المنافسة على الصدارة العالمية، تمثل أيضا صِداما بين النماذج. يحابي النموذج الصيني الانسجام الاجتماعي الكامن في قلب الكونفوشيوسية، في حين يؤكد النموذج الأميركي ــ والغربي في حقيقة الأمر ــ على أولوية الفرد في تقاليد عصر التنوير. ففي الصين، حاولت السلطات المحلية في مستهل الأمر قمع المعلومات...
بقلم: آنا بالاسيو

مدريد ــ بمزيج من السخرية القاسية اللاذعة والبصيرة اللافتة للنظر، كان موضوع بينالي البندقية في العام الفائت ــ النسخة الثامنة والخمسين من المعرض الفني الذي يقام كل عامين ــ "نتمنى لك أن تعيش أوقاتا مشوقة". كان المقصود من هذه العبارة، التي يُـقال إنها ترجمة للعنة صينية قديمة، تسليط الضوء على تقلقل الحياة وعدم استقرارها في هذا العصر الخطر البعيد عن اليقين. وبينما تخرب جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (COVID-19) العالَم، في غياب القيادة العالمية الجديرة بالثقة، يصبح من المستحيل تجاهل هذا الواقع.

كانت مدينة البندقية تمثل دوما أثرا باقيا يدل على الإبداع البشري. تقع المدينة في واحد من أكثر المواقع غير المحتملة، وقد برزت كمركز للمقايضة والتبادل التجاري، وكانت تدعمها المؤسسات التي استندت إليها حقبة العولمة الأولى. وعلى هذا فقد كانت سلفا للأممية الليبرالية، وتظل تمثل رمزا للعقل والقيم الإنسانية والإنجاز الفني المذهل.

اليوم، تبدو مدينة البندقية، مثلها كمثل معظم مدن أوروبا، خاوية على عروشها. علاوة على ذلك، لم نعد نر القيم والإمكانات التي تمثلها المدينة في أي مكان ــ في القارة أو خارجها. بل يبدو العالم وكأنه أصبح تحت رحمة الولايات المتحدة والصين، اللتين لا تهتمان كما يبدو إلا بالإبقاء على منافسة القوى العظمى الدائرة بينهما بدلا من محاولة إيجاد حل لأزمة فيروس كورونا.

الواقع أن هذه المنافسة على الصدارة العالمية، والتي كانت في تصاعد لسنوات، تمثل أيضا صِداما بين النماذج. يحابي النموذج الصيني الانسجام الاجتماعي الكامن في قلب الكونفوشيوسية، في حين يؤكد النموذج الأميركي ــ والغربي في حقيقة الأمر ــ على أولوية الفرد في تقاليد عصر التنوير.

أبرزت الاستجابة لأزمة مرض فيروس كورونا 2019 هذا الاختلاف بوضوح شديد. ففي الصين، حاولت السلطات المحلية في مستهل الأمر قمع المعلومات حول الفيروس، بغرض حماية سمعة الحزب الشيوعي الصيني. وعندما تبين عدم إمكانية الاستمرار على هذا الموقف، نفذت الحكومة عمليات إغلاق صارمة. ومنذ ذلك الحين كانت تدفع في اتجاه سرد مفاده أن هذه التدابير نجحت (على الرغم من البيانات المشكوك في صحتها) في كبح انتشار الفيروس في الصين وأنها ضرورية لأي استجابة فعّـالة في أي مكان.

في الولايات المتحدة، على النقيض من ذلك، اتسمت الأزمة بالتوتر بين الحقوق الفردية في "الحياة، والحرية، والسعي وراء السعادة" التي أكد عليها إعلان الاستقلال. فالجائحة تهدد الحياة، لكن الاستجابة المطلوبة لحماية الحياة من شأنها أن تقوض الحرية؛ وسوف يتلقى السعي وراء السعادة ضربة قوية على أية حال. لم يسبق لأي أزمة في الذاكرة الحديثة أن فرضت مثل هذا التحدي الشامل لركائز الليبرالية الغربية.

بطبيعة الحال، لم يخل التاريخ من تهديدات للحياة. كان شبح المواجهة النووية خلال الحرب الباردة يعني ضمنا إمكانية وقوع عدد من الضحايا يفوق بأشواط أسوأ التكهنات لجائحة مرض فيروس كورونا 2019. لكن الخطر كان نظريا إلى حد كبير. وقد أثبت منطق الدمار المؤكد المتبادل ــ إذا شن أي من الجانبين هجوما نوويا فسوف يكون مصير الجانبين الفَـناء ــ كونه رادعا قويا.

في حالة جائحة فيروس كورونا، على النقيض من ذلك، كان الخطر ملموسا ومحددا، إذ يصاب الناس بعدوى الفيروس ويموتون وحيدين، بعد أن يضطروا إلى توديع أحبابهم عبر مكالمات الفيديو. علاوة على هذا، لا يوجد علاج، ناهيك عن اللقاح، وهو فيروس شديد العدوى إلى الحد الذي جعل الأنظمة الصحية في ارتباك شديد. وعمل هذا على توليد شعور فوري بإلحاح التهديد والعجز على نحو يجعل الحرب الباردة تتضاءل بجانبه.

كما لجأت الديمقراطيات الغربية إلى الحد من الحريات خلال أزمات سابقة. ففي أعقاب الهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، قضى قانون الوطنية الأميركي بتوسيع صلاحيات المراقبة والتحقيق في إنفاذ القانون إلى حد كبير. كما أدى العنف الإرهابي في أوروبا في وقت لاحق إلى تطورات مماثلة.

ولكن مرة أخرى، نجد أن التهديد الذي تفرضه جائحة مرض فيروس كورونا 2019 داهم وملموس بشكل أعظم كثيرا من أي تهديد سابق. فالتنصت خِلسة ليس كمثل تقييد حرية الحركة على الإطلاق. حتى الآن، كانت عمليات الإغلاق، والحجر الصحي، والضوابط الحدودية مقبولة على نطاق واسع باعتبارها ضرورة، ولكن كلما طال أمدها، كلما ازداد تآكل الأسس التي تقوم عليها المجتمعات الحرة الليبرالية.

لقد أصبحت فكرة توماس جيفرسون الجذابة، وإن كانت غير متبلورة، عن السعي وراء السعادة، عُرضة للخطر بشكل خاص. ففي العقود الأخيرة، مع استيلاء الرأسمالية الجامحة على الوعي العام، أصبحت السعادة المعادل للأمن الاقتصادي والازدهار. وهو مقياس ضحل، لكن كيفية قياس الرضا بقيمته الإجمالية اليوم ستحدد الاستجابة للأزمة.

تدفع هذه الاستجابة الاقتصادات إلى التوقف الكامل. في الولايات المتحدة، تقدم 6.6 مليون شخص بطلبات للحصول على إعانات البطالة الأسبوع المنصرم، بعد تحطيم الرقم القياسي الذي ظل قائما لفترة طويلة بنحو 695 ألف طلب، والذي جرى تسجيله في عام 1982، عندما تقدم 3.3 مليون شخص بطلبات في الأسبوع السابق. كما أظهرت عواقب الأزمة المالية في عام 2008 في أوروبا، فقد تكون البطالة الجماعية ونداءات شد الأحزمة على البطون مدمرة للغاية، لأنها تغذي حالة انعدام الثقة في المؤسسات القائمة.

إلى جانب تهديد الحياة والقيود المفروضة على الحرية، من المرجح أن تتسبب الأزمة الاقتصادية المقبلة في تعميق الشكوك حول الليبرالية الغربية وإضعاف موقفها في المنافسة العالمية الجارية الآن على الأفكار. من الضرورة بمكان إذن أن لا يكتفي قادة الغرب بالحد من انتشار مرض فيروس كورونا 2019، بل يتعين عليهم أن يعملوا أيضا على تعزيز التماسك الاجتماعي، وابتكار مسار جدير بالثقة للعودة إلى النمو والحالة الطبيعية، وإعادة تنشيط القيم والمؤسسات التي تقوم عليها المجتمعات الديمقراطية الليبرالية. لإنجاح هذه المهمة، ينبغي لهم أيضا أن يعملوا على إحياء روح المواطنة التي تنطوي على واجبات وحقوق. وينبغي لمشاهد البطولة من قِـبَـل العاملين في مهنة الطب، وقطاع الخدمات، وأفراد المجتمع، التي أنتجتها الجائحة، أن تساعد في تعزيز هذا الهدف.

حتى لو تمكن قادة الغرب من الحد من تداعيات تفشي مرض فيروس كورونا 2019 في الأمد القريب، فإن هذا لن يعني الكثير دون بذل جهود تستند إلى نظرة إلى المستقبل لتعزيز الأنظمة الديمقراطية الليبرالية من الداخل. فمثل هذا الفشل من شأنه أن يجعل الغرب ضعيفا وعرضة للمخاطر التي تفرضها الصين، التي تقدم نموذجها (على نحو دقيق أو غير ذلك) باعتباره الأفضل على الإطلاق في مواجهة التحديات القائمة في هذه الأوقات المثيرة المشوقة.

* آنا بالاسيو، وزيرة خارجية إسبانيا السابقة ونائبة رئيس سابق ومستشار عام لمجموعة البنك الدولي. وهي محاضر زائر في جامعة جورج تاون
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق