آراء وافكار - وجهات نظر

نمو النصف رغيف

مايكل سبنس

 

ميلانو ــ في وقت يتسم بالنمو الاقتصادي الباهت الضعيف، تحاول الدول في مختلف أنحاء العالم ابتكار وتنفيذ استراتيجيات قادرة على تحفيز ودعم التعافي. والكلمة المفتاح هنا هي "الاستراتيجية": فلتحقيق النجاح، يتعين على صناع السياسات أن يعملوا على ضمان تنفيذ التدابير اللازمة لفتح الاقتصاد، وتعزيز الاستثمار العام، وتحسين استقرار الاقتصاد الكلي، وزيادة الاعتماد على الأسواق والحوافز في عملية تخصيص الموارد، في هيئة حِزَم مكتملة إلى حد معقول. ذلك أن الاكتفاء بملاحقة بعض هذه الأهداف يُفضي دوماً إلى نتائج سيئة بشكل واضح.

وتقدم لنا الصين مثالاً واضحا. فقبل أن يُطلِق دنج شياو بينج سياسة "الإصلاح والانفتاح" في عام 1978، كانت الصين تتميز بمستوى مرتفع نسبياً من استثمارات القطاع الخاص. ولكن الاقتصاد المخطط مركزياً كان يفتقر إلى حوافز السوق وكان مغلقاً إلى حد كبير أمام الأسواق الرئيسية في الاقتصاد العالمي للسلع والاستثمار والتكنولوجيا. وكانت العائدات على الاستثمار العام نتيجة لذلك ضعيفة ومتواضعة، وكان الأداء الاقتصادي في الصين دون المتوسط.

بدأ التحول الاقتصادي في الصين مع إدخال حوافز السوق في القطاع الزراعي في ثمانينيات القرن العشرين. وفي أعقاب هذه الإصلاحات جاء الانفتاح التدريجي على الاقتصاد العالمي، وهي العملية التي تسارعت في أوائل التسعينيات. واندفع النمو الاقتصادي إلى الأمام، وارتفعت العائدات على الاستثمار العام إلى عنان السماء، لكي تحقق معدل نمو سنوي أعلى من 9% من الناتج المحلي الإجمالي، بعد فترة وجيزة من تنفيذ الإصلاحات.

ويتلخص المفتاح إلى استراتيجية النمو الناجحة في ضمان قدرة السياسات على تعزيز وتحسين بعضها البعض. على سبيل المثال، يتطلب تعزيز العائدات على الاستثمار العام ــ وهو أمر بالغ الأهمية لأي خطة نمو ــ الاستعانة بسياسات وشروط تكميلية، في مجالات تتراوح بين تخصيص الموارد والبيئة المؤسسية. ومن حيث الفعالية، تشكل حزمة السياسات ما هو أكثر من مجموع أجزائها.

بطبيعة الحال، تتفاوت محافظ السياسات المحددة تبعاً لمرحلة التنمية التي تمر بها أي دولة؛ وتختلف ديناميكيات النمو في المراحل المبكرة تمام الاختلاف عن تلك السائدة في الدول المتوسطة الدخل والمتقدمة. ولكن الحتمية هي ذاتها في كل الأحوال. فتماماً كما لم تتمكن الصين النامية من تحقيق النمو السريع إلا عندما نفذت حزمة سياسات شاملة، فإن الدول المتقدمة التي تناضل من أجل استعادة أنماط النمو المستدام اليوم وجدت أن حزم السياسات غير المكتملة تنتج التعافي البطيء وانخفاض معدلات النمو وخلق فرص العمل إلى ما دون المستويات المحتملة.

ولنتأمل هنا أداء الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الأزمة. برغم أن كلاً من الكيانين نال حصته من المشاكل، فإن أداء الولايات المتحدة أفضل بعض الشيء (ولو أنها لا تزال تواجه تحديات كبرى في ما يتصل بتوليد فرص العمل المتوسطة الدخل).

والفارق هنا ليس أن الولايات المتحدة أطلقت حوافز مالية كبيرة ركزت على الاستثمار في القطاع العام؛ فلم يتم تقديم حوافز من هذا النوع، برغم أن العديد من خبراء الاقتصاد، وأنا منهم، يعتقدون أن ذلك كان ليولد التعافي الأسرع والنمو الأقوى في الأمد البعيد. ولا يكمن الفارق في الفعالية السياسية الأكبر؛ فالحق أن قِلة من المراقبين قد يزعمون أن حكومة الولايات المتحدة تعمل بشكل جيد في الوقت الحاضر، نظراً لتصاعد النزعة الحزبية والخلافات الحادة حول الدور المناسب للحكومة.

والواقع أن الاقتصاد الأميركي استفاد من عاملين: ارتفاع مستويات مرونته وديناميته البنيوية مقارنة بأوروبا، والتفويض الأوسع الذي يتمتع به مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، والذي انتهج سياسة نقدية أكثر عدوانية من تلك التي انتهجها البنك المركزي الأوروبي. ورغم اختلاف المحللين حول الأهمية النسبية لهذين العاملين ــ والواقع أن وزنهما أمر صعب ــ فمن المأمون أن نقول إن كلاً منهما لعب دوراً في تيسير التعافي في الولايات المتحدة.

والآن تراهن أوروبا بالكثير على زيادة الاستثمار في القطاع العام، باستخدام تركيبة من التمويل على مستوى الاتحاد الأوروبي وبرامج الاستثمار الوطنية، والتي ربما يتم تعزيزها من خلال تعديل القواعد المالية المعمول بها في الاتحاد الأوروبي. ولأن نقص الاستثمار في القطاع العام سبب شائع للنمو بمعدلات دون المتوسط، فهي خطوة في الاتجاه الصحيح.

ولكن الاستثمار العام لا يكفي. ففي غياب الإصلاحات البنيوية المكملة التي تعمل على تشجيع الاستثمار الخاص والإبداع ــ وبالتالي تمكين الاقتصادات من التكيف والمنافسة في اقتصاد عالمي تحركه التكنولوجيا ــ تخلف برامج الاستثمار العام تأثيراً ضعيفاً إلى حد مخيب للآمال على النمو. وبدلاً من ذلك، سوف ينتج الاستثمار العام الممول بالاستدانة حوافز قصيرة الأمد، ولكن على حساب الاستقرار المالي في الأمد البعيد.

والمشكلة هي أن الإصلاحات البنيوية صعبة التنفيذ للغاية. فهي بادئ ذي بدء تواجه مقاومة سياسية من الخاسرين في الأمد القريب، بما في ذلك الشركات والقطاعات التي تحتمي بالجمود الحالي. وعلاوة على ذلك، فمن أجل ضمان استفادة الجميع من هذه الإصلاحات في نهاية المطاف، فلابد من غرس ثقافة الثقة والإصرار على منع الترتيبات الأكثر مرونة من أن تؤدي إلى التلاعب والانتهاكات.

وأخيرا، تحتاج الإصلاحات البنيوية إلى الوقت قبل أن تبدأ في التأثير. ويصدق هذا بشكل خاص في منطقة اليورو، التي تخلى أعضاؤها عن أداة حاسمة للتعجيل بالعملية ــ تعديلات سعر الصرف لاستيعاب مستويات الإنتاجية في الاقتصادات المختلفة ــ عندما أدخلوا العملة الموحدة.

مؤخرا، زعم رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي أن بلدان الاتحاد الأوروبي الفردية ربما ما كان ينبغي لها أن تتمتع بسيطرة غير مقيدة في مجالات معينة تتعلق بالسياسات، وذلك لأن السياسات المثبطة للنمو التي تنتهجها تخلف تأثيرات سلبية خارجية. ورغم أن الصلاحيات الإشرافية المالية للبلدان الأعضاء يجري تقييدها بالفعل من خلال مركزية التنظيم المصرفي وآليات الحل، فإن اقتراح دراجي كان أبعد مدى.

ويتساءل المرء ما إذا كان اقتراح دراجي قابل للتطبيق على المستوى السياسي في بيئة الاتحاد الأوروبي. وحتى لو كان الأمر كذلك، فهل يكون ضروريا؟ الواقع أن كل الاقتصادات لديها وحدات فرعية تتباين من خلالها الإنتاجية الاقتصادية والنمو والدينامية بشكل كبير. بل إن الفوارق في جودة الحكم والسياسات تبدو مستمرة، حتى في الاقتصادات التي تؤدي بشكل طيب إلى حد كبير إجمالا.

وربما يتلخص جزء من الإجابة في منع الوحدات الفرعية ــ في حالة الاتحاد الأوروبي، البلدان الأعضاء ــ من التقاعس عن تنفيذ الإصلاحات. ولكن المركزية ليست بلا تكاليف.

ونظراً للمخاطر الكامنة في المراهنة على تقارب السياسات، فإن تنقل العمالة ــ والذي يمكن رأس المال البشري العظيم القيمة، وخاصة الشباب الجيد التعليم، من مغادرة المناطق المتأخرة إلى تلك التي تعرض فرص عمل أكثر وأفضل ــ قد يشكل أداة بالغة الأهمية للتعديل.

في ظل الظروف الحالية، تتسم عملية تنقل العمالة بالنقص في الاتحاد الأوروبي. ولكن مع التدريب على اللغات وتنفيذ شيء من قبيل استراتيجية لشبونة للنمو وفرص العمل (والتي كانت تهدف إلى خلق "اقتصاد متعلم" مبدع تدعمه سياسات اجتماعية وبيئية شاملة)، يصبح من الممكن تعزيز عملية التنقل.

ولكن انتقال العمالة بشكل أكثر مرونة وسيولة ليس الدواء لكل داء. فكما هي الحال مع كل عنصر آخر في أي استراتيجية للنمو، تشكل الجهود المتعاضدة السبيل الوحيد لتحقيق النجاح. وقد يكون نصف الرغيف أفضل من لا شيء على الإطلاق، ولكن نصف المكونات لا يترجم أبداً إلى نصف النتائج المرجوة.

* حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وأستاذ علوم الاقتصاد في كلية جامعة نيويورك شتيرن لإدارة الأعمال

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق