حتى وقت قريب كان الاعلام الرسمي للمملكة العربية السعودية ينقل بإسهاب وتكرار كلام كبار اركان النظام، (بما فيهم الملك ونوابه)، عن مزايا العيش في المملكة، حيث ينعم المواطنون فيها بنعمة "الرخاء" و"الامن" وسط محيط مضطرب بالفتن واعمال العنف والتهديدات الارهابية التي طالت العديد من دول العالم العربي والشرق الاوسط، واليوم، وبعد التفجير الارهابي الاخير، (تفجير مسجد الامام علي بن ابي طالب في القديح بمدينة القطيف)، تحول الخطاب الاعلامي الرسمي (بالإضافة الى التذكير بالنعم السابقة)، الى خطاب يدعو الى التكاتف والتلاحم ورص الصفوف لمنع الفتن الداخلية بين ابناء البلد الواحد.

ويبدو ان ما حدث بين الامس واليوم، باعتبار ان المستهدف في التفجير الارهابي الاخير، (والاعتداء الذي سبقه على حسينية الدالوة)، التي اعلن تنظيم "داعش" مسؤوليته عنها، هم الاقلية الشيعية من مواطني المملكة، قد يستدعي من المملكة اعادة الكثير من حساباتها وخطاباتها بعد ان تبين ان تنظيم "داعش" ليس بعيدا عن الداخل السعودي، وان تكرار تنفيذ هجمات ارهابية تستهدف شيعة السعودية، (او مصالح اجنبية او اهدافا حيوية للنظام السعودي)، ليس بالأمر المستحيل او المستبعد، سيما وان التنظيم نجح في استقطاب اكثر من (2500) مقاتل سعودي غادروا موطنهم للقتال مع التنظيم في العراق وسوريا، اما الذين لم يتمكنوا من السفر خارج حدود المملكة، فقد حثهم التنظيم على تنفيذ هجمات انتحارية او القيام بأي عمل فردي حتى لو اضطر لقتل "مرتد" او "كافر" باستخدام "سكين"، وهو اسلوب "قاعدي" قديم يعمد الى استخدام هجمات "الذئاب المنفردة" في التخطيط والتنفيذ.

في مقال للكاتب السعودي "داود الشريان" عن "حادثة القديح"، تكلم بصراحة عن الخطر الداخلي الذي يحيق بالمملكة، وما دفع بمواطن سعودي مسلم "سني" ان يفجر نفسه في مجموعة من المواطنين السعوديين من المسلمين "الشيعة" في مكان للعبادة واثناء الصلاة، فقال "جريمة القديح تستدعي منا جميعاً أن ننظر إلى ذواتنا، وأفعالنا، ومفاهيمنا عن بعضنا البعض، اقرأ ما يكتب في منصات التواصل الاجتماعي، استمع إلى بعض خطباء المساجد، والأحاديث الدينية في القنوات والإذاعات الدينية، ستجد أننا نعيش حالاً من التحريض الذي يعد سابقة"، واضاف "تأمل مضمون بيان (داعش) الكريه الذي تبنى قتل أهلنا في القديح، ستكتشف أنه يتكرر في وسائل إعلامنا، وخطبنا وأحاديثنا بصيغ مختلفة"، وختم بالقول "لا بد من تخليص خطابنا الثقافي والسياسي من المؤدلجين، وأصحاب الأفق الضيق، إبعدوهم عن قيادة الرأي العام حتى تسود المواطنة".

طبعا هذه المطالب ليست بالجديدة ولن تكون الاخيرة في سياق المطالب الاصلاحية للفكر الديني والسياسي المتبع منذ عقود في المملكة الغنية بالنفط، لكن هل نستطيع القول بان السعودية وقياداتها السياسية والدينية قادرة على تغيير خطابها الديني والسياسي وإبعاده عن التطرف والغلو؟ وعلى فرض ان السعودية قادرة على صنع التغيير (في حال اقتنعت بهذا الامر)، فكم من الوقت تستغرق عملية التغيير نحو تخليص الخطاب الثقافي والسياسي من اصحاب الافق الضيق، (على حد وصف الشريان)؟

اعتقد ان المهمة ليست بالسهلة على المستوى الداخلي، والامر اشبه بالحاجة الى ثورة فكرية وثقافية جديدة لإحداث عملية تغيير جذرية لتركيبة (سياسية-دينية) نشأت وتفرعت منها اجيال من حملة الفكر الديني المتطرف القائم على تكفير الاخر واستباحة قتله بدم بارد، ولعل ما حدث في "عاصفة الحزم" مثال اخر على التوجه السياسي-الديني للمملكة، والذي سرعان ما تحاول من عنوانه السياسي المعلن الى عنوان ديني "طائفي"، كمثال اخر على الصراع بين ايران والسعودية او السنة والشيعة، (كما يحلو للبعض ان يسميه)، حيث انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي وخطب الجمعة ووسائل الاعلام والاناشيد الحماسية في السعودية، النفس الطائفي الذي يصور القتال على انه قتال ضد الباطل او الفئة الباغية.

تنظيم "داعش" يعرف مكامن الخلل في الجبهة الداخلية للمملكة العربية السعودية، ويعرف كيفية الاستفادة منها جيدا، خصوصا وان خطابه الديني "الطائفي" ليس بغريب عن خطاب الكثير من رجال الدين البارزين وكبار الشخصيات داخل المملكة، (وهو ما حذر منه الكاتب السعودي)، وبالتالي فان هشاشة الجبهة الداخلية يمكن اختراقها بسهولة من قبل التنظيم، ربما للقيام بالمزيد من التفجيرات الارهابية داخل السعودية، وهو استثناء عول عليه النظام كثيرا عندما يقارن حال المواطن السعودي بالآخرين، وفي حال تم ازالة هذا الامتياز فالتهديد سيكون كبيرا على نسيج المجتمع الداخلي.

اضف تعليق