الشكل الخارجي للآيات القرآنية لم يأت عبثاً، وإنّما وضع لحكمة معينة، وللدلالة على فكرة خاصّة من هنا: كان علينا حين نتدبّر في القرآن الكريم أن نكتشف (الفلسفة الشكلية الخارجية) للآيات القرآنية. والتدبُّر هذا ينبغي أن يشمل المجالات التقديم والتأخير. الإفراد والتثنية والجمع. المعلوم والمجهول وسائر...

منهج التدبّر في القرآن يعتمد على طرح مختلف التساؤلات حول (الظواهر القرآنية)، فكلّ آية من القرآن الكريم مجال خصب لطرح تساؤلات عديدة، وعلى الفرد الذي يحاول التدبُّر في القرآن أن يثير في عقله هذه التساؤلات، ومن ثمّ يحاول الإجابة عليها.

وهذه التساؤلات تتناول 1- معنى الكلمة. 2- تخيُّر الكلمة. 3- موقع الكلمة. 4- الشكل الخارجي. 5- التسلسل المعنوي، والتناسب في الانتقال من غرض إلى غرض. 6- التصنيف.

رابعاً: الشكل الخارجي

إذا ألقيت نظرة عابرة على جسدك تجد: أنّ كلّ عضو، وكلّ جهاز في هذا الجسد له شكل معيِّن. فاليد، والرجل، والأصابع، والكبد، والأمعاء، و.. لها شكل خاص، يختلف عن شكل الأعضاء، والأجهزة الأُخرى.

وهذه الشكلية المتنوّعة لم تأت عبثاً، وإنّما وفق حكمة إلهية معينة، ولتلّبي حاجات الإنسان ومتطلباته على أفضل وجه.

وكما هو جسد الإنسان كذلك الكون كلّه.

هذه الحقيقة التي نلمسها في كتاب الله التكويني (الكون)، نستطيع أن نلمسها ـ أيضاً ـ في كتاب الله التشريعي (القرآن).

فالشكل الخارجي للآيات القرآنية لم يأت عبثاً، وإنّما وضع لحكمة معينة، وللدلالة على فكرة خاصّة من هنا: كان علينا ـ حين نتدبّر في القرآن الكريم ـ أن نكتشف (الفلسفة الشكلية الخارجية) للآيات القرآنية.

والتدبُّر هذا ينبغي أن يشمل المجالات التالية:

أ ـ التقديم والتأخير.

ب ـ الإفراد والتثنية والجمع.

جـ ـ المعلوم والمجهول.

د ـ وسائر الأشكال الأُخرى.

وإليكم بعض النماذج:

ـ 1 ـ

يقول القرآن الكريم: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ}(1).

بينما يقول في آية أُخرى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(2).

فلماذا في الآية الأُولى قدّم رزق المخاطبين على رزق أولادهم؟.

وفي الآية الثانية: قدم رزق الأولاد؟.

هل جاءت المسألة عفويّة، أو كانت نوعاً من التفُّنن التعبيري؟ أم أنّ وراءها شيئاً آخر، وقد ترمز إلى حقيقة علمية أو واقعيّة؟.

فباختلاف العبارتين يختلف معنى كلّ آية؟

المعنى قد يكون في الجملة واحداً، ولكن في التفصيل ونوع المخاطب به يختلف.

لماذا؟ لأنّك لو نظرت إلى عجز كلّ آيةٍ مع صدرها، لوجدت أنّ العجز مناسب لذلك الصدر تماماً.

لأنّه في الآية الأولى يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ مِنْ إِمْلاَقٍ}.

فهذه العبارة {مِنْ إِمْلاَقٍ} توحي بأنّ الفقر موجود بالفعل.

وما دام الفقر موجوداً بالفعل فاهتمام الإنسان يكون برزق نفسه قبل أن يهتم برزق ولده، فهو يخاف أن يبقى جائعاً لو أراد أن يطعم أولاده. وهنا يُطمئنه الله تعالى على نفسه ـ أولاً ـ وعلى رزق أولاده ثانياً، فيقول: {نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ} ـ يا أصحاب الإملاق ـ {وَإِيَّاهُمْ}.

بينما في الآية الثانية يقول الله: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَوْلاَدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاَقٍ} أي: خوفاً من فقر يقع مستقبلاً، فكأنّ الفقر غيرُ موجود، ولكنَّ الأب يخاف إن جاءه أولاد أن يأتي الفقر معهم، فيقول له الله تعالى: لا، أنا سأتكفّل لهم برزقهم {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}.

إذن، فالمعنى ليس واحداً في الآيتين، وإن كان يبدو في ظاهره واحداً.

لأنّ في قضية قتل الأولاد خوفاً من الفقر يكون المخاطب في كل آية مختلفاً عن الآخر.

فمرة يكون فقيراً بالفعل ـ وهنا يُشغل برزقه قبل أن يُشغل بالُه برزق ولده ـ فقتل الأولاد يكون نتيجة لوجود الفقر ـ وهنا تحمل العبارة ضماناً لرزقه أوّلاً، ثمّ رزق ولده ثانياً.

ومرة يكون غنياً، ولكنّه يخاف أن يأتي الفقر إذا جاء الولد، فيكون باله مشغولاً برزق ولده، فيقتله تحسُّباً من الفقر المتوقّع بمجيء الولد، وهنا تعطيه الآية بشارة برزق الولد عند مجيئه {نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ}(3).

ـ 2 ـ

يقول القرآن الكريم: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ}(4).

هذه الآية الكريمة نزلت في شأن الإمام علي (عليه السلام) حينما تصدّق بخاتمه وهو راكع -كما دلّت عليه روايات الفريقين- .

وهذه الآية تثبت الولاية لكلٍّ من:

ـ الله سبحانه وتعالى.

ـ الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله).

ـ الإمام علي (عليه السلام).

ولكن: لماذا عبّرت الآية بكلمة «وليّكم» ـ بصيغة الإفراد ـ؟ ولماذا لم تأت الآية هكذا: (إنما أولياؤكم الله ورسوله والذين أمنوا)؟!

والجواب: إن التعبير بهذه الطريقة يشير إلى مفهوم هامٍّ هو: أنّ الولاية هي لله سبحانه، فالله تعالى هو الوليُّ الحقيقي الذي لا ولي سواه.

أمّا ولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) فهي مستمدة من ولاية الله سبحانه، وهكذا تكون ولاية الله سبحانه ولاية بالأصالة، وولاية النبي (صلى الله عليه وآله) والإمام (عليه السلام) ولاية بالتّبع.

ومن ذلك نستنتج: أنّ النبيّ والإمام ممّثلان لله سبحانه في الأرض؛ ولذلك فلا يحقّ لهما أن يقوما بسنّ الأحكام، وتشريع القوانين وفقاً لرغباتهما الشخصية، وإنّما يجب أن يكون ذلك بقرارٍ يهبط من السماء(5).

ـ 3 ـ

يقول القرآن الكريم: {يَهْدِي بِهِ} (القرآن) {اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}(6).

في هذه الآية نجد أنّ القرآن الكريم يأتي بصيغة الجمع في كلمتي {سُبُلَ السَّلاَمِ} و {يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ} بينما يأتي بصيغة الإفراد في قوله {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} فلماذا؟

والجواب: إنّ الصراط المستقيم هو صراط واحد؛ ذلك لأنّ الحقّ واحد. ومن هنا: فإنّ الطريق إلى الحقّ هو واحد ـ أيضاً ـ ولذلك يقول القرآن الكريم في آية أُخرى:

{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} {وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}(7).

وعلى العكس من ذلك (الظلمات) والطرق المعوجّة، فهي كثيرة ومتعددة.

أمّا بالنسبة إلى {سُبُلَ السَّلاَمِ}: فإنّ الحياة حقل ألغام، والمشاكل كثيرة: نفسية، وجسدية، واجتماعية، واقتصادية.. و.. والسلام هو التخلّص من مجموع هذه المشاكل، كما أنّ الصحّة هي التخلّص من مجموع الأمراض.

ولأنّ التخلّص من كلّ واحد من هذه المشاكل يحتاج إلى طريقة وأُسلوب، لذلك جاء التعبير القرآني بـ{سُبُلَ السَّلاَمِ} وليس (سبيل السلام).

ـ 4 ـ

يقول القرآن الكريم: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}(8).

وهنا نجد أنّ القرآن الكريم يبني فعل {يُوقَ} للمجهول، فلماذا؟

والجواب: أنّ «الشحَّ» ملتصق بالنفس الإنسانية.

فالإنسان ـ بطبيعته ـ يحبّ أن يستأثر بالمال، ويكره أن يعطي للآخرين منه شيئاً.

وهذا الإلتصاق الطبيعي يمكن أن نستفيده من إضافة «الشحّ» لـ(النفس) في الآية الكريمة.

من هنا: فإنّ من العسير على الإنسان أن يقاوم شحّه بذاته؛ لأنّه يصعب عليه أن يقاوم طبيعته؛ لذلك فهو يحتاج إلى إمداد غيبي، ووقاية خارجية، كما تعبّر الآية بقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ}.

وبالطبع فإنّ هذه الوقاية الإلهية لا تهبط من السماء ـ بدون مقدّمات ـ على قلب الإنسان، وإنّما يوفّرها الإيمان الحقيقي بالله.

ـ 5 ـ

يقول القرآن الكريم ـ بعد أن يتحدّث عن الصبر على المصيبة: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(9).

ولكنّ القرآن يضيف حرف (اللام) للتوكيد حينما يتكلَّم عن الصبر على أذى الآخرين، فيقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}(10).

والسؤال: لماذا اُضيف حرف «اللاّم» في الآية الثانية؟

والجواب ـ على ما قيل ـ : إنّ الصبر على أذى الغريم الذي يستطيع الإنسان أن يردّ عليه بأذى مثله يحتاج من الإنسان إلى عزم أكبر، فالصبر هنا ليس كالصبر على مصيبة لا حيلة للإنسان فيها.

ومن هنا لم تجيئ لام التوكيد في الآية الأُولى، وجاءت في الآية الثانية(11).

* مقتطف من كتاب: (التدبر في القرآن) لمؤلفه آية الله السيد محمد رضا الحسيني الشيرازي

....................................

(1) الأنعام: 151.

(2) الإسراء: 31.

(3) القرآن كتاب حياة: 149-151.

(4) المائدة: 55.

(5) في هذا المجال يقول القرآن الكريم: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ *لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ *ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ *فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 44-47).

(6) المائدة: 16.

(7) الأنعام: 153.

(8) الحشر: 9.

(9) لقمان: 17.

(10) الشورى: 43.

(11) هذا الاستنباط مبني على إعادة «ذلك» في الآية الأُولى إلى الصبر على المصيبة ـ كما هو مقتضى أحد التفسيرين ـ وليس إلى كلّ ما سبق.


اضف تعليق