جوزيف ناي

 

كمبريدج - تعتبر هذه السنة سنة الثورة ضد النخبة في كثير من الديمقراطيات الغربية. وتبشر عدد من الأحداث مثل نجاح حملة البريكسيت في بريطانيا، وترشيح دونالد ترامب غير المتوقع من قبل الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة، ونجاح الأحزاب الشعبية "في ألمانيا وأماكن أخرى تبشر بنهاية حقبة. كما قال الكاتب فيليب ستيفنس في جريدة فاينانشال تايمز، " يتعرض النظام العالمي الحالي - النظام القائم على قواعد ليبرالية أنشئت في عام 1945 وتوسعت بعد نهاية الحرب الباردة - لضغط غير مسبوق. العولمة في تراجع ".

في الواقع، قد يكون من السابق لأوانه استخلاص هذه الاستنتاجات العامة.

ويعزو بعض الاقتصاديين الارتفاع الحالي للشعوبية إلى "الإفراط في العولمة" منذ التسعينيات من القرن الماضي، مع تحرير التدفقات المالية الدولية، وإنشاء منظمة التجارة العالمية - وخاصة انضمام الصين لمنظمة التجارة العالمية في عام 2001 – وتلقت هذه التطورات أكبر قدر من الاهتمام. ووفقا لإحدى الدراسات، أدت الواردات الصينية إلى إلغاء ما يقرب من مليون وظيفة في قطاع التصنيع في الولايات المتحدة في الفترة ما بين 1999 و2011. وإذا أضفنا إلى ذلك الواردات والصناعات ذات الصلة فقد ترتفع الخسائر إلى 2.4 مليون.

كما صرح الخبير الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل انجوس ديتون، "ما هو صادم هو أن بعض المعارضين للعولمة نسوا أن بليون شخص قد تخلصوا من الفقر إلى حد كبير بسبب العولمة". ومع ذلك، يضيف أن للاقتصاديين مسؤولية أخلاقية لعدم تجاهل أولئك الذين هُمشوا. وقد صب تباطؤ النمو وتفاقم عدم المساواة الزيت على النار السياسية.

ولكن علينا أن نكون حذرين من إسناد الشعبوية فقط للضائقة اقتصادية. فقد اختار الناخبون البولنديون حكومة شعبوية على الرغم من الاستفادة من واحد من أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أوروبا، في حين تبدو كندا في مأمن من مزاج المناهضة للمؤسسات التي تؤرق جارتها الكبيرة في عام 2016.

وفي دراسة متأنية لارتفاع دعم الأحزاب الشعبوية في أوروبا، وجد العالِمَين السياسِيَين رونالد إنكهارت من جامعة ميشيغان وبيبا نوريس من جامعة هارفارد، أن انعدام الأمن الاقتصادي في مواجهة التغيرات في أوساط القوى العاملة في مجتمعات ما بعد الصناعية له تأثير أقل من ردة الفعل الثقافي. وبعبارة أخرى، دعم الشعبوية هو رد فعل قطاعات سكانية، كانت مهيمنة، للتغيرات التي حدثت في القيم التي تهدد أوضاعها. "يبدو أن الثورة الصامتة في السبعينيات قد ولدت ثورة مضادة ورد فعل عنيف مليء بالغضب والاستياء اليوم"، كما كتب إنكهارت ونوريس.

في الولايات المتحدة، تظهر استطلاعات الرأي أن أغلب أنصار ترامب من كبار السن، الذكور البيض الأقل تعليما. ويوجد عدد قليل من الشباب والنساء والأقليات في ائتلافه. ويدعم أكثر من 40٪ من الناخبين ترامب، ولكن مع انخفاض البطالة على المستوى الوطني، يُعزى جزء قليل من هذا الدعم في المقام الأول للمناطق الضعيفة اقتصاديا.

على العكس من ذلك، في أمريكا، أيضا، هناك ما هو أكثر من تأثر الشعوبية بالاقتصاد فقط. ولاحظ استطلاع يوجوف بتكليف من مجلة الإيكونوميست تنامي الاستياء العنصري القوي بين مؤيدي ترامب، الذين استخدموا قضية "بيرثر" (التشكيك في صلاحية شهادة ميلاد باراك أوباما، أول رئيس أسود لأمريكا)، مما ساعد على وضع ترامب على الطريق السريع في حملته. وشكلت معارضته للهجرة، بما في ذلك فكرة بناء الجدار وجعل المكسيك يدفع ثمنه، بمثابة ركيزة في برنامجه العرقي في وقت مبكر.

غير أن استطلاع منظمة بيو الأخير أظهر تنامي المشاعر المؤيدة للمهاجرين في الولايات المتحدة، نسبة 51٪ من البالغين تؤيد القادمين الجدد بدعوى أنهم سيساهمون في تقوية البلاد، في حين يعتقد 41٪ أنهم يشكلون عبئا. وتعد هذه النسبة انخفاضا من 50٪ في منتصف عام 2010، عندما أثار الكساد الحاد مشاعر مناهضة للمهاجرين. في أوروبا، على النقيض من ذلك، كان للتدفقات الكبيرة والمفاجئة للاجئين السياسيين والاقتصاديين من الشرق الأوسط وأفريقيا آثارا سياسية أقوى، مع تّأكيد العديد من الخبراء أن البريكسيت كان سببه الهجرة إلى بريطانيا أكثر من مشكل البيروقراطية في بروكسل.

ويمكن للكراهية تجاه النخب أن تكون نتيجة الاستياء الاقتصادي والثقافي. فقد حددت نيويورك تايمز مؤشرا رئيسيا للمناطق ذات الميول لترامب: غالبية السكان البيض المنتمين للطبقة العاملة التي تأثرت سلبا خلال العقود تقلصت على إثرها سبل عيشهم بسبب تراجع القدرات التصنيعية للاقتصاد الأمريكي. ولكن حتى لو لم يكن هناك عولمة اقتصادية، فقد خلق التغير الثقافي والديموغرافي قدرا من الشعبوية.

ولكن من المبالغة القول إن انتخابات 2016 ستدعم الاتجاه الانعزالي الذي سينهي عصر العولمة. بدلا من ذلك، على النخب السياسية التي تؤيد العولمة والاقتصاد المنفتح معالجة عدم المساواة الاقتصادية ومساعدة من تقهقرت حالته بسبب التغيير على التكيف. وسوف تكون للسياسات التي تحفز النمو، مثل الاستثمار في البنية التحتية، آثارا مهمة أيضا.

قد تختلف أوروبا بسبب المقاومة المتزايدة للهجرة، ولكن من الخطأ التنبؤ بأن النبرة المتحمسة للحملة الانتخابية لهذا العام ستكون لها تداعيات طويلة الأمد على الرأي العام الأمريكي. وبينما تؤكد التوقعات أن الاتفاقات التجارية الجديدة المتطورة سوف تشهد انخفاضا، فإن ثورة المعلومات قد عززت المبادلات العالمية، وعلى عكس الثلاثينيات (أو حتى الثمانينيات)، لن تكون هناك عودة إلى الحمائية.

في الواقع، ازدهر الاقتصاد الأمريكي اعتمادها على التجارة الدولية. وفقا لبيانات البنك الدولي لفترة ما بين 1995 وعام 2015، زادت التجارة السلعية من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.8 نقطة مئوية. وعلاوة على ذلك، في عصر الإنترنت، زادت مساهمة الاقتصاد الرقمي عبر الحدود الوطنية في الناتج المحلي الإجمالي بسرعة.

في عام 2014، صدرت الولايات المتحدة 400 بليون دولار من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات (ICT) ما يناهز نصف جميع صادرات الخدمات في الولايات المتحدة. وفي الشهر الماضي نشر مجلس شيكاغو للعلاقات الخارجية استطلاعا للرأي مفاده أن 65٪ من الأميركيين يتفقون أن العولمة في معظمها مفيدة بالنسبة للولايات المتحدة، في حين يظن 59٪ أن التجارة الدولية جيدة للبلاد، ويدعم الشباب بشكل قوي هذا الاتجاه.

لذلك، إذا كان عام 2016 هو عام الشعبوية السياسية بامتياز.. فذاك لا يعني أن "الانعزالية" وصف دقيق للمواقف الأمريكية الحالية تجاه العالم. في الواقع، في جوانب حاسمة - كقضايا الهجرة والتجارة - يبدو خطاب ترامب في تناقض مع مشاعر معظم الناخبين.

* سكرتير مساعد وزير الدفاع السابق، وأستاذ في جامعة هارفارد، مؤلف كتاب القوة الناعمة وكتاب بعنوان مستقبل القوة

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق