخالفة احكام المادة (50) من الدستور هو عدم صلاحية النائب في الاستمرار بالعضوية لانه اذا كانت مخالفه المادة (50) من الدستور لاترتب انهاء العضوية ازاء مخالفه القسم بالله سبحانه وتعالى يصبح وجود تلك المادة لغواً في الدستور، وهذا لايمكن القول به شرعاً ودستورياً ……)، ومما تقدم فأن السبب الرئيس لانهاء العضوية هو نقض رئيس مجلس النواب العهد المؤكد باليمين، وان جزاء هذا النقض انهاء العضوية واسقاطها دون ان ان يمنع ذلك من اثارة المسؤوليات الاخرى، والا اصبح نص المادة (50) لغواً والمشرع الدستوري منزه عن ذلك،اما بالنسبة لجريمة تحريف تاريخ تقديم الاستقالة كان بامكان المحكمة ان بعد ثبوت هذه الواقعه احالته الى القضاء المختص لاتخاذ الاجراءات الجزائية عن هذا التحريف بعد ان انهت العضوية بقرار بات  .

ان قرار المحكمة الاتحادية العليا يعد من القرارات التفسيرية البناءة (المنشأة) لانها فسرت نص المادة (50) من الدستور بطريقه عالجت فيها الاغفال التشريعي للمشرع الدستوري عن تحديد الجزاء المترتب على حنث اليمين لمن يؤديه من خلال اعادة بناء وتكوين النص الدستوري باضافة القاعدة المغفل عنها ليكون النص الدستور فعالاً ومنسجماً مع غاياته، فالتفسير في هذا القرار لم ينصب على النص الدستوري وانما انصب على ما اغفله النص الا وهو الجزاء، فالمحكمة الاتحادية العليا لم تكتف بالكشف عن الاغفال في النص الدستوري وانما فسرته بطريقه تحقق غاية المشرع الدستوري من ايجاده ووظفته لاحقاً لحسم الدعوى

ان انهاء العضوية في هذه الحالة لايندرج تحت حالات بت مجلس النواب بعضوية اعضاءه والتي تكون لاحقة لعملية الانتخاب وقرار المجلس قابل للطعن امام المحكمة الاتحادية العليا استناداً للمادة (52/ثانياً) من الدستور، كونه يتعلق بحالة الحنث باليمين التي يترتب على ثبوتها انهاء العضوية وقت صدور القرار ولايرتد الى وقت الانتخابات.

حيث جاء بحيثيات قرار المحكمة ( …ان المقصود بالفصل في صحة العضوية هو فحص الوضع القانوني للنائب منذ تقديمه لطلب الترشيح الى اعلان نتيجة الانتخابات، وهذا يقتضي التاكد من توافر شروط الترشيح في العضو، وقد حرصت اغلب البرلمانات على تكريس انفرادها بالفصل في صحة عضوية اعضائها باسناد ذلك الاختصاص الى البرلمان تطبيقاً لمبدأ سيادة الامة، وبالتالي سيادة البرلمان وتطبيقاً لمبدأ الفصل بين السلطات …..) .

كنا نامل من المحكمة الاتحادية العليا ان يتضمن حكمها فقره ايعازية الى السلطة التشريعية لسن قانون يتضمن مساءلة رئيس واعضاء الهيئتين التشريعية والتنفيذية عن حالال الحنث باليمين الدستوري وانتهاك الدستور تطبيقاً لنص المادة (93/سادساً) من الدستور التي اعطت للمحكمة اختصاص الفصل بالاتهامات الموجهة الى رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء والوزراء وينظم ذلك بقانون، وايضاً لمعالجة الاغفال التشريعي بعض الاحكام المنظمة لاستقالة عضو مجلس النواب بارادته المنفردة …والله الموفق .

.............................................................................................

* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق