لأني من المغرمين بكرة القدم فقد تابعت عن كثب على مدار حياتي الكثير من بطولات كأس العالم ابتداءً من طفولتي مع بطولة المكسيك-بيليه عام 1970 وانتهاءً ببطولة قطر-ميسي الأخيرة. وبعيداً عن المحتوى الرياضي لكل تلك البطولات، فلم أشهد على الصعيد الاجتماعي بطولة تشابه هذه البطولة سواءً من حيث الاهتمام أو من حيث الاختصام...

لأني من المغرمين بكرة القدم فقد تابعت عن كثب على مدار حياتي الكثير من بطولات كأس العالم ابتداءً من طفولتي مع بطولة المكسيك-بيليه عام 1970 وانتهاءً ببطولة قطر-ميسي الأخيرة. وبعيداً عن المحتوى الرياضي لكل تلك البطولات، فلم أشهد على الصعيد الاجتماعي بطولة تشابه هذه البطولة سواءً من حيث الاهتمام أو من حيث الاختصام.

فمن حيث الاهتمام وجدتُ كثير من غير المهتمين بالرياضة ومن مختلف الأعمار والأجناس يتابعون بشغف أدق تفاصيلها بخاصة غير الرياضية. وفي استطلاع للرأي العام العراقي أجرته مؤسستي البحثية (المجموعة المستقلة) أفاد حوالي ثلاث أرباع العراقيين أنهم يتابعون البطولة وهو رقم لم أكن شخصياً أتوقعه، ولم أشاهده من قبل! بل هو رقم أثبتت تقارير الفيفا الخاصة بمشاهدة المباريات صحته فيما بعد.

لقد جعلت هذه الظاهرة من حياة كثير من الشغوفين بكرة القدم أسهل لأنهم لم يعودوا مضطرين للدخول في جدل وعراك مع نسائهم وأفراد العائلة الآخرين على أحقية استخدام شاشة التلفزيون. فالجميع صار يتابع نفس المحطات والقنوات الناقلة وتحولت غرف معيشة العراقيين الى غرف يجتمع فيها كل أفراد العائلة كما كانوا يفعلون مع برنامجي الرياضة والعلم للجميع للمرحومَين مؤيد البدري وكامل الدباغ.

أما من حيث الاختصام فقد تحولت مواقع التواصل الاجتماعي والأعلام (غير المتخصص) الى مواقع لا هم لها الا متابعة أحداث البطولة بطريقة لم نعهدها نحن الذين أدمنّا متابعة أحداث كرة القدم العالمية. وصارت تلك المواقع ملاعب للنقاش وللتنافس والتنابز والتناحر ليس عن أفضل لاعب أو فريق أو مباراة.

وإنما عن ظواهر ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية وعمرانية مختلفة (كحقوق الأنسان، والمثلية الجنسية، والصراع الثقافي والديني، والتنظيم الحضري ومنشآت البنية التحتية، والتمييز العنصري، وحضور السياسيين… الخ). لقد كانت هذه الدورة في اعتقادي أقل الدورات في نسبة التغطية الرياضية المتخصصة مقارنة بنسبة التغطية غير المتخصصة وهو أمر غير معهود سابقاً.

من هنا صار من الضروري على المتخصصين في مختلف المجالات رصد وتحليل (ظاهرة) كأس العالم القطرية من مختلف جوانبها لأنها تعكس مثابة جديدة من مثابات التفاعل الإنساني الاجتماعي المعولم. هناك ثلاث ظواهر اجتماعية برزت في كأس العالم الأخيرة من بين كثير من الظواهر الأخرى تستحق الدراسة، هي حشدنة التشجيع، وطرفنتهُ وثقفنته.

سلوك الحشدي

وعلى الرغم من أن هذه الظواهر النفس-اجتماعية هي ظواهر ليست جديدة ومشخصة علمياً لكن صبغتها الرياضية من جهة وأتساع شمولها الاجتماعي والسياسي من جهة أخرى جعل من هذه الظواهر محطات اجتماعية تستحق الوقوف عندها وتأويلها وفهمها علمياً:

1- حشدنة التشجيع والمتابعة. ظاهرة السلوك الحشدي هي من الظواهر النفسية التي طالما درسها علماء النفس الاجتماعي منذ أكثر من قرن وفي مقدمتهم غوستاف لوبون الذي أكد أن للجماعة وحدة نفسية مشتركة تذوب فيها الشخصية الفردية فاسحة المجال لهيمنة ما يسميه (روح الجماعة) التي تصبح هي القائد الحقيقي للجماعات.

2- لقد درس العلماء كثيراً كيفية تغير سلوك الأفراد أثناء تواجدهم في حشود كبيرة مثل ملاعب كرة القدم لكن الجديد في هذه البطولة ونتيجة للتغطية الإعلامية المكثفة من جهة وتطور وسائل التواصل الاجتماعي وتقنياتها لدرجة غير مسبوقة من جهة أخرى، جعلت ملاعب قطر ملاعب حشدية عالمية لا من حيث الحضور الفعلي داخل الملعب فقط بل من حيث عدد المتابعين من كل أنحاء العالم.

3- لقد تابع أكثر من 5 مليار شخص في كل أنحاء العالم هذه البطولة وبمعدل يناهز 30 مليون شخص للمباراة الواحدة. أن هذه أرقام غير مسبوقة تعني أن أكثر من 70 بالمئة من سكان الأرض قد تابعوا الحدث! وحينما نقول أن 25-30 مليون شخص في مختلف أنحاء العالم كانوا يتابعون كل مباراة في نفس الوقت فهذا يعني عملياً أن حدود الملعب قد أتسعت أبعد بكثير من ال 50-80 ألف متفرج الحاضرين فعلياً في الملعب.

4- نفسياً، هذا يعني أن الحشد الجماهيري قد تمدد ليشمل عشرات الدول في العالم. فتعريف الحشد علمياً هم الجماعة كبيرة العدد والمجتمعة فعلياً. وبما أن كل-أو معظم- المتابعين للمباراة صار بإمكانهم التعليق والتفاعل مع المباراة من خلال وسائل التواصل المتاحة لهم فقد تمت حشدنة الجمهور بطريقة غير مسبوقة، وبما أن سيكولوجية الحشود تفرض على الناس سلوكيات مختلفة (وأحياناً متناقضة)عن سلوكياتهم العادية، تحت تأثير ضغط الجماعة وتأثيرها فأن من الطبيعي أن تتم عولمة التشجيع.

قوة الفريق

لقد لاحظنا مثلاً كيف أن من كان يشجع الأرجنتين هم ليسوا الأرجنتينيين فقط وهكذا بالنسبة لكل المنتخبات الأخرى. لا بل أن التشجيع لم يكن فقط لأسباب رياضية ترتبط بقوة الفريق أو جماهيرية لاعبيه، بل ترتبط بعناصر اجتماعية وسياسية ودينية وثقافية أخرى جعلت تلك الملاعب ليس مكاناً للفرجة والاستمتاع فقط، بل مجالاً للتنافس والتغالب قبل ذلك. أن ما أتاحته التكنولوجيا الرقمية كانت له انعكاسات نفسية-اجتماعية مهمة ستتضح أكثر عند مناقشة الظاهرتين الأخريين (طرفنة وثقفنة كأس العالم).

............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق