مايكل هايس

 

ميونيخ ــ على الرغم من سنوات من السياسة النقدية التوسعية، فشل البنك المركزي الأوروبي في دفع التضخم إلى الارتفاع إلى المعدل المستهدف (أقل من، ولكن بالقرب من، 2%). ومن غير المرجح أن تنجح أحدث التدابير ــ فرض سِعر الفائدة صِفر على عمليات إعادة التمويل الرئيسية التي ينفذها البنك المركزي الأوروبي، وزيادة المشتريات الشهرية من الأصول من 60 مليار يورو (67 مليار دولار أميركي) إلى 80 مليار يورو، بل وحتى فرض سِعر فائدة أقل على الودائع بلغ 0.40% بالسالب ــ في تغيير هذا الوضع. ولهذا السبب يحث بعض خبراء الاقتصاد البنك المركزي الأوروبي على تنفيذ المزيد من ما يسمى "الإنزال بالهليوكوبتر" ــ أي تمويل الاستهلاك الخاص من خلال طباعة النقود.

ترجع فكرة تمويل الاستهلاك الخاص بطباعة النقود إلى مناظرات المدرسة النقدية في ستينيات القرن العشرين. يزعم أنصار هذه الفكرة أن خيارات البنك المركزي لا تنفد أبدا عندما يتعلق الأمر بتحفيز الطلب الكلي وزيادة التضخم، شريطة أن يكون على استعداد للجوء إلى تدابير متطرفة. ولكن يبدو أن ما كان ذات يوم مجرد مفهوم نظري تحول الآن إلى احتمال ملموس.

تأتي عمليات الإنزال بالهليوكوبتر في هيئة مدفوعات لمرة واحدة للأسر أو قسائم الاستهلاك للجميع، بتمويل من قِبَل البنوك المركزية بالكامل. ويقيد لحساب الحكومات أو البنوك المركزية التي توزع المال وديعة أو تُعطى المال نقدا، مع عدم خلق أي مطالبة على الجانب الأيسر من الميزانية العمومية للبنك المركزي.

ويعمل هذا النوع من المحاسبة الفردية على تقليل رأس المال النقدي لدى البنك المركزي، ما لم يحقق (يبع) احتياطيات التقييم على ميزانيته العمومية. ويدافع أنصار هذا النهج عنه بالزعم بأن البنوك المركزية عُرضة لقواعد محاسبية خاصة يمكن تعديلها حسب الحاجة.

ويضم معسكر أنصار تمويل الاستهلاك الخاص بطباعة النقود اليوم بعض الشخصيات البارزة، بما في ذلك رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي السابق بن برنانكي وأدير تيرنر الرئيس السابق لهيئة الخدمات المالية في المملكة المتحدة. وفي حين أكَّد رئيس البنك المركزي الأوروبي ماريو دراجي على العقبات الفنية والقانونية والمحاسبية التي تحول دون إنزال الأموال بالهليكوبتر من قِبَل مؤسسته، فإنه لم يستبعد هذا النهج.

والسؤال الآن هو: هل مثل هذه الخطوة المتطرفة مبررة حقا؟

الإجابة هي "كلا". ففي حين يشكل هذا النهج خيارا سياسيا قابلا للتطبيق إذا كان الانكماش يتجه نحو الهبوط، كما كانت الحال في أواخر عشرينيات وأوائل ثلاثينيات القرن العشرين، فإن هذه ليست الحال اليوم ــ ليس في منطقة اليورو ولا في الاقتصاد العالمي.

صحيح أن نمو الطلب هزيل، وهو ما يعكس التداعيات التي خلفتها الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008. وصحيح أن البنوك والشركات والأسر لا تزال تحاول تنظيف ميزانياتها العمومية والتخلص من أكوام من الديون التي كدستها خلال طفرة الائتمان التي سبقت الانهيار. ولكنها أحرزت بالفعل تقدما كبيرا، وهذا يعني أن الضغط على النمو يتجه نحو التناقص.

لا يُحجِم المستهلكون اليوم عن الإنفاق لأنهم يتوقعون انخفاض أسعار السلع والخدمات، كما كان المرء ليتوقع خلال فترة انكماش. بل إنهم يزيدون إنفاقهم تدريجيا، مستغلين فرصة استعادة نمو الدخل والمكاسب الكبيرة في القوة الشرائية بفِعل انهيار أسعار النفط والسلع الأساسية. ونتيجة لهذا، عادت أغلب الاقتصادات المتقدمة مرة أخرى إلى معدلات إنتاج قريبة من القدرة.

كما تتناقض البيانات حول أرباح الشركات مع الرأي القائل بأننا كنا غارقين في الانكماش. فلم يضع استقرار الأسعار هوامش الربح تحت الضغط. بل على العكس من ذلك، في العديد من الاقتصادات المتقدمة كانت الأرباح مرتفعة ــ حتى أنها بلغت مستويات غير مسبوقة ــ وهو ما يرجع جزئيا إلى انخفاض تكاليف المدخلات.

في هذه البيئة، يخلف توزيع الهبات التي يمولها البنك المركزي عواقب جهازية خطيرة في الأمد البعيد، لأنه من شأنه أن يخلق حوافز ضارة لكل الأطراف المعنية. وقد يستسلم صناع السياسات لإغراء اللجوء إلى تمويل الاستهلاك الخاص بطباعة النقود كلما لم يأت النمو قويا قدر ما يرغبون، بدلاً من تنفيذ الإصلاحات البنيوية الصعبة التي تعالج الأسباب الكامنة وراء ضعف الأداء الاقتصادي.

كل هذا من شأنه أن يرفع سقف التوقعات بين القوى الفاعلة في الأسواق المالية إلى الحد الذي يجعل البنوك المركزية والحكومات مضطرة للتدخل دوما لتذليل الفقاعات الائتمانية وتخفيف العواقب المترتبة عليها، حتى لو كان ذلك يعني تكديس المزيد من الديون. وبالتالي يصبح إدراك هذه القوى للمخاطر مشوها، ويتضاءل الدور الذي تلعبه علاوات المخاطر.

وإذا أضفنا إلى هذا التأثير الناجم عن نضوب احتياطيات التقييم وخطر حقوق الملكية السلبية ــ وهي من التطورات التي قد تقوض مصداقية البنوك المركزية وبالتالي العملات ــ فسوف يتبين لنا بوضوح أن فكرة طباعة النقود لتمويل الاستهلاك الخاص لابد أن تَظَل في الوقت الحالي على الأقل حبيسة عالَم المناظرات الأكاديمية.

* كبير الاقتصاديين في شركة أليانز

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق