كريستوفر سمارت

 

كمبريدج ــ يعتمد المستثمرون، مثلهم في ذلك كمثل علماء الفلك والأنثروبولوجيا، على نماذج فكرية لفهم الكون المعقد، وتوجيه الاختيارات الفورية، وترتيب الأولويات للمزيد من البحث والاستقصاء. ولكن في كثير من الأحيان تدفعنا أحداث غريبة إلى إعادة تقييم ما كنا نتصور أننا نعرفه حق المعرفة. وقد يكون ذلك ثقبا أسود، أو ربما قطعة أحفورية غريبة، أو اضطرابات سياسية، مثل الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي في المملكة المتحدة أو انتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة.

مع اقتراب عام صاخب من نهايته، تستمر الأسواق العالمية المترنحة في تسجيل أرقام قياسية جديدة. ولكن لا ينبغي للمستثمرين أن يتحيروا. ففي عام 2017، سوف يكون لزاما عليهم أن يعملوا على إعادة تقييم الكيفية التي يعمل بها الاقتصادي العالمي، وإعادة معايرة تقييمهم لكل سهم أو سند معروض للبيع وفقا لذلك، فعلى الرغم من بقاء بعض أساسيات السوق بلا تغيير، فإن أساسيات أخرى كثيرة تغيرت بوضوح.

على مدار عقدين من الزمن على الأقل، تقبل أغلب المستثمرين الإجماع السائد بين خبراء الاقتصاد وعلماء السياسة بأن العالَم أصبح أصغر حجما وأكثر تكاملا. ومع صعود الصين والهند، أصبح ثلث سكان العالَم فجأة عمالا ومستهلكين في الاقتصاد العالمي. وقدمت التكنولوجيات الجديدة الاتصالات الرخيصة، والروبوتات المتقدمة، وتحليل البيانات المتزايد القوة، وهو ما مكن الشركات من تقليص حجم مخزوناتها ودمج سلاسل الإمداد.

في الوقت نفسه، بدأ الزعماء السياسيون يطورون تدريجيا القواعد التنظيمية والتجارية التي ألغت الرسوم الجمركية، وعملت على تبسيط إجراءات عبور الحدود، وفتحت أسواقا جديدة مثيرة. وحاولت الشركات الناجحة استغلال الفرص الجديدة، وبحث المستثمرون عن الشركات التي أظهرت القدر الأكبر من وعد النجاح.

وفقا لمنظمة التجارة العالمية، تضاعفت الصادرات من السلع والخدمات التجارية إلى أربعة أمثالها منذ عام 1995. ونظرا لهذا السجل القوي، افترض أغلب صناع السياسات عندما تدهور الأداء التجاري بعد الأزمة المالية في عام 2008 أن الاتفاقيات التجارية الجديدة من شأنها أن تعزز النمو مرة أخرى. ومن جانبها، تصورت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما منطقة تجارة حرة شاسعة تشمل آسيا وأوروبا. وكان المفترض أن تضع الاتفاقيتان الكبريان اللتان لاحقتهما ــ اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تضم 12 دولة واتفاقية شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي ــ الولايات المتحدة في قلب سوق متكاملة تضم ثلثي الاقتصادي العالمي.

ولكن هذا الأمل تلاشى الآن بعد أن نجحت في الانتخابات في مختلف أنحاء الغرب حركات شعبوية استغلت حالة السخط العام إزاء النظام العالمي الناشئ. ومنذ انتخاب حزب سيريزا الراديكالي المناهض للمؤسسة في اليونان قبل عامين تقريبا، يبدو أن الناخبين اعتادوا على فكرة وقوف الحكومات الوطنية في وجه المنظمات فوق الوطنية والمتعددة الأطراف مثل المفوضية الأوروبية وصندوق النقد الدولي.

على نحو مماثل، فسر كثير من المراقبين استفتاء الخروج البريطاني بوصفه محاولة لاستعادة السيطرة على الحدود الوطنية. ورغم أن المؤرخين لن ينتهوا من مناقشة الأسباب التي أدت إلى فوز ترامب قبل أن تمر فترة طويلة بعد رحيله من منصبه، فمن الواضح الآن بالفعل أن العديد من أنصاره يريدون بالمثل أن تغلق أميركا أبوابها، وتعيد تموين خزانة مؤنها، وتعتمد بشكل أكبر على نفسها وليس الأصدقاء الأجانب.

في مجموعها، سوف تعمل هذه النتائج السياسية ــ والقوى المناهضة للمؤسسة في المسيرة السابقة للانتخابات الفرنسية والألمانية العام المقبل ــ على إيقاف التكامل الاقتصادي والسياسي العالمي، على الأقل في الأمد القريب. وفي الوقت الراهن، سوف تتجنب الدول الدخول في إي اتفاقيات تجارية كبرى، ولن تبذل أي جهود حقيقية لمواءمة قواعدها التنظيمية. وسرعان ما تواجه الشركات العاملة على الصعيد الدولي تكاليف أعلى، مع زيادة صعوبة نقل السلع عبر حدود الدول وتوظيف العمال الأجانب؛ وبوسع المستثمرين في هذه الشركات في الوقت نفسه أن يتوقعوا عائدات أقل.

الواقع أن حتى أقل منازعة تجارية بين الولايات المتحدة والمكسيك، على سبيل المثال، قد تكون باهظة التكلفة للشركات الصانعة للسيارات، لأن بعض المكونات تعبر حدود الولايات المتحدة حاليا نحو ثماني مرات خلال عملية الإنتاج. ولو لم تكن شركة بوينج تُحكِم قبضتها بالفعل على سلسلة التوريد العالمية الشاسعة لنموذجها من طراز دريملاينر، فإنها كانت لتهرول الآن للقيام بهذا بسرعة أكبر.

إذا كان الناخبون راغبين في الحد من حركة السلع والخدمات والبشر عبر الحدود، فسوف تضطر الشركات إلى بناء نموذج جديد يعيد بناء المزيد من الوفرة داخل الحدود؛ وسوف يكون لزاما على المستثمرين أن يبحثوا عن الشركات القادرة على تحقيق الربح بأقل قدر من عبور الحدود، أو تلك التي لا تزال قادرة على توليد الربح على الرغم من زيادة الاحتكاكات الناجمة عن تدابير الحماية. وعلى الهامش، سوف تضع السوق علاوة على الشركات القادرة على مراوغة الحكومات والإبحار عبر قواعد تنظيمية متضاربة، بدلا من تلك القادرة على تعزيز الإنتاجية وفتح أسواق جديدة.

في الوقت نفسه، سوف يظل لزاما على النموذج الجديد الناشئ أن يضع في الحسبان القوى الكبرى التي حافظت على النموذج القديم، وخاصة قوى العولمة والإبداع التكنولوجي التي لن تتمكن مقاومة الناخبين من إيقافها. وفي الاقتصاد العالمي اليوم، سوف تأتي دَفعة الإنتاجية الكبرى التالية من الشركات التي تقوم بتحليل بيانات المستهلكين وخطوط الإنتاج على نطاق واسع. وسوف تكون الشركات التي تقوم بهذا على النحو السليم قادرة على تصميم منتجات أفضل، بتكاليف أقل؛ ولكنها لن تحقق مكاسب كبيرة إلا إذا تمكنت من مقارنة البيانات عبر الحدود والاختصاصات. من ناحية أخرى، سوف يعمل المنطق الثابت للإنترنت، والروبوتات المعززة للإنتاجية، وتقسيم العمل كما وصفه آدم سميث أول مرة، على إجبار الحكومات على التعاون.

سوف يبحث المستثمرون الأذكياء عن الشركات القادرة على الصمود في مواجهة الثورة الشعبوية الحالية ضد العولمة والاستفادة من الاتجاهات الاقتصادية والتكنولوجية الناشئة. وسوف تكون تحليلاتهم أكثر تعقيدا لأوقات أشد تعقيدا. ولكن مثله كمثل عالِم الفلك أو عالِم الأنثروبولوجيا الماهر، سوف يجد المستثمر الناجح أنماطا يمكن الاعتماد عليها في بحر من الأدلة المتقاطعة.

* كريستوفر سمارت، كبير زملاء مركز موسافار-رحماني لإدارة الأعمال في كلية كينيدي للإدارة الحكومية في جامعة هارفارد
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق