المجتمعات المتخلفة عموماً، والدول الريعية خصوصاً، لا يمكنها أن تحقق أي توازن للقوة لمصلحة المدنيين على المديين القريب والمتوسط على الأقل؛ وهذا لأن الدول المتخلفة والريعية تعاني تخلفاً اقتصادياً رهيباً يرهن كل المستويات الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم يبقى المدنيون دائماً في مستوى أدنى من حيث القوة...
بقلم: طيبي غماري

يمكن التمييز من بين الدراسات المؤسسة لحقل العلاقات المدنية العسكرية، بين موقفين مختلفين:

أولاً : موقف النظرية السياسية

لصاحبها صاموئيل هنتنغتون، الذي نلخصه في تصوره لهيمنة العسكري على المدني، وتورط العسكري في النشاط السياسي للدولة، بوصف ذلك انحرافاً في تسيير العلاقات بين المدنيين والعسكريين، انحرافاً يعزوه إلى ضعف احترافية العسكر، أي إنه -حسب هنتنغتون- عندما تضعف احترافية العسكر فإنهم يميلون إلى تجاوز صلاحياتهم الأمنية والدفاعية، ليتقمصوا دور رجل السياسة المسلح، ومن ثم يمكن -حسب رأيه- معالجة هذا الانحراف عن طريق تدريب الجيش على الاحترافية.

تمثل هذه الرؤية رؤية وظيفية ميكانيكية، تحدد مكمن الخلل وتقترح سبل تجاوزه، لكن الفعل الإنساني والاجتماعي، ومن ذلك العلاقات المدنية العسكرية، قد يخضع لضغوط وظروف مستجدة، تفقد الاحترافية قيمتها، وهذا يفرض البحث عن رؤية أكثر تناسباً مع تطور العلاقات المدنية العسكرية بوصفها ظاهرة إنسانية واجتماعية معقدة.

من جهة أخرى يبدو موقف هنتنغتون اختزالياً، إذ إنه يرى في غياب الاحترافية سبباً وحيداً لهذا التدخل، نافياً بذلك التاريخ المعقد الذي تشكلت فيه الدولة والمؤسسات السياسية، حيث ينظر هنتنغتون إلى الدولة على أنها بناء جاهز، في حين أنه في حالة كثير من الدول لا تزال الدولة قيد التشكل والبناء، ولذا فلا مجال للحديث عن الاحترافية في وضع مؤقت كالذي تعيشه الدول التي تكون في طور البناء.

ثانياً: موقف النظرية السوسيولوجية

ورائدها موريس جانويتز، التي لا تنظر إلى تسييس العسكر على أنه انحراف، بل تعده حالة طبيعية، فالجندي غير المسيس بالنسبة لها هو مرتزق وليس جندياً، ومن ثم تنطلق هذه النظرية من استحالة الفصل بين العسكري والسياسي عملياً، وعليه يصبح مطلب النظرية السياسية مطلباً خيالياً وطوباوياً، غير قابل للتحقق المثالي في أرض الواقع، ومن ثم يصبح التساؤل -حسب جانويتز- ليس كيف نبعد العسكري عن السياسة؟ وإنما كيف نجعل العسكري متشبعاً بالروح السياسية الوطنية وفي نفس الوقت يحترم حدود وظيفته المتمثلة في الدفاع عن هذه الوطنية، ولا يتدخل في العمل السياسي إلا بما يزيد من حماية الوطن والوطنية؟ وهنا يقترح جانويتز تكويناً بيداغوجياً شاملاً، لا يكتفي بتدريب العسكر في الثكنات على الاحترافية، كما يعتقد هنتنغتون، وإنما يشمل كل المجتمع وفي كل المراحل، حتى يتشبع المواطن، سواء كان عسكرياً أو مدنياً، بروح الانضباط والالتزام بالحدود التي تفرضها السلطة المدنية على مهام ووظائف العسكر.

ثالثاً: وهذا هو موقفي الخاص من هذه المسألة

والذي أعده أكثر تلاؤماً مع الخصوصية العربية على وجه التحديد، فإلى حد ما أنا أميل إلى طرح النظرية السوسيولوجية، ولكنني أرى أنها ظلت على المستوى العملي تقريباً في نفس مستوى الضعف الذي ميز النظرية السياسية، ومن ثم وجب التفكير في تعديل سريع، وفي نفس الوقت عميق، لتتمكن هذه النظرية من الاستجابة لإشكالية العلاقات العسكرية المدنية بشكل أكثر توازناً وإقناعاً، خاصة بالنسبة للحالة العربية.

أنا أتفق مع جانويتز في كون مشاركة الجيش في الفعل السياسي مسألة طبيعية، ولا يمكن الوصول إلى حالة العزل المطلق للجيش عن السياسة، وأختلف معه في مسألة مهمة، وربما هذه هي الإضافة التي أريد أن أقدمها في معالجة هذه الإشكالية، وهي أن النظر إلى إشكالية العلاقات المدنية العسكرية يجب ألا يكون على أساس الوصول إلى حالة الفصل المثالي بين المدني والعسكري، وإنما يجب أن يكون على أساس وعي وإدراك وجود كل من المدني والعسكري كمتغيرين أساسيين في علاقة واحدة مشتركة غير قابلة للفصل، وهو ما يحوِّل هذه العلاقة إلى معادلة، سنسميها هنا بمعادلة توازن القوة.

إذن العلاقات العسكرية المدنية في نظري هي في النهاية “معادلة توازن قوة” بين العسكري والمدني، فعندما يكون المدني قوياً بما يكفي يهمين على العسكري، مهما كانت القوة المادية التي بحوزته، وعندما يكون المدني ضعيفاً فإنه يخضع للهيمنة العسكرية حتى وإن لم تكن القوة المادية للعسكر كبيرة. وعليه تجسد هذه المعادلة العلاقة العسكرية المدنية، وتضبط بدقة ووضوح علاقة العسكر بالسياسة، وتفسر لنا كيف أنه في كل دول العالم، حتى في تلك التي تقدس الديمقراطية، هناك دائماً صراع خفي ومستمر بين منطقين؛ منطق عسكرة المدني، ومنطق تمدين العسكر، علماً أن هذين المنطقين يمكن أن يتجسدا في واقع الدول من خلال واحدة من العلاقات الأربع التالية:

1ـ علاقة المدني الذي يرغب في أن يكون له مجموعة من الجنرالات الذين يحمون القانون والدستور والشعب؛ (فينشأ نظام مدني).

2- في مقابل علاقة المدني الذي يرغب في أن يكون له مجموعة من الجنرالات الذين يحمون شخصه وسلطته؛ (فينشأ نظام شمولي).

3- وعلاقة الجنرالات الذين يريدون أن يكون لهم رئيس يحمي القانون والدستور والشعب؛ (فينشأ نظام مدني تحت وصاية عسكرية).

4- في مقابل علاقة الجنرالات الذين يريدون أن يكون لهم رئيس يحمي مصالحهم وامتيازاتهم؛ (فينشأ نظام عسكري).

ولهذا لا يمكننا الحديث عن فصل مطلق بين العسكري والسياسة، ومن ثم تعد العلاقات العسكرية المدنية، كحالة مناورة دائمة، نوعاً من الحرب المزمنة، يجري التنافس فيها على غزو “قوة إضافية” تمنح سلطة جديدة، فيحاول كل طرف إخضاع الطرف الآخر، وتبقى حالات تفوق هذا الطرف أو ذاك مرتبطة بمقدار القوة التي يحوزها في نهاية كل معركة.

وهذا ما يقودنا إلى نتيجة مهمة، وهي أنه ليس هناك حل نهائي أو سحري لإشكالية العلاقات العسكرية والمدنية في أي نظام، سواء كان ديمقراطياً ديمقراطية حقيقية أو شكلية، وهذا ما يفسر إقرارنا بأن تدخل العسكر في السياسة موجود في كل الحالات، وفي كل الأنظمة، ولكن بطرق وأشكال مختلفة، تتغير بحسب تغير موازين القوة بين الطرفين، فتختلف نسب التدخل، واختلاف هذه النسبة لا يتحدد باحترافية الجيش كما يرى هنتنغتون، ولا بالتكوين البيداغوجي الشامل للمجتمع كما يرى جانويتز، وإنما بمدى امتلاك المدني لعوامل القوة التي تمكنه من مواجهة قوة العسكر وسطوتهم.

إذن تتلخص الإضافة التي أقدمها في هذا الحقل في أنني أعتبر أن الصراع بين المدني والعسكري هو صراع مزمن ولا سبيل للتفكير في كيفية وقفه، وإنما يجب التفكير في كيفيات حسمه (الصراع) لمصلحة المدني، ومن هنا فإن موقفي يختلف عن موقف هنتنغتون وجانويتز في أنهما كانا يعتبران أن معالجة إشكالية تدخل العسكر في السياسة يجب أن تنطلق من العسكر، في حين أني أرى أنه يجب أن تنطلق وفي نفس الوقت من العسكر، باعتماد التدريب على الاحترافية، والتكوين البيداغوجي على المواطنة، ومن المدنيين بمساعدتهم على الوصول إلى مصادر القوة الكافية، التي تسمح لهم بمواجهة احتمالات التسلط العسكري عليهم.

إذن كيف يمكن لمن يملك القوة أن يَخْضَعَ لمن لا يملكها؟

وفق التصور الذي أسسته على ما أسميته بمعادلة توازن القوة بين المدني والعسكري، فالمسألة ليست مسألة السماح للجيش بممارسة السياسة من عدمها، وإنما المسألة مسألة قوة، وكيف نجعل هذه القوة قادرة على ضبط الفعل السياسي لدى العسكري، وجعله في خدمة الوطن، فعندما يكون المدنيون أقوياء يمكنهم فرض سلطتهم على الجميع، ومن ضمنهم الجيش، وعندما يكون العسكريون أقوياء فإنهم سيستمرون في نشر قواتهم ليحتلوا السلطة المدنية، وفي كل الحالات، ومهما كان وضع المدني والعسكري في هذه المعادلة فإنه سيستمر في المناورة من أجل ضبط وتعديل ميزان القوة لمصلحته. ومن هنا يصبح الحسم النهائي غير ممكن في العلاقات العسكرية المدنية، فالتناسب بين القوة المدنية والقوة العسكرية، لا يعرف شكلاً خطياً ثابتاً، بل إنه يتغير باستمرار، وقد ينقلب من الضد إلى الضد، بحسب تغير موازين القوة بين الطرفين.

من هنا، تبقى إشكالية العلاقات العسكرية المدنية في الدول النامية، وفي الحالة العربية على وجه الخصوص، مسألة ميل ميزان القوة لمصلحة العسكر، في مقابل ضعف أو إضعاف مستمر للمدنيين، ومن ثم فالسؤال المطروح ليس: كيف نجعل الدولة مدنية؟ ولا: كيف نعزل الجيش عن السياسة؟ بل السؤال المطروح هو: كيف يصبح المدنيون أقوياء بالشكل الذي يعطيهم السلطة للتحكم في العسكر؟

بهذا تتغير صيغة السؤال من: كيف نجعل العسكري طائعاً خاضعاً للمدني، إلى: كيف نجعل المدني قوياً بما يسمح له بالتحكم في العسكري؟ وهنا لن تكون الإجابة بالسهولة التي قدمتها النظرية السياسية، أو النظرية السوسيولوجية، لأن التاريخ يبين لنا أن الدول التي تمكنت من ضمان توازن معادلة القوة لمصلحة المدنيين، هي الدول المتطورة، بمعنى أن مسألة قوة المدنيين في مقابل العسكريين، ليست مسألة وصفة جاهزة نقدمها للمعارضة السياسية المدنية، في أي مكان وفي أي مجتمع، فتنفذها وتُخضع العسكريين لسلطتها، بل هي مسألة تطور شامل للمجتمع، علماً أن هذا التطور يبدأ بالمجال الاقتصادي، ليشمل فيما بعد كل المجالات الاجتماعية الأخرى.

فعندما نتابع التطور الحاصل في الغرب سنلاحظ أن وصول هذه الدول إلى هذا المستوى من توازن القوة بين العسكري والمدني، ووصول المدنيين إلى هذا المستوى من القوة، مر عبر كثير من التحولات الاجتماعية التي تمت عبر ثورات اقتصادية وسياسية وثقافية شاملة غيرت المجتمعات الغربية رأساً على عقب، طوال القرون الثلاثة الماضية.

يجب التأكيد هنا أن قوة العسكر هي قوة مادية، يمكن أن تحسن باقتناء وتجديد العتاد وانتقاء الموارد البشرية وتقوية التدريب، أما القوة المدنية فهي قوة رمزية، تتأسس على مشروعية الوصول إلى السلطة، علماً أن هذا الهدف هو النتيجة النهائية لمسار تطوري وتنموي هائل للمجتمع ككل، مسار ينطلق من الاقتصاد وينتهي بالسياسة مروراً بالثقافة. يمنح تطور الاقتصاد الحر الاستقلالية للمجتمع بحيث لا يبقى تحت رحمة أية جهة كانت، فعندما يتحرر المجتمع اقتصادياً، يمكن أن يتحرر سياسياً، ومن ثم يمكن أن يحقق قيم الشرعية في تقاسم السلطة، وهو ما يمنحه القوة التي تسمح له بالتحكم في القوة المادية للعسكر ولغيرهم. يسمح لنا هذا الطرح بفهم جنوح العديد من الجيوش في العالم اليوم نحو الانخراط في المجال الاقتصادي، فالجيوش التي تتبع هذا النهج يمكن أن تُعد جيوشاً مدركة لصلب المشكلة، لأنه باقتحامها عالم الاقتصاد والنجاح فيه تغلق اللعبة نهائياً، وتمنع المدنيين من الوصول إلى أهم مصادر القوة، أو على الأقل تنافسهم عليها، بحيث لا يحقق المدنيون استقلاليتهم، فيثبتون في وضع الزبونية، الذي يتكرم به العسكر عليهم.

تقودنا هذه الملاحظة التي نُصرُّ من خلالها على ربط قوة المدنيين بقوة المجتمع ككل، إلى تقرير مهم، وهو أن المجتمعات المتخلفة عموماً، والدول الريعية خصوصاً، لا يمكنها أن تحقق أي توازن للقوة لمصلحة المدنيين على المديين القريب والمتوسط على الأقل؛ وهذا لأن الدول المتخلفة والريعية تعاني تخلفاً اقتصادياً رهيباً يرهن كل المستويات الأخرى، السياسية والاجتماعية والثقافية، ومن ثم يبقى المدنيون دائماً في مستوى أدنى من حيث القوة، بالمقارنة مع العسكر، ولذا سيبقون عقوداً أخرى تحت هيمنتهم.

* طيبي غماري، عميد سابق لكلية العلوم الانسانية والاجتماعية بجامعة معسكر استاذ بجامعة عين تموشنت-الجزائر
https://fikercenter.com

اضف تعليق