يغيب عن هذه المجموعة من المشتبه بهم المعتادين السيناريو الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق: الاضطرابات الشعبية. يزعم المتشككون أن الاحتجاج الواسع النطاق ضد النظام وسياساته غير مرجح. ذلك أن المكتب السياسي يواصل تقديم التحسينات في مستويات المعيشة ــ وأجهزته الأمنية مهولة. ولكن لنتأمل الأحداث في أماكن أخرى....
بقلم: باري إيتشينغرين

زيوريخ ــ على مدار أكثر من عقد من الزمن، كانت الصين تمثل ربع النمو الاقتصادي العالمي أو أكثر. ومع إبحار اقتصاد الصين حاليا عبر بقعة وعرة، فإن السؤال هو ما إذا كان هذا الأداء المذهل ليستمر.

الواقع أن المروجين لنُذُر السوء الذين يشيرون إلى احتمال تباطؤ النمو الصيني بانتظام يستحضرون شبح فخ الدخل المتوسط. فالآن بعد أن لم تعد الصين فقيرة، يحذرون من أن معدلات النمو ستنخفض، تماما كما فعلوا في كل البلدان باستثناء قِلة قليلة من تلك التي وصلت إلى ذات مستوى الدخل. وهم يقولون إن النمو يصبح أصعب عندما يكون من غير الممكن أن يعتمد على تكديس رأس المال بالقوة الغاشمة. فالآن يجب أن يستند النمو إلى الإبداع، وهو أمر يصعب تحقيقه في اقتصاد لا يزال موجها بشكل مركزي.

ثم هناك عبء الدين الثقيل الذي يثقل كاهل قطاع الشركات. إن انخفاض الأرباح قد يجعل الكثير من هذه الديون غير مستدام. وسواء كانت النتيجة التخلف المتوالي عن السداد أو موجة من عمليات الإنقاذ التي تعمل على تحويل العبء إلى كاهل الحكومة، فإن النتيجة كفيلة بإضعاف الموارد المالية للبلاد واستنزاف ثقة المستثمرين.

علاوة على ذلك، هناك الشيخوخة السكانية، التي تتطلب تحويل الاستثمار من القدرة الصناعية إلى الخدمات الاجتماعية. وهذا يعني ضمنا تباطؤ النمو بقدر ما تتخلف الإنتاجية بشكل مزمن في قطاع الخدمات.

أخيرا، هناك احتمال اندلاع حرب تجارية شاملة مع الولايات المتحدة. فنحن نسمع حاليا الكثير من الأحاديث حول اتفاق "المرحلة الأولى" بين الولايات المتحدة والصين. ولكن إن كنا نعلم أي شيء عن الرئيس الأميركي دونالد ترمب فهو أنه "رجل التعريفة". والآن في مواجهة التحقيق المتزايد الحدة في ما يتصل بتوجيه الاتهام إليه وعزله، فسوف يسعى ترمب إلى صرف الانتباه. ومثله كمثل أي حاكم مستبد يواجه المقاومة في الداخل، فسوف يسعى إلى حشد الدعم من خلال التركيز على خصم أجنبي. وهذا يعني أن اتفاق "المرحلة الأولى" سيكون مؤقتا في أفضل الأحوال.

ولكن يغيب عن هذه المجموعة من المشتبه بهم المعتادين السيناريو الأكثر إثارة للقلق على الإطلاق: الاضطرابات الشعبية. يزعم المتشككون أن الاحتجاج الواسع النطاق ضد النظام وسياساته غير مرجح. ذلك أن المكتب السياسي يواصل تقديم التحسينات في مستويات المعيشة ــ وأجهزته الأمنية مهولة.

ولكن لنتأمل الأحداث في أماكن أخرى. في فرنسا، كانت حركة السترات الصفراء تنظم الاحتجاجات ضد ارتفاع أسعار الوقود في المقام الأول، ولكن بشكل أوسع نطاقا ضد الافتقار الملحوظ إلى الفرص الاقتصادية. وفي الإكوادور، تعكس الاحتجاجات المناهضة للتقشف، بشكل أكثر جوهرية، معارضة حكومة الرئيس لينين مورينو، التي ينتقدها الطلاب والنقابات والسكان الأصليين بسبب انفصالها عن جماهير الناس. واندلعت الاحتجاجات في شيلي بسبب زيادة أسعار تذاكر المترو لكنها ركزت أيضا على التفاوت بين الناس، ونظام التعليم، ومشاكل التقاعد. والأقرب إلى الوطن بالطبع هونج كونج، حيث تسبب التدخل السياسي من جانب البر الرئيسي للصين في تغذية الاحتجاجات التي تستهدف الآن تكاليف السكن الباهظة في المدينة.

تشكل هذه الحركات ثورات من التوقعات المتصاعدة. إنها احتجاجات ليست راجعة إلى تدهور نوعية الحياة بقدر ما تعود إلى فشل الحكومة في تسليم كل ما وعدت به.

ومثل هذه الاحتجاجات عفوية، وتشعل شرارتها أمور صغيرة، مثل زيادة أسعار الوقود أو تذاكر المترو. ولكن لأن هذه الأمور الصغيرة تشير إلى تجاهل الحكومة للهموم الشعبية أو حتى جهلها بها، فإنها تتحول إلى حركات أضخم. وهذه الحركات بلا قيادة، وتعتمد على وسائط التواصل الاجتماعي، الأمر الذي يجعل من الصعب قطع رؤوسها، لكن هذا يدفعها أيضا إلى التطور بطرق لا يمكن التنبؤ بها، بل وحتى بطرق عنيفة.

يتابع الصينيون على البر الرئيسي التطورات في هونج كونج عن كثب، على الأقل بالقدر الذي تسمح به وسائل الإعلام الحكومية والرقابة على الإنترنت. وفي حين يرى بعض المراقبين الأحداث هناك على أنها إهانة لكبريائهم الوطنية، يبدو أن آخرين يستخلصون استنتاجات مختلفة. تُظهِر دراسة حديثة أن أولئك المعرضين للأحداث في هونج كونج نتيجة لزيارتها أثناء المظاهرات هم الأكثر ميلا إلى الانخراط في مناقشات عبر الإنترنت حول قضايا مثيرة للجدال سياسيا.

ليس الأمر كما لو أن الشعب الصيني تنقصه المظالم. فهم يشكون من التفاوت الإقليمي، وخاصة إذا كانوا يعيشون في الغرب الفقير. فإذا زرعوا أرضا متاخمة لمناطق التنمية الحضرية، فإنهم يقلقون بشأن حقوق الملكية. ومن المفهوم أن يساور أعضاء "قبيلة النمل" ــ وهم خريجو الجامعات الجدد الذين لا يستطيعون العثور على وظائف تناسب مؤهلاتهم الأكاديمية ويضطرون إلى العيش في أكواخ حقيرة في تجاويف تحت الأرض ــ القلق الشديد بشأن الحراك الاجتماعي.

فضلا عن ذلك، هناك مخاوف أوسع بشأن أسعار المساكن، وخاصة في مدن الصين من الدرجة الأولى. ترتفع نسبة سعر المسكن إلى الدخل في هونج كونج بشكل غير عادي إلى 49، لكن الصين، بنسبة 30، لا تتأخر عنها كثيرا: فهي تحتل المرتبة الخامسة بين 95 دولة تتوفر بياناتها.

وتؤرق الناس على نحو مماثل مخاوف أخرى بشأن جودة الرعاية الصحية وغير ذلك من الخدمات الاجتماعية. في حين تتقدم الصين سريعا على جداول نصيب الفرد في الدخل على مستوى العالم، فإن ترتيبها في ما يتصل بمعدل الوفيات بين الرُضَّع يظل منخفضا بشكل صادم (122).

إذا اندلعت الاضطرابات في مرحلة ما في المستقبل، فسوف يسارع المستثمرون الأجانب إلى الانسحاب. ومع فرار رؤوس الأموال إلى ملاذات أكثر أمانا، فسوف تضطر السلطات إلى إحكام ضوابط رأس المال. كما ستضطر إلى وضع خطط الانفتاح المالي وتدويل الرنمينبي على الرف مؤقتا.

الأمر الأكثر أهمية من كل هذا هو أن الاضطرابات من شأنها أن تدفع نمو الناتج المحلي الإجمالي إلى الانخفاض بشدة. والاقتصاد الضعيف من شأنه أن يزيد من التوقعات المحبطة ــ فيثير هذا المزيد من التساؤلات حول الدعم الشعبي للنظام.

* باري إيتشينغرين، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة كاليفورنيا في بيركلي ، وكبير مستشاري السياسة السابقين في صندوق النقد الدولي. وأحدث مؤلفاته كتاب بعنوان "الإغراء الشعبوي: المظالم الاقتصادية ورد الفعل السياسي في العصر الحديث"
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق