بيتر فان بورين

 

يبدو أن الكلمات تحمل دلالات مختلفة في الشرق الأوسط. فكلمة "تدريب" تعبير جديد للتصعيد واسم "العراق" يقترب أكثر وأكثر من كلمة فيتنام عند العرب.

لكن تعبيري "منحدر زلق" و"مستنقع" ما زالا يحملان نفس المعنى الذي يحملانه دائما.

في 2011 أغلق الرئيس باراك أوباما صفحة حرب أمريكا التي دارت على مدى ثماني سنوات في العراق موفيا بوعد ردده خلال حملته الانتخابية وساعده على دخول البيت الأبيض. فقد فك الاشتباك وأعاد النشر ولملم الأشياء ثم رحل.

ثم عادت أمريكا. ففي أغسطس آب 2014 ترجم أوباما نداء عاطفيا بإنقاذ اليزيديين من براثن الدولة الإسلامية إلى حملة قصف. وانفتح صنبور ضخم وتدفقت الأسلحة على المنطقة. وزاد عدد الجنود الأمريكيين إلى 3100 جندي انضم إليهم بهدوء قرابة 6300 متعاقد مدني. وكانت المهمة المعلنة هي التدريب - أو تأهيل الجيش العراقي.

وبعد تقهقر شائن آخر للجيش العراقي.. هذه المرة في الرمادي.. أعلنت إدارة أوباما الأسبوع الماضي عن تغيير: سترسل أمريكا قوات جديدة قوامها 450 جنديا لإرساء قاعدة جديدة في منطقة التقدم بمحافظة الأنبار.

من الواضح أن الولايات المتحدة لم تعد تعتقد أن الجيش العراقي موجود. فالمتبقي منه عبارة في معظمه عن أداة توزيع صحيحة سياسيا للسلاح الأمريكي وقصة خيالية من أجل الإعلام. وستستعيض أمريكا عن ذلك بالعمل مباشرة مع ثلاث ميليشيات طائفية في حالتها المنفصلة الفعلية (القواعد الحالية في أرخبيل نقاط الوجود الأمريكية بالعراق تشمل قاعدة في الأنبار السنية وأخرى في الأراضي الكردية وثلاثا في مناطق يسيطر عليها الشيعة). ويتعلق الأمل بأن تحول الميليشيات تركيزها المنصب على بعضها البعض إلى الدولة الإسلامية. وهذا بالطبع مستحيل.. فالكل في العراق- فيما عدا الأمريكيين- يعرف أن الدولة الإسلامية عرض من أعراض حرب أهلية أوسع وليست تهديدا قائما بمفرده يخشى منه على أرض أحد.

ومما يحمل دلالات أيضا أن الولايات المتحدة ستتحايل على اعتراضات بغداد على تسليح العشائر السنية وتدريبها. ولم ترسل بغداد أي مجندين مستجدين لمنشأة التدريب الأمريكية في عين الأسد -وهي منطقة سنية- منذ حوالي ستة أسابيع وستستعيض الولايات عن ذلك بالتعامل المباشر مع مجندين سنة في التقدم. وتقضي أيضا خطة أوباما الجديدة بجلب السلاح الأمريكي للسنة مباشرة في القاعدة الجديدة في تخط لسيطرة بغداد.

ومن المرجح أن تكون هذه مجرد بداية لعملية الزيادة التي قررها أوباما في القوات الأمريكية. وأوجز الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الأركان العامة المسألة عندما تحدث عن تأسيس ما أطلق عليه "زنبق الماء" - أي نشر قواعد أمريكية في أنحاء البلد. وبالطبع ستحتاج زنابق الماء هذه -كما هو الحال في قاعدة التقدم- لمئات من المستشارين العسكريين لأمريكيين الإضافيين سيكونون أشبه بذباب معرض لخطر الاقتناص بلسان ضفدع الدولة الإسلامية. وأي هجوم على القوات الأمريكية سيستدعي ردا.. في دائرة يمكن أن تجر الولايات المتحدة أكثر إلى صراع مفتوح.

وتعيد الاستراتيجية الجديدة النظر أيضا في دور القوات الأمريكية بالعراق. "انصح وساعد" هو "التدريب" الجديد. وفي حين تحرص واشنطن على القول بأن الأمريكيين لن يشاركوا في القتال ذاته توحي الدلائل بأن النصح والمساعدة سيقتربان بشدة من خط الجبهة.

والخلاصة هي: مزيد من القوات ومزيد من القواعد ومزيد من الأدوار التي تميل للخطوط الأمامية.. كل هذا في أوقات متعارضة مع رغبة حكومة مضيفة يبدو أن صبر الولايات المتحدة عليها بدأ ينفد. وتلوح بارقة النصر على بعد سنوات في نفق طويل.

شهدنا هذا من قبل.. في فيتنام.

تختلف بعض التفاصيل. فالقفزات من القوة الجوية إلى المدربين إلى المستشارين إلى القوات المقاتلة أخذت سنين في حرب فيتنام. أما أوباما فقد وصل لمرحلة المستشارين في شهور قليلة. والإيرانيون الذين يقاتلون في العراق يشاركون الولايات المتحدة هدفا قصير الأجل يتمثل في دفع الدولة الإسلامية للوراء.. لكنهم مثل الروس والصينيين في فيتنام.. لديهم في النهاية أجندة تتعارض مع السياسة الأمريكية.

لكن هناك في الوقت ذاته أوجه شبه صارخة. فكما كان الحال في فيتنام.. لم تلتزم سلسلة من الحكومات المدعومة من الولايات المتحدة في بغداد باتباع أوامر واشنطن وتصرفت بشكل مستقل وسط مناخ مشوب بعدم الكفاءة والفساد. وتم تصوير الحربين بأنهما صراع قوى الخير مع قوى الشر (قتلة أطفال في فيتنام وجهاديون يجزون الأعناق بالسيوف في العراق) وتم الترويج لهما تحت ذرائع تدور حولها الشبهات (التدخل لأغراض إنسانية في العراق والرد على هجوم مزعوم وإن كان مشكوكا فيه على قطع بحرية أمريكية في خليج تونكين في 1964) وفي إطار صراع عالمي كبير (ضد الشيوعية وضد التطرف الإسلامي). ورغم الذرائع المعلنة لا ينضم إلا قلة قليلة من الحلفاء هذا إن انضم أحد فعلا. وفي كلتا الحربين لن يقاتل الجيش الملقب بالجيش الوطني -والذي تلقى تدريبا وإرشادا وإعادة تدريب بتكلفة ضخمة- دفاعا عن بلده. والبلد المضيف يتحمل في النهاية مسؤولية حل مشاكله (التي خلقها الأمريكيون) حتى وإن كانت أمريكا تضطلع بدور أكبر.

في فيتنام حوصر الأمريكيون بين طرفي حرب أهلية. أما العراق فبه على الأقل ثلاثة أطراف لكن أمريكا تجلس في المركز.. يلجأ إليها الجميع ولا يثق بها أحد.

لكن نقطة الخلاف بين العراق وفيتنام حادة كالموسي. فالولايات المتحدة تركت فيتنام في النهاية.. فكت الاشتباك وأعادت الانتشار ولملمت أشياءها ثم رحلت. لكن على النقيض من العراق.. لم تكن الولايات المتحدة بنفس قدر الحماقة الذي يدفعها للعودة.

* وكالة رويترز-كاتب هذا المقال هو بيتر فان بورين الذي عمل بوزارة الخارجية الأمريكية 24 عاما ومؤلف كتاب "نيتنا كانت حسنة: كيف ساعدت في خسارة معركة كسب قلوب وعقول الشعب العراقي؟".

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق