بعد حوالي ثلاث سنوات من البحث التجريبي، توصلت مع زميلتي، كيلفاند، أستاذة العلوم السلوكية في جامعة ستانفورد، ان الثقافة الاجتماعية في العراق تعاني مما نسميه فرط التصلب الثقافي، بل أن العراق هو الأعلى عالمياً، من بين أكثر من 50 دولة (جرى قياسها للآن) من حيث تصلبه الثقافي...

بعد حوالي ثلاث سنوات من البحث التجريبي، توصلت مع زميلتي، كيلفاند، أستاذة العلوم السلوكية في جامعة ستانفورد، ان الثقافة الاجتماعية في العراق تعاني مما نسميه فرط التصلب الثقافي.

بل أن العراق هو الأعلى عالمياً، من بين أكثر من 50 دولة (جرى قياسها للآن) من حيث تصلبه الثقافي. ولأننا عالجنا معنى وانعكاسات هذا التصلب الثقافي المفرط في كتابنا الذي سيصدر خلال أسابيع، فسأكتفي هنا بتأشير واحدة من أهم الظواهر السياسو-اجتماعية لهذا التصلب وهي ما نسميه بالعقلية الجمعية Deindividuation .

يخلط الكثيرون بين العقلية الجمعية والعقلية الجماعية، لكن باختصار شديد فأنه في الوقت الذي قد تكون فيه العقلية الجماعية إيجابية ومفيدة في كثير من الأحيان، فأن العقلية الجمعية هي عقلية سلبية بخاصة حينما تكون شديدة التصلب، لأنها تلغي فردانية الشخص وتجعله خاضع لمعايير الجماعة، والتي لا تتفوق فقط على قيم الفرد ومبادئه، بل تتفوق حتى على قيم المجتمع وقوانينه، وتجعل الجماعة (كالطائفة والعشيرة والمحلة وحتى العِرق) هي المرجعية السلوكية والفكرية المعتمدة. ولأنني سأترك تفاصيل الموضوع للكتاب فسأشير هنا الى مثَلَين حيَّين يمكن أن يوضحا المقصود بمشكلة العقلية الجمعية.

تعكس استقالة رئيسة وزراء بريطانيا أمس، وقبلها وزير الداخلية، وقبلها حالات كثيرة أخرى، أحد أوجه التفكير الفردي الذي تفتقر له ثقافتنا الاجتماعية. فحينما يُدرك المسؤول في المجتمعات الغربية (ذات الثقافة الرخوة Loose Culture) أنه أخفق في تولي المسؤولية أو القرار فأنه يسرع لتقبل تلك المسؤولية فيستقيل، دون أن يلقي اللوم على حزبه أو حلفاؤه من الأحزاب، بل ودون أن يقول إن الشعب هو الذي انتخبني وهو الذي يقيلني!

ورغم أن كثير من مبرراته (الجماعية) قد تكون صحيحة. إذ صحيح أنه منتخب كما أن حزبه يدعمه وحلفاؤه ارتكبوا الأخطاء، لكنه يعلم أنها في النهاية مسؤوليته التي لا يجب ألقاؤها على الآخرين.

هنا قد يسأل البعض قائلاً: لكن المسؤولين اليابانيين مثلا وكثير من شعوب آسيا ذات الثقافة الصلبة Tight والقريبة من ثقافتنا لا يكتفون فقط بالاستقالة، بل والانتحار، حينما يدركون أنهم أخقوا في المسؤولية. وهذا كلام صحيح، لكن الفرق بين الثقافتين الرخوة(الغربية) والصلبة (الشرقية) يكمن أولاً في شدة الشعور بالذنب الذي يجعل الشرقي ينتحر بسبب العار الذي سيصيبه وعائلته أمام المجتمع نتيجة اخفاقه، في حين أن المسؤول الغربي سيعدّ ذلك خطئاً يجب التعلم منه واستئناف الحياة، بخاصة وأن المجتمع لن يعاقبه اجتماعيا (بالعار) كما سيفعل المجتمع الشرقي.

ثانياً، وهو ما يميز الثقافة العراقية عن بقية الثقافات الشرقية، هو الطائفية الشديدة التي تجعل مجتمع الطائفة هو الحَكَم وليس المجتمع ككل. ففي الوقت الذي لا يمكن فيه للمجتمع الياباني مثلاً أن يبرر لمسؤوله الفاشل ذلك الفشل بمؤامرات ومكائد الطوائف الأخرى لذا تجده يتحمل المسؤولية (وقد ينتحر)، فأن العراقيين لا يكتفون بتبرير الفشل بمؤامرات (المكونات) الأخرى ضد المكون بل يجدون أن الوقوف مع مسؤولهم الفاشل هو من مقتضيات العصبية والنصرة للطائفة!

أما المثل الثاني الذي نعيشه الآن، فيعكس بوضوح مخاطر العقلية الجمعية على مستقبل العراق. فحينما أراد السيد مقتدى عدم التحالف مع الإطار التنسيقي، برر الإطار معارضته للسيد مقتدى بما أسماه (حقوق المكون الأكبر) متناسياً حقوق (المجتمع الأكبر).

بمعنى أن حقوق المكون تفوقت على ما سواها وهذا هو جوهر التفكير والثقافة الجمعية. وحينما كلف الإطار السيد السوداني لتشكيل الحكومة، فلم يتيحوا له حرية المسؤولية الفردية، بل ألزموه بالعقلية المكوناتية والمحاصصاتية في تشكيل الكابينة الوزارية.

بالتالي فهم لم يحرموه فقط من تحمل كامل المسؤولية، كما يجري في المجتمعات الغربية، بل أتاحوا المجال له(ولهم) أيضاً للتنصل من المسؤولية عند الفشل. أننا علميا وعملياً، إزاء حالة مثالية من حالات العقلية الجمعية كما تصفها أدبيات علم النفس الاجتماعي. هذا لا يعني أنه يجب أن نتخلى عن ثقافتنا الاجتماعية الجماعية. فثقافتنا هي أولاً جزء مهم من شخصيتنا الاجتماعية، وهي ثانياً، تتفوق في كثير من المزايا الاجتماعية على الثقافات الرخوة.

لكن يجب أعادة ضبط ثقافتنا ومعايرتها اجتماعيا لتجنب فرط التصلب الذي ينتج لنا العقلية الجمعية وكثير من المشاكل الاجتماعية الأخرى التي عالجناها في الكتاب. أن القاعدة التي يجب الاهتداء بها هي لا أفراط في ثقافتنا الاجتماعية، ولا تفريط بها.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق